كلما تحدثنا عن التجربة اللبنانية في دحر الاحتلال وامكانية تكرارها فلسطينياً، خرج علينا "الواقعيون" بمقولة استحالة نقل تلك التجربة والحصول على الانتصار ذاته في الحالة الفلسطينية، بحيث يصار الى دحر الاحتلال الى ما وراء الخط الأخضر حدود الرابع من حزيران/ يونيو دون قيد أو شرط، تمهيداً لإزالته لاحقاً عن كل الأرض الفلسطينية. هناك جملة من القضايا التي يطرحها أولئك في تبرير استبعادهم امكانية نقل التجربة اللبنانية، منها أهمية الضفة والقطاع قياساً بالجنوباللبناني. وهذا القول يتجاهل ان الكيان الصهيوني عاش عشرين عاماً دون الضفة والقطاع، كما يتجاهل ان احتلال الجنوباللبناني قد مكث أكثر من عقدين من السنوات، وكان يمكن ان يستمر عقوداً أخرى لولا استنزاف المقاومة، نظراً الى أهمية مصادر المياه اللبنانية. ونظراً الى المطالب السياسية التي يمكن ان تتحقق من الاحتلال على الصعيد السوري والعربي، في حال إزالته أو اعادة انتاجه لاحقاً. ثم ألم يقل لنا مؤيدو التفاوض ان ايهود باراك قد عرض "التنازل" عن 94 في المئة من الضفة الغربية وكل قطاع غزة في كامب ديفيد، فهل سيدفع جنرالات الدولة العبرية مئات أو آلاف القتلى للحفاظ على ال6 في المئة الباقية، مع ان الرقم غير صحيح بالطبع؟! أما الوضع اللوجستي الذين يحتج به ايضاً، فيمكن الرد عليه بأن امكانية المس بجنود الاحتلال ومستوطنيه في الضفة وغزة وفي الأراضي المحتلة عام 1948، هي اكبر منها في الجنوب، لا سيما وهي تمس حياة الجمهور الاسرائيلي برمته، وليس الجنود فقط كما هي الحال في الجنوب. في الجنوب، ثمة حاجة لاجتياز الحواجز الكثيرة للوصول الى مواقع محصنة محروسة بأعتى الأسلحة، أو متابعة دوريات تتحرك بحراسات مشددة. أما في الضفة وغزة، فثمة فرصة لاصطياد الجنود في كل مكان، اضافة الى فرصة الوصول الى تجمعات الاسرائيليين في كل مكان من أرض فلسطين التاريخية ونشر الرعب في صفوفهم. في الجنوب كان ثمة جنود يسقطون، ونشأت على أثر ذلك "منظمة الأمهات الأربع" التي تحولت الى حزب عامل في الحياة السياسية في الدولة العبرية. وهنا في حال اندلاع المقاومة في كل الأرض المحتلة سيتحول الجمهور الاسرائيلي كله أو معظمه الى مطالب بالخروج من الضفة وغزة بدل العيش مع كوابيس الموت اليومية. ربما كان مفيداً هنا أخذ وجهة نظر اسرائيلية عسكرية في سياق المقارنة بين الحالتين اللبنانيةوالفلسطينية، وهي للعميد بني غينتس قائد كتيبة "يهودا والسامرة" الذي وصف الصراع في الضفة وغزة بأنه "أكثر تعقيداً" من الحرب في لبنان، مضيفاً: هناك "لم يكن المواطنون الاسرائيليون هدفاً للهجوم اليومي". وهناك من يحتج في معرض المقارنة، بوجود الدعم السوري والايراني، والرد على ذلك ان هذا الدعم يمكن ان يتوفر في الحالة الفلسطينية، وربما اكثر منه في الدول العربية الاخرى، اذا ما حسم خيار المقاومة حتى دحر الاحتلال دون فذلكة التفاوض، تماماً كما حصل في لبنان. اما ما يمكن ان يضاف هنا على نحو أوسع واكبر، فهو الدعم الجماهيري العربي والاسلامي الذي لم يتوافر هناك، نظراً الى مكانة معركة القدسوفلسطين في العقل العربي والاسلامي، وهو دعم قد يتفوق على الدعم الرسمي، نظراً الى ابعاده المادية والمعنوية معاً. اما الموقف الدولي وخصوصاً الأميركي، فإن تبعيته للموقف الاسرائيلي في الحالة الفلسطينية لا علاقة لها بالمنطق السياسي الواقعي. ذلك ان القرار الدولي 425 الذي يعتبر جنوبلبنان مناطق محتلة ويطالب الاسرائيليين بالرحيل عنها، تقابله جملة من القرارات الدولية المتعلقة بالضفة والقطاع. الأغرب من خطاب التفريق بين التجربة اللبنانية والحالة الفلسطينية السابقة عليها في المقاومة وقدرتها على الانجاز تجربة غزة وتمني اسحق رابين غرقها في البحر، هو ذلك الخطاب المتفاعل عاطفياً مع معاناة الجماهير الفلسطينية في الداخل، والذي يعيب على الداعين الى استمرار المقاومة وهم يجلسون في بيوتهم ومكاتبهم خارج الأراضي المحتلة! هذا الخطاب يتجاهل العديد من المعطيات الواقعية والتاريخية معاً. وأهم تلك المعطيات، ان الشعوب الحرة لم تتخلص من عبوديتها يوماً بالنضال الناعم، وانما بالتضحيات الجسيمة والدم والشهداء. والشعب الفلسطيني، ليس استثناء، بل هو الأقدر على البذل والعطاء، ويكفي ما قالته تلك العجوز الفلسطينية من أن "أحداً في فلسطين لم يمت من الجوع حتى الآن" في استخفاف واضح بحكاية المعاناة. ثم ان الرد على قصة "المعاناة" لا يكون بوقف المقاومة وانما بتخفيف المعاناة عبر تفعيل لجان التضامن الشعبية والرسمية مع الشعب الفلسطيني. والاهم من ذلك، حسم خيار المقاومة وبث القناعة والأمل في الشارع بإمكانات تحقيق الانتصار، وعدم المراوحة بين المقاومة والانتفاضة، بما ينسف ذلك الأمل ويبث الإحباط نظراً لتجارب الاستثمار البائسة للانتفاضات السابقة. اما الذين يدعون الى استمرار المقاومة من الخارج، فهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا يكتوون بنارها، وإلا لجاز القول ان الذين يبذلون التضحيات في الداخل يقفون في الخط المقابل، وهو قول غير صحيح، إلا في نطاق محدود. ذلك ان أغلب التضحيات وأوضحها هي تلك التي تبذل عن طيب خاطر من قبل الشهداء والمجاهدين الأسرى، وهؤلاء ومعهم أغلبية الشارع الفلسطيني، ومن ورائهم الجماهير العربية والاسلامية، يؤيدون خيار المقاومة بلا هوادة. المطالبون بالتراجع أمام إملاءات العدو وضغوط الولاياتالمتحدة هم الأقلية، وليس العكس، ومن لا يرى هذه الحقيقة بعيد عن واقع الأمة وجماهيرها حتى لو اعتقد انه فيلسوف الفكر والسياسة.