بدا الموقف مثيراً للشفقة حين ظهر وزير اعلام السلطة الفلسطينية حاملاً نسخة من تقرير "لجنة ميتشل" وهو يصرّح للصحافيين ان سلطته ستتعاطى مع النقاط الايجابية في التقرير من دون ان تتوقف امام نقاطه السلبية. مثار الشفقة ان الأمين العام لرئاسة الوزراء في السلطة الفلسطينية كشف اللعبة سريعاً، حين قال ان التقرير، بغض النظر عن مضمونه، يفتقد الى آلية لتنفيذ ما جاء فيه. ولم يرَ أحمد عبدالرحمن في تغييب آلية التنفيذ هذه مجرد مصادفة، بل اعتبره عملاً مدروساً هدفه افراغ التقرير من مضمونه، وتحويله مجرد وثيقة تضاف الى سلسلة الوثائق التاريخية ذات الصلة بالقضية، ولا تعود عليها بنفع عملي. وانتقادات التقرير للاستيطان هي نفسها الانتقادات التي تبديها الادارة الاميركية. إلا ان الطرفين لا يتخذان من هذا الاستيطان خطوة عملية واحدة. فالولاياتالمتحدة - على سبيل المثال - لم تعاقب اسرائيل بتقليص المساعدات الاقتصادية والعسكرية او حجب بعضها، لا بل هي تعطل كل ما من شأنه ادانة اسرائيل في الاممالمتحدة، وهكذا يظل الانتقاد لفظياً، بينما تواصل اسرائيل، في واقع الحال، بناء مستوطناتها وتوسيعها، واستحضار الآلاف من المهاجرين اليهود. الى ذلك، تجاهلت "لجنة ميتشل" واقعة اقتحام شارون المجسد الأقصى، كسبب مباشر لاندلاع الانتفاضة و"انفجار العنف"، على حد قول الوثيقة. حتى ان صحيفة لا يمكن الادعاء انها متطرفة "الأهرام" وجدت نفسها في صف من ينتقدون "وثيقة ميتشل" نقداً لاذعاً، فوصفتها بأنها "تضع الجاني والمجني عليه في مستوى واحد بينما الحقيقة واضحة كالشمس وهي ان اسرائيل هي الجاني ولا احد غيرها مسؤول عن هذا التدهور الامني القائم في الاراضي الفلسطينية". الأهرام 8/5/2001. ونجد انفسنا الى جانب "الأهرام" وهي تتوقع تعليقاً على رد فعل اسرائيل حيال الوثيقة، "ان تتعزز عوامل عدم الثقة والكراهية" ويتصاعد العنف والقمع الاسرائيليان. وهكذا، بدلاً من ان تشكل "وثيقة ميتشل" مدخلاً لوضع حد للعدوان، تتحول غطاءً لهذا العدوان وذريعة لتصعيده ليحصد المزيد من الأرواح البريئة في صفوف الفلسطينيين، وهو امر يشكل في حد ذاته إدانة فاقعة للوثيقة. لكن اللوم - في الحقيقة - لا يقع على عاتق اللجنة، وعلى عاتق اعضائها او الوثيقة التي اصدروها. فالسيناتور الاميركي السابق ورفاقه انجزوا ببراعة فائقة ما هو مطلوب منهم: تبنّي وجهة النظر الاميركية لاستئناف المفاوضات. اما انتقاد الوثيقة العمليات الاستيطانية واستعمال اسرائيل "المفرط" للقوة، وغيرها من "النقاط الايجابية" - على حد تعبير ياسر عبد ربه - ليس إلا التزاماً لحدود الموقف الاميركي الذي "ينتقد" احياناً بعض سلوكيات اسرائيل وسياساتها. لكنه يظل في نهاية المطاف الحليف الاستراتيجي للدولة العبرية، ويرفض في الوقت نفسه ان تتحول انتقاداته لتل أبيب قرارات في مجلس الأمن الدولي. من المفيد هنا ألا يغيب عن البال ان "لجنة ميتشل" ولدت بديلاً من اللجنة الدولية للتحقيق التي طالب بها الفلسطينيون والعرب ورفضتها الولاياتالمتحدة وعطلت ولادتها وفرضت اخيراً لجنتها الخاصة، على قاعدة ان المرجعية المعنية ببتّ توصيات اللجنة واقتراحاتها هي رئيس الولاياتالمتحدة. وهكذا يعود الجانب الفلسطيني المفاوض الى القبول بالرعاية الاميركية المنفردة للقضية ليقطف مرة ثانية اقراص المرارة، بعدما علل نفسه طويلاً بأقراص العسل. وحتى لا يبدو حديثنا كأنه عداء مسبق للولايات المتحدة واقتراحاتها السياسية، نحيل من يهمه الأمر على محضر مفاوضات كامب ديفيد، كما صاغه وزير الخارجية الاسرائيلي السابق شلومو بن عامي ونشرته صحيفة "معاريف" العبرية 6/4/2001. إذ لا يخفي وزير الأمن الاسرائيلي في حكومة ايهود باراك البائدة ان بيل كلينتون كان منحازاً، على طول الخط، الى الجانب الاسرائيلي ومارس ضغوطاً على رئيس الجانب الفلسطيني ليتخذ مواقف "اكثر مرونة". وعندما قدم "ابو علاء" مداخلته بضرورة التعامل مع قرارات الشرعية الدولية اساساً لأي حل - يضيف بن عامي - انفجر به الرئيس الاميركي صارخاً، مهدداً بالطرد، داعياً إياه الى التوقف عن إلقاء خطابات جوفاء يقصد القرارات الدولية مكانها ليس هنا، بل هناك في اي من الابنية العامة للمنظمة الدولية. وعليه، كلما حاول الجانب الفلسطيني محاصرة الجانب الاسرائيلي عربياً ودولياً على المستويات الاقتصادية والسياسية وغيرها، تدخلت الولاياتالمتحدة لإفراد مساحة تنفّس جديدة للموقف الاسرائيلي، ولو تطلّب منها ايضاً تعطيل دور مجلس الأمن الدولي باللجوء الى الفيتو. مع ذلك، نلاحظ ان حدود موقف السلطة من "تقرير ميتشل" لم يتجاوز الدعوة الى عقد اجتماع جديد ل"فريق شرم الشيخ" القديم الذي اعتُبر مرجعية للجنة تقصّي الحقائق، لتبتّ مصير التقرير وما ينتج عنه من تداعيات، اي ان السلطة تصرّ على الدوام على اعادتنا الى الدائرة الاميركية المنحازة الى اسرائيل. ولعل الأمر لا يبدو غريباً - والحال هكذا - ألاّ تلجأ السلطة الفلسطينية الى مجلس الأمن، على سبيل المثال، لتشكو إليه تصاعد العدوان الاسرائيلي الذي بدأ يتخذ طابع العمليات العسكرية الخاطفة ضد المناطق المعزولة التابعة للسلطة، وهي عمليات - كما يتضح - مدروسة مسبقاً، تنفّذها مجموعات مختارة من الجيش الاسرائيلي، الأمر الذي يؤكد ان القيادة العسكرية الاسرائيلية، ومرجعيتها السياسية متفقتان على مثل هذه الاعتداءات. إذاً سلوك السلطة وموقفها من "لجنة ميتشل" يشكلان امتداداً لسلوكها وموقفها من مجمل الحال السائدة، وهي متمسكة بالعملية التفاوضية بصيغتها الراهنة وتحت رعاية منفردة من الولاياتالمتحدة. وتبدو السلطة حريصة على عدم المواجهة مع الادارة الاميركية، على رغم انها كلما اقتربت السلطة من ادارة البيت الابيض، زاد تفهمها لعدالة القضية الفلسطينية وعدالة مطالب اصحابها. ولسنا في حاجة الى جهد كبير لاثبات خطأ مثل هذه المواقف وضرورة التراجع عنها، وضرورة التصرف مع الولاياتالمتحدة على انها طرف وليست وسيطاً، وأنها تتحمل، حيال ما يجرى من عدوان واعتداء على الانسانية في الضفة والقطاع، مسؤولية لا تقل عن مسؤولية اسرائيل نفسها. فالتلطّي خلف أوهام محاولة كسب الودّ الأميركي، او محاولة اقناع الادارة في صحّة الموقف الفلسطيني وعدالته، سياسة باهظة الثمن، يدفعه الجانب الفلسطيني من رصيد الانتفاضة نفسها. لذا بدلاً من التلهي ب"وثيقة ميتشل"، والبحث عن ايجابياتها وسلبياتها، يفترض ان يستدير الفلسطينيون نحو البحث عن عوامل تعزيز اوضاعهم الداخلية للتصدي لتصاعد العدوان. ولعل الخطوة الأولى الواجب القيام بها في هذا الصدد الاتفاق على الهدف الذي من اجله كانت الانتفاضة، ورسم استراتيجيات التحرك وتكتيكاته. فالحال الشعبية الفلسطينية صامدة وقادرة على مواصلة العطاء. والحال الشعبية العربية - التي تراجع دورها الى حد ما - يمكن ان يستنهضها موقف فلسطيني متماسك يسمّي الاشياء بأسمائها، بعيداً من المراوغة والتكتيكات المضمرة القصيرة النفس. الكرة الآن في ملعب السلطة الفلسطينية تحديداً، وإليها تتوجه الدعوات لإعادة ترتيب الصفوف وتوفير مقومات الصمود في المواجهة المقبلة. وهي مواجهة مصيرية، يكفي ان تكسر فيها شوكة العدوان، وتغلق الطريق امام شارون حتى تبدأ ملامح التغيير الايجابي بالظهور. * كاتب فلسطيني.