التحرك الذي بدأ، في لبنان، ببيان للمطارنة الموارنة، أواخر ايلول سبتمبر الماضي، دخل في منعطف جديد، اول من امس، ببيان لقاء قرنة شهوان. الفارق بين البيانين شاسع مبنى ومعنى. فالأول مكتوب بلغة تريد افتعال مشكلة وترسم صورة قاتمة السواد للعلاقات اللبنانية - السورية على المستويات كلها. تحمِّلها، في شكل كامل، تزوير الانتخابات، والأزمة الاقتصادية، والانتقاص من السيادة اللبنانية، وتستخدم مفردات يراد لها ان تكون تعبوية لبعضهم ولو انها استفزازية لآخرين. البيان الثاني مختلف. ينقسم الى ثلاثة محاور: اسباب الخوف على المصير الوطني، الاعلان عن مسلّمات تشكل قاعدة للحوار، تعيين أهداف يتوجب على هذا الحوار ان يقود اليها. وتراعي هذه المحاور حساسيات قوى لبنانية تخالف المجتمعين آراءهم، وتأخذ في الاعتبار مستجدات الوضع الاقليمي ووصول آرييل شارون الى السلطة في اسرائىل، وتبدي اهتماماً بالقضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني، وتضع المطالبات حيال سورية في اطار لا يجعل "السيادة" نقيضاً للتعاون والتضامن، ولا تتردد دون التبرع بدور عربي للبنان يتضمن "نموذج المقاومة" والمساهمة في تجديد المعنى الحضاري للعروبة. وفي حين أمكن، بسهولة، استنفار جبهة واسعة ضد البيان الأول، بدا واضحاً ان الثاني احدث "صدمة ايجابية" تستوجب التفكير وتشي بنقل السجال من التعبئة الغرائزية المذهبية، المشفوعة احياناً بتظاهرات السواطير، الى حيز سياسي يرسم حدود الاختلاف والاتفاق ويحدِث انفراجاً في جو شديد الاحتقان. كان يمكن توفير هذه الشهور الماضية لو ان الطرح الاول كان عند مستوى الثاني. غير انه كان ضرورياً، ربما، ان يشعر مؤيدو "بيان المطارنة" بعزلتهم العربية والدولية، وأن يتحسسوا ضغط التحولات الاقليمية، وان يضموا عقلاء الى صفوفهم من اجل اكتشاف بديهيات تتعلق بكيفية ادارة حوار، او اطلاقه، في لبنان. وما لا شك فيه ان رد الفعل اللبناني، الرسمي والشعبي، اوجد مقاومة ارغمت هذه الجهة على التراجع عن نطق متطرف باسم الجميع ومصادرة رأيهم الى نطق متواضع باسم نفسها والدعوة، بناء على ذلك، الى حوار. يصعب "تأصيل" كلام قرنة شهوان في مواقف عدد من موقعي البيان ممارساتهم. لذا فإنه يبدو، احياناً، وكأن لا تاريخ له. لكن السؤال الجدي هو عما اذا سيكون له مستقبل، خصوصاً ان هناك من تحفظ عنه وسيحاول تقديم قراءة له تلتقط، فقط، جانب التواصل مع البيان الماضي لا جانب التطوير او القطع. يشير بيان "من أجل حوار وطني" الى استعادة جزء من النخبة المسيحية حيويتها، ويشكل، بهذا المعنى، اول ترجمة لآثار "اتفاق الطائف" وللإرشاد الرسولي في آن. ولعله يستمد قيمة اضافية من انه مطروح كوجهة نظر، يتوجب عليها ان تقبل تعديلات كثيرة قبل ان تتحول الى محط اجماع او توافق. لكن هذا الطموح غير قابل للتحقيق إذا لم تبادر الأطراف الأخرى إلى بلورة ردود اكثر تعقيداً من التبسيط الذي يتم اللجوء اليه في لحظات الاستنفار. وهذه الأطراف الأخرى هي القوى السياسية والشعبية المخالفة لهذا الخط، لكنها، ايضاً، المؤسسات الرسمية اللبنانية والى حد بعيد المؤسسات الرسمية السورية. يشبه بيان قرنة شهوان وثيقة "التوافقات الوطنية" في سورية، لجهة تراجعه الى البحث عن اجماعات واسعة تشكل جذعاً مشتركاً لما لا يستحسن الاختلاف عليه، من دون ان يلغي ذلك وجود تباينات هي في صلب الحياة الديموقراطية. انه، بمعنى ما، طريقة في اجراء نقد ذاتي.