اعداد: جوزف فاخوري رسوم: بلال فتح الله عاش في مدينة رجلان تعيسان، كانا اذا عملا ليحسنا مستوى معيشتهما تسوء احوالهما وتتردى، فضاقت بهما الحياة. واقترح احدهما على رفيقه ان يغادرا المدينة الى بلد آخر للبحث عن رزقهما فوافق الثاني بلا تردد. واستعرض الاثنان البلدان التي يمكنهما ان يذهبا اليها. قال الأول: نذهب الى "خزنة" فواليها قد اشتهر بالعطف والحنان على الناس وعلى هذا الأساس انطلق الرجلان التعيسان الى "خزنة"... ولكنهما في الطريق، التقيا برجل ثالث لا تفارق الابتسامة وجهه... بادرهما بالتحية ثم سألهما الى أين يذهبان، وما الغاية من رحلتهما. قال الأول: انها قصة طويلة تبدأ بنحسٍ رافقنا منذ ان عرفنا النور وما زال يواكبنا حتى يومنا هذا. وقد سمعنا ان والي "خزنة" محسن يساعد المحتاجين، فجئنا اليه لكي يساعدنا. قال الرجل لهما: ليوفقكما الله في مسعاكما. فالتفت اليه أحد الرجلين وقال: سألتنا فأخبرناك، أما الآن فقل لنا انت ما هدف زيارتك، ومن أنت؟ أجاب: جئت أطلب رزقي بطرق شريفة، فأنا صاحب مهنة، ومهنتي الحياكة الا ان اعمالي قد تأخرت في بلدي فجئت أرى ما يمكن أن أفعله هنا. وسألاه: ألن تطلب شيئاً من والي "خزنة"؟ قال: أنا لا أطلب شيئاً من أحد، ثم ان هناك آلاف الناس يحيطون بالوالي، وكل واحد منهم ينتظر ان يمده بالمال، أنا أبحث عن طريقة أبدأ فيها مهنتي لأحقق بعض المال لعائلتي. تابع الثلاثة طريقهم الى المدينة وحين وصلوا الى "خزنة" بحثوا عن مكان يبيتون فيه فلم يجدوا غير بناء مهدم، فآووا اليه. واستمر الثلاثة يلوذون بهذا المأوى ريثما يجدون حلاً لمصاعبهم. في احدى الليالي وفيما كان الرجال الثلاثة جالسين معاً في البيشت المهدم يتحدثون عما واجهوه في نهارهم، خرج والي المدينة مع مرافقين له متنكرين لكي لا يعرفهم الناس، فوصلوا الى حيث جلس هؤلاء الرجال الثلاثة في البناء المهدم. سألهم الوالي المتنكر عن سبب مجيئهم الى المدينة، فقال أحدهم: لقد واكبنا الفقر وسوء الحظ وقادنا القدر الى هنا، ونحن نأمل ان ترتفع عنا هذه المحنة. وسأل الوالي: وما هي رغبتكما؟ وماذا تريدان؟ قال أحد الصديقين التعيسين: رغباتنا ليست كثيرة، ولكن ما الفائدة من ذكرها؟ هل يمكن لأحد ان يساعدنا عليها؟ فعلق الوالي المتنكر قائلاً: من واجب الإنسان ان يساعد أخاه الإنسان، اذكرا لي ما تريدان فربما كان بوسعي ان أخدمكما أو اساعدكما... وهنا بدأ الأول يحكي قصته: كنت غنياً فأدار لي الحظ ظهره، وأصبحت فقيراً... تركت بلدي ورحت أبحث عن رزقي، لو كان معي عشرة آلاف دينار لرفعت رأسي عالياً وعدت الى بلدي مرتاح البال. وأبدى الرجل الثاني رغبته فكانت متقاربة لرغبة رفيقه، فهو الآخر يريد عشرة آلاف دينار لأن زوجته ماتت وتركت له أطفالاً يتامى انه يريد ان يتزوج ليُحضر لهم اماً ترعاهم. وحين انتهى الرجلان من عرض مشاكلهما قالا: وهذه هي مطالبنا ورغباتنا فإن تحققت عدنا الى بلدنا شاكرين وعادت الينا سعادتنا واننا لنأمل ان نتمكن من مقابلة مولانا الوالي لنطرح عليه تمنياتنا هذه. التفت الوالي المتنكر الى الرجل الثالث الذي لم تُفارق الابتسامة وجهه وقال: وأنت ما هي رغبتك؟ أجاب: أنا لا اتكل على أحد الا على الله... انا لا اريد ذهباً ولا شيئاً غير رحمة ربي... ان كل رغباتنا معروفة لدى الله سبحانه وتعالى وهو يمنحنا ما نستحق. وكل ما أسألك اياه يا سيدي هو ان اعطاك الله ما تريد... وان حقق لك رغباتك... صل له من أجلي ليبقيني في طريق الصواب حتى لا أقوم بأي عمل ضد ارادة الله جل جلاله. أجاب الوالي المتنكر: وماذا تطلب من الوالي؟ فكر الرجل قليلاً، وقال: الوالي؟ انا لا أطلب شيئاً، كل ما أطلبه هو ان يهديه الله الى سواء السبيل. سأله الوالي بإلحاحٍ: ألا تحتاج من الوالي شيئاً؟ أجاب الرجل باقتضاب: من يعتمد على الله يا سيدي فإنه لا يحتاج الى أحد. ذهب الوالي مع مرافقيه دون ان يدع الرجال الثلاثة يعرفون من هو... ولكنه خرج يكظم غيظه وهو يفكر في هذا الرجل الذي يعتمد على الله ولا يحتاج الى أحد. قال الوالي في نفسه: أيجرؤ رجلٌ في هذه المدينة ان يقول انه لا يحتاج الى أحدٍ؟... وقرر الوالي ان يلقن هذا الرجل درساً لن ينساه... وفعلاً أوفد في اليوم الثاني رجالاً اقتادوا الثلاثة الى قصره، وحينما شاهدوا الوالي ارتبكوا، إذ اعتقد الرجلان اليائسان ان الوالي قد احضرهما ليقتص منهما... ولكنه طلب من كل واحدٍ من الرجال الثلاثة ان يتقدم منه خطوة ويكرر رغباته كما ذكرها في الليلة السابقة. فأبدى كل من الرجلين اليائسين رغبته، وحين وصل الدور للرجل الثالث الذي لا يتكل الا على الله طلب منه الوالي ان يقول ما يريد، فقال: طلب المساعدة يا مولاي من غير الله صعبٌ ومرير على النفوس الأبية... وما المال إلا وسيلة من وسائل الحياة، بعض الناس يُسيء استعمالها، وبعضهم يحسنه... أما أنا فلا أريد غير نعمة الله وقد أسبغها عليّ وأعطاني ما أريد من قدرة للسعي من أجل كسب الرزق، فأنا لست محتاجاً لأن أطلب المساعدة من أحد غيره عز وجل. استاء الوالي من كلام هذا الرجل العنيد وراح يفكر كيف ان رجلاً كهذا يجرؤ ان يصرح بمثل هذا الكلام أمامه! وقرر في النهاية ان يعمل في الحال، فأعطى الرجل الأول عشرة آلاف دينار... وأعطى الرجل الثاني خمسة آلاف دينار وأمر له بأن يتزوج من سيدة فاضلة ويأخذها معه لتهتم بأولاده... وأمر الرجل الثالث ان يعود خالي الوفاض مع رفيقيه بأسرع وقت. خرج الثلاثة من المدينة معاً... الأول يحمل كيس ذهب بعشرة آلاف دينار وينوء بحمله... والثاني يحمل كيس ذهب بخمسة آلاف دينار والى جانبه تسير عروسه، أما الرجل الثالث المُعتمد على الله فكان يسير بينهم دون ان يحمل شيئاً. تأكد الوالي ان الثلاثة قد رحلوا فأوفد بعض رجاله وقال: ذاك الرجل الثالث قد أهانني وحقرني فسأنتقم منه، احضروه لي حالاً، انه الرجل الذي لا يحمل شيئاً. في هذه الأثناء شعر حامل كيس العشرة آلاف دينار بالتعب من ثقل ما يحمل... فطلب من المعتمد على الله ان يحمل عنه الكيس ليستريح قليلاً. فحمل الرجل الطيب الكيس، في الوقت الذي وصل فيه جند الوالي فاعتقلوا الرجل الذي لا يحمل شيئاً معه، واقتادوه الى الوالي الذي غضب وثار حين رأى انهم أخطأوا في الرجل، فقال لهم: اذهبوا حالاً واتوني بالرجل الذي لا يحمل شيئاً بيديه. في تلك الأثناء، كان الرجل حامل كيس الخمسة آلاف دينار قد تعب من حمله، فطلب من الرجل الطيب ان يحمل له كيسه ليرتاح هو قليلاً. وحمل الرجل الكيس بالإضافة الى الكيس الأول دون ان يشكو أو يتذمر... بينما مشى الرجل قرب عروسه لا يحمل شيئاً... وفي تلك اللحظة وصل رجال الوالي والقوا القبض على الرجل الذي لا يحمل شيئاً واقتادوه الى الوالي. ومرة أخرى جن جنون الوالي غيظاً للخطأ فأمر بإحضار الرجل الأخير الذي جاء ليقول: أمر مولاي الوالي... قال الوالي: كيف نجوت مع انني أوفدت من يعتقلك مرتين؟ لست أدري يا مولاي ان كنت قد أوفدت في اعتقالي أم لا، ولكن الذي نجاني هو من اعتمد عليه يا مولاي. ان من يعتمد على الله لا يخسر بل هو الرابح دائماً. عندها سأله الوالي ان يطلب منه رغبتين، فقال: ان اصررت يا مولاي، فإنني أطلب ان يطلق سراح الرجلين... وتعاد المنح التي اعطيتهما اياها. وثانياً: ان يُسمح لي بالبقاء هنا لأُباشر عملي عندكم كحائك... وهنا تكلم الوالي فقال: تحققت رغباتك يا أيها المعتمد على الله، أما أنا فلي عندك رغبتان: الأولى هي ان تنسى كل اساءة اصابتك بسببي، ورغبتي الثانية هي ان تأتي الى قصري كل يوم لنقضي أوقاتنا في التأمل والتعبد. "ادوكارت" الشرق الاوسط