كل أولئك الذين يهبّون بين فينة وأخرى، مُختلقين قضايا تشهيرية ضد زملاء لهم، للعبور بها محمولين على أكتاف العواطف القومية "الجياشة" الى الرأي العام العربي، يستطيعون أن يركنوا قليلاً الى بعض السكينة، فإن في ذلك خيراً لهم ولنا كثيراً. لا مناص من طرح التساؤلات حول الدوافع التي تقف من وراء هذه القضايا. لماذا يختلق هؤلاء كل هذه الحملات الاعلامية حول قضية هي ليست ملحة أصلاً، ثم يقومون بإلقاء حجر في البركة الراكدة، لتبدأ بالتشكل فوراً دوائر التعارك والتشهير، ثم التخوين والاتهام بالتطبيع وما الى ذلك من مصطلحات القاموس "الثقافي" العربي الجديد؟ أما آخر هذه القضايا المثارة في الساحة الثقافية العربية فهي قضية الترجمات من الأدب العربي الى اللغة العبرية. لقد برزت هذه القضية على السطح إثر توجه دار نشر اسرائيلية جديدة الى بعض الكتّاب العرب طالبة منهم ترجمة بعض أعمالهم الى اللغة العبرية. وهكذا، سرعان ما ثارت ثائرة البعض، وكالعادة أخذت تظهر التعقيبات والمناكفات على صفحات الجرائد، ووصلت الى كيل ذات الاتهامات التي تعودنا عليها في السنوات الأخيرة. لكن أولا، وقبل التطرق الى تلك الدوافع وحتى لا يبقى الجميع في ما يشبه الغيبوبة والظلام جاهلين ما يجري على أرض الواقع، لا بد من الاشارة الى انه، وقبل شهر تقريباً، نشرت صحيفة "هآرتس" العبرية تقريراً واسعاً عن جانب مهم من هذه القضية. وخلافاً لما قد يظن البعض، فإن الموضوع يتعلق أصلاً بأزمة الترجمة من العربية الى العبرية. الأزمة التي يتحدث عنها العاملون في هذا المجال في الأوساط العبرية، كما يفهم من تقرير "هآرتس"، هي أن دور النشر العبرية قليلاً ما تسارع الى نشر ترجمات من الأدب العربي، وسبب ذلك في الأساس أن دور النشر العبرية، كغيرها من دور النشر في العالم، تنظر الى القضية من منظار اقتصادي بحت، أي انها تنظر الى المسألة تجارياً عبر منظار الربح والخسارة. ولما كانت الترجمات من اللغة العربية الى اللغة العبرية لا تحظى على العموم بتهافت القراء عليها، فإن دور النشر العبرية قليلاً ما تجرؤ على ترجمة ونشر مؤلفات لكتّاب عرب، مهما كان هؤلاء ذائعي الصيت في وسائل الاعلام العربية. انها لا تقدم على خوض هذه التجربة لأنها تخشى ان تذهب الأموال التي تُستثمر في طباعة ونشر هذه الترجمات أدراج الرياح. إن خير مثال على ذلك يتمثل في ما ورد في التقرير الآنف الذكر على لسان المسؤولة في دار النشر "أندلس"، وهي الدار التي وضعت نصب عينيها القيام بترجمة ونشر أعمال لكتّاب عرب. وبالفعل فقد طبعت بعض المؤلفات ومن بينها ترجمة مجموعة شعرية لمحمود درويش. يتضح من التقرير المنشور في "هآرتس" ان دار النشر هذه تبحث الآن عن مؤسسات ممولة لاقتناء نسخ من مطبوعاتها لتوزيعها على مكتبات عامة وما الى ذلك. ما معنى هذا الكلام؟ إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان عدد نسخ الطبعة الواحدة من الكتب المترجمة هذه هو ألف نسخة، والآن وبعد مرور سنة من الاصدار تبحث دار النشر عمن يمول اقتناء تلك الترجمات وتوزيعها، فمعنى ذلك ان القراء لم يتهافتوا على اقتنائها، وهذه هي في الواقع الأزمة الحقيقية التي تمتّ الى الموضع بصلة. كما تجدر الاشارة في هذا السياق الى انه لا توجد أزمة نشر كهذه في ما يتعلق بترجمات الى اللغة العبرية من لغات أخرى غير العربية. إذن، والحال هذه، فإن الأزمة هي جزء من أزمة أكبر قائمة في المجتمع الاسرائيلي. فعلى مر سنوات كثيرة تحاول وزارات التربية الاسرائيلية ادخال مادة اللغة العربية وآدابها وتدريسها ضمن المناهج في المدارس العبرية، غير أن هذه المحاولات لم تفلح حتى الآن في توسيع رقعة دارسي اللغة والأدب العربيين. هنالك أسباب كثيرة لهذا الفشل، ومن بين تلك الأسباب صعوبة تدريس العربية لوجود فارق كبير بين اللغة المحكية والمكتوبة، اذ ان دارس الفصحى لا يستطيع الحديث في الشارع، ودارس العامية لا يستطيع القراءة. اضافة الى ذلك، لا بد من الاشارة الى مشاعر العداء الشائعة أصلاً في المجتمع الاسرائيلي ضد كل ما تمثله اللغة العربية، وانتهاء بعدم الحاجة الى اللغة العربية في العالم المعاصر، اذ ان التوجهات على العموم هي توجهات نحو الغرب المتطور وليس نحو الشرق المتضور جوعاً وتخلفاً. اذن، والحال كذلك، ما الذي يجري على الساحة الثقافية العربية، ولماذا يتعب الكتّاب العرب انفسهم في قضية ليست موضوعة على الاجندة الثقافية الاسرائيلية؟ ف ي كثير من الاحيان يساوني شك في ان الدوافع من وراء إثارة هذه القضايا هي أبعد ما تكون عن السياسة وعن المواقف السياسية المبدئىة. ففي أفضل الاحوال أظن ان تلك القضايا تثار من قبل أولئك الذين لا يتوجه اليهم احد طالباً ترجمة مؤلفاتهم، وما اللغة العبرية هنا سوى أداة فحسب. فهي أسهل وأسلك الطرق الى إثارة العواطف في الأوساط العربية. غير ان الحال، وأخشى ان تكون هذه الحقيقة، قد تكون اسوأ من ذلك بكثير. فقد تكون الدوافع التي تختبئ وراء هذه المعمعة الاعلامية هي دوافع، في الواقع، عنصرية ليس الا. فهل تحول القرف من اسرائيل وممارساتها - وهو على كل حال قرف مشروع، بل مطلوب، وله ما يبرره - الى قرف من اللغة العبرية وكل ما تحمله وتمثله هذه اللغة السامية من أحمال ثقافية حضارية؟ هل نسي هؤلاء ان اللغة العبرية هي جزء لا يتجزأ من لغات حضارات هذا الشرق الغبي؟ هل يعرفون مثلاً ما هو أصل مفردات مثل: "جهنم" و"سكينة" التي وردت في القرآن؟ غير ان أسخف ما سمعته وقرأته من الحجج التي يطلقها هؤلاء هي ان اللغة العبرية هي لغة ميتة أصلاً، وفي نظرهم، ما جدوى الترجمة الى لغة ميتة؟ انه أسخف وأتفه ما سمعت من الححج المطروحة. أولاً، دعونا نواجه الحقيقة كما هي من دون مواربة. لقد امتلأت الصحافة العربية في السنوات الأخيرة بالتقارير عن أزمة الكتاب والقراءة في العالم العربي، وحري بنا ان نذكر انه مقارنة بما تنشره الصحافة العربية بنفسها عما يجري في العالم العربي، فإن الوضع في اسرائيل، أي في اللغة العبرية، هو أفضل بكثير مما هو عليه في العالم العربي بأسره. ان ما يطبع باللغة العبرية ويوزع يضاهي ما يطبع في العالم العربي من مشرقه الى مغربه، وإزاء حقيقة كهذه أي لغة هي ميتة، إذن؟ وما معنى هذا المصطلح أصلاً في عرفهم؟ هل حياة اللغة تقاس بعدد متكلميها أم بعدد ما تبدعه علماً وأدباً وفكراً، وبعدد قراء الكتاب في هذه اللغة؟ إذا كان الحديث عن عدد المتكلمين فلا مجال للمقارنة بين عدد متكلمي اللهجات العربية، وهي لهجات لا تحصى، وبين عدد متكلمي العبرية. لكن إذا انتقلنا الى القضية الجوهرية وهي الابداعات بجميع فروعها وعدد القراء، فما من شك في ان عدد قراء العبرية هم أكثر بكثير من قراء العربية. أحياناً، عندما يصدر كتاب بالعبرية، وليس مهماً إن كان مؤلفه كاتباً ناشئاً أم متمرساً، ويحظى باهتمام الجمهور، فقد يصل التوزيع الى عشرات آلاف النسخ. وإزاء حقيقة كهذه فإن السؤال الذي يتوجب طرحه الآن هو: هل هنالك كاتب عربي يوزع كتابه بهذاالعدد من النسخ؟ بالطبع لا، بل لا يصل التوزيع الى ربع ولا خمس أو سدس هذا العدد. أضف الى ذلك حقيقة أخرى: اذا ترجم الكتاب العربي الى العبرية وتم توزيعه بألف نسخة بعد عناء، فهذا يوازي ما يوزعه نفس الكاتب والكتاب في العالم العربي كله بلغته العربية الأم. أليس كذلك؟ إذن، والحال هذه، يجب أن تكون الدعوى، أنْ استيقظوا من السبات، و... كفّوا عن المسبّات.