حدثني أبي، عن أبي محمد، عبدالله بن حمدون، قال: قال لي المعتضد، يوماً، وقد قُدّمَ إليه عشاء: لقّمني. قال: وكان الذي قدّم إليه فراريج، ودرّاريج، فلقّمته من صدر فروّج. فقال: لا، لقِّمني من فخذه. فلقّمته لُقمته لُقَماً. ثم قال: هات من الدرّاج، فلقّمته من أفخاذها. فقال: ويلك، هوذا تتنادر عليّ؟ هات من صدورها. فقلت: يا مولاي، ركبتُ القياس، فضحك. فقلت له: إلى كم أُضحكك، ولا تُضحكني؟ قال: شل المطرح، وخذ ما تحته. قال: فشلته، فإذا بدينار واحد. فقلت: آخذ هذا؟ فقال: نعم. فقلت له: بالله، هوذا تنادر أنت الساعة عليّ؟ خليفة يجيز نديمه بدينار واحد؟ فقال: ويلك، لا أجد لك في بيت المال حقاً أكثر من هذا، ولا تسمح نفسي أن أعطيك من مالي شيئاً، ولكن هوذا، أحتال لك بحيلة، تأخذ فيها خمسة آلاف دينار. فقبّلت يده. فقال: إذا كان غداً، وجاء القاسم فهوذا سارّك حين تقع عيني عليه، سراراً طويلاً، ثم ألتفتُ إليه كالمغضب، وانظر أنت إليه من خلال ذلك، كالمخالس لي، نظر المترثّي. فإذا انقطع السرار، فستخرج، ولا تبرح من الدهليز. فإذا خرجت، خاطبك بجميل، وأخذك إلى دعوته، وسألك عن حالك، فأشكُ الفقر والخلّة، وقلّة حظك مني، وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك، واطلب كل ما تقع عينك عليه، فإنه لا يمنعك، حتى تستوفي الخمسة آلاف دينار. فإذا أخذتها فسيسألك عمّا جرى بيننا، فأصدقه، وإيّاك أن تكذبه، وعرفه أن ذلك، حيلة مني عليه، حتى وصل إليك هذا، وحدّثه بالحديث على شرحه، وليكن إخبارك إياه، بعد امتناع شديد، وإحلاف منه بالطلاق والعتاق أن تصدقَهُ، وبعد أن تُخرج من داره، كلّ ما يعطيك إيّاه. فلما كان من غد، حضر القاسم، فحين رآه، بدأ يسارِرُني، وجرت القصة، على ما واضعني عليه، فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني. فقال لي: يا أبا محمد، ما هذا الجفاء؟ لا تجيئني، ولا تزورني، ولا تسألني حاجة، فأقضيها لك، فدعوت له. فقال: ما يقنعني إلا أن تزورني اليوم، وتفرّج. فقلت: أنا خادم الوزير. فأخذني إلى طيّاره، وجعل يسألني عن حالي، وأخباري، فأشكو إليه الخلّة، والإضاقة، والدَّين، وجفاء الخليفة، وإمساك يده، فيتوجّع ويقول: يا هذا، مالي مالك، ولن يضيق عليك، ما اتّسع عليّ (ولا تتجاوزك نعمة تخلّصت إليّ، أو يتخطاك حظ نازل بفنائي)، ولو عرفتني لعاونتك، وأزلت هذا عنك. فشكرته، وبلغنا إلى داره، فصعد، ولم ينظر في شيء، وقال: هذا يوم أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبي محمد، فلا يقطعني عنه أحد. فأمر كتّابه بالتشاغل بالأعمال، وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني، وقُدمت الفاكهة، فجعل يلقمني بيده، وجاء الطعام، فكانت هذه سبيله، وهو يستزيدني. فلمّا جلس، وقّع لي بثلاثة آلاف دينار مالاً، فأخذتها في الوقت. وأحضرني ثياباً، وطيباً، ومركوباً، فأخذت ذلك. وكانت بين يديّ صينية فضة، فيها مغسل فضّة، بلّور، وكوز وقدح بلّور، فأمر بحمله إلى طيّاري. وأقبلت كلما رأيت شيئاً حسناً، له قيمة وافرة، طلبته منه. وحمَل إليّ فرّشاً نفيساً، وقال: هذا للبنات. فلما تقوّض المجلس، خلا بي، وقال: يا أبا محمد، أنت عالم بحقوقي عليك، ومودتي لك. فقلت: أنا خادم الوزير. فقال: أريد أن أسألك عن شيء، وتحلف لي أنك تصدقني عنه. فقلت: السمع والطاعة، فأحلفني بالله، وبالطلاق، والعتاق، على الصدق. ثم قال لي: بأي شيء سارَرك الخليفة اليوم في أمري؟ فصدقته عن كل ما جرى، حرفاً بحرف. فقال: فرّجت عني، وأن يكون هذا هكذا، مع سلامة نيته لي، أسهل عليّ. فشكرته، وودعته وانصرفت إلى بيتي. فلما كان من الغد، باكرت المعتضد، فقال: هات حديثك. فسقته إلى آخره. فقال: احتفظ بالدنانير، ولا يقع لك، أنك تعامل بمثل هذا بسرعة.