ثمة مجموعة من الملاحظات تستحق التنبيه اليها ونحن نتابع ما يرشح من تسريبات حول المفاوضات التي جرت في معسكر بولينغ، او حول مشروع كلينتون الذي طرح على الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي للموافقة عليه. هناك لبس متعمد حول جملة الارقام التي راح يُروّج لها اخيراً فيما يتعلق بحجم الاراضي التي "ستعطى" للفلسطينيين، خصوصاً، من الضفة الغربية. وقد وصل الخداع الى الحديث عن نسب تصل الى 90 في المئة حتى 97 في المئة وبهذا "لا يتعدى التنازل الفلسطيني 3 في المئة من اراضي الضفة الغربية". يكمن التلاعب هنا، بداية، في المقصود بالضفة الغربية، هل هي تلك التي احتُلت في الخامس من حزيران يونيو 1967 ام هي الضفة الغربية من وجهة النظر الاسرائيلية - الاميركية. اي الضفة الغربية التي لا تشمل القدس الكبرى او تلك الاراضي من الضفة الغربية التي أُلحقت مع القدسالشرقيةبالقدس الغربية المحتلة عام 1948. وهذه الاراضي مع القدسالشرقية جاوزت وفقاً للاحصاءات الاسرائيلية نفسها مساحة 20 في المئة من الضفة الغربية في حدودها في الرابع من حزيران 1967. اما اللبس الثاني، او الخداع الآخر، وهو ما لا تظهره النسب والارقام، فيكمن في نوعية الاراضي التي ستحتفظ بها الدولة العبرية من جهة اهميتها المادية والمعنوية والاستراتيجية فضلاً عما تختزنه من مياه، وليس في الحجم بحد ذاته. فعلى سبيل المثال ان احياء القدسالشرقية وحائط البراق والاراضي المحيطة بالقدس وغور الاردن والنقاط الامنية الاستراتيجية ومواقع المستوطنات والمياه الاقليمية، والحدود الفلسطينية - الاردنية، والفلسطينية - المصرية، والسيادة على الحرم القدسي الشريف لا يجوز ان تحسب بالمساحة، وتحوّل الى نسب وارقام. فليس كل ارض مثل الاخرى، ولا كل موقع مثل الآخر وهو ما لا تظهره النسب والارقام. عندما يتحدثون عن مبادلة الاراضي التي تقوم عليها المستوطنات وما سيبقى تحت السيطرة الاسرائيلية ويضم الى الدولة العبرية، بأراض من صحراء النقب تُضم الى قطاع غزة، نواجه هنا بعملية خداع واضحة، فيبدو الامر مقايضة أرض بأرض فلا غالب ولا مغلوب. وبالمناسبة تناقلت بعض الانباء ان الاراضي التي يقترح ضمها الى قطاع غزة استخدمت مدافن لنفايات كيماوية وغيرها. فكيف تقايض احياء في القدس وحولها او اراضي المستوطنات والطرق الالتفافية والنقاط الامنية والاستراتيجية بأجزاء من صحراء النقب وهي من حقنا اصلاً؟ ثمة تعمية تؤدي اليها النسب آنفة الذكر فهي تحول دون رؤية اشكالية السيطرة على المعابر والحدود البرية والبحرية والاجواء والمياه، كما السيطرة على الاراضي الفلسطينية المجزأة جزراً في الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال المستوطنات والطرق الالتفافية والنقاط الامنية. وهو ما تحاول اخفاءه تلك النسبة المئوية والارقام. لا تظهر النسب والارقام فقدان الاراضي الفلسطينية لوحدة اقليمية او لامكان تحقيق سيادة فعلية عليها، او توفير امنها والدفاع عنها. فهي لا تظهر ان الاحتلال والاستيطان باقيان. جميع ما يرد او سيرد من ارقام ونسب منقول عن مصدر وحيد هو المصدر الاسرائيلي وهذا واسع الذمة بلا جدال فكل رقم ينبغي لنا ان نشك فيه. وَوَاهمٌ من يظن ان العشرة في المئة هي عشرة في المئة حقيقة، او التسعين في المئة هي تسعين في المئة حقيقة. والآن، صحيح ان مبدأ الحديث عن النسب المئوية هنا مسألة منافية اصلاً لهدف دحر الاحتلال الى خطوط الرابع من حزيران، ولتفكيك المستوطنات وتحرير الحدود. وصحيح ايضاً ان كل ارض فلسطين غالية ولا يجوز التفريط بأي جزء منها سواء كانت صحراء ام منطقة استراتيجية ام القدس. ولكن دحض الخداع فيما يروّج له من نسب وارقام لتمرير المفاوضات او ما قد ينجم عنها من اتفاق كارثي يظل ضرورة، ولا يتنافى مع الصحيحين المذكورين. على ان اخطر ما شملته المفاوضات وتضمنه مشروع كلينتون هو مصادرة حق العودة وانهاء اية مطالبات اخرى تتعلق بالقضية الفلسطينية. وبهذا لا نكون امام اجحاف فظيع في حدود الاراضي المحتلة في حزيران 1967، ولا نكون امام اجهاض انتصار وعدت به الانتفاضة بدحر الاحتلال ومخلفاته الى ما وراء الخط الاخضر فحسب، وانما ايضاً، نكون امام خطر تصفية القضية الفلسطينية مع فتح آفاق التغلغل الصهيوني واحداث الاختراقات في الوضع العربي كما حدث بعد اتفاق اوسلو. انه لمن غير المفهوم، بادئ ذي بدء، كيف يساوم على ازالة الاحتلال من كل الاراضي التي احتلت في حرب حزيران 1967 إسوة على الاقل بما حدث على الجبهة المصرية وبما حو حادث على الجبهتين السورية واللبنانية؟ ثم انه لمن غير المفهوم كيف يقبل ان يخلط بين ازالة الاحتلال المذكور والقضية الفلسطينية كلها بما فيها مسألة حق العودة وسائر الحقوق الاخرى الاكثر اهمية من حق العودة، لأن هذا فرع من اصل. فالانزلاق هنا يصبح شديد الخطورة، وهائل الكارثية حين تمسّ المفاوضات قضية السيادة على الحرم القدسي الشريف او القدس ناهيك على القضية الفلسطينية برمتها. لو وضعنا، موقتاً، ما يمكن ان يثار على مستوى المبادئ والثوابت والحقوق بما فيه تلك التي يعترف بها القراران 242 و338، مروراً بقراراي 193 و181 وعشرات القرارات المتعلقة بالقدس والمستوطنات وحق تقرير المصير، وتأملنا في الظرف الراهن الذي جرى وتجرى المفاوضات ضمن معطياته، فسنجد ان الاغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، والكثيرين من القادة العرب، ومعظم النخب بمن فيهم اولئك الذين أيّدوا اوسلو حتى مفاوضات كامب ديفيد 2، لم يعودوا مقتنعين بصوابية العودة الى المفاوضات او جدواها فضلاً عما تركته ويمكن ان تتركه من سلبيات على الانتفاضة والالتفاف الرسمي والشعبي العربي والاسلامي الداعم لها. وستكون المعارضة اشد لو تم التوصل الى اتفاق على قاعدة مشروع كلينتون حتى لو جرت عليه تعديلات "ملموسة". ان ميزان قوى ما بعد الانتفاضة وانتصار المقاومة في جنوبلبنان والتظاهرات الشعبية العربية والاسلامية وارتفاع السقف الرسمي العربي والاسلامي في قمتي القاهرة والدوحة، يجعل المفاوضات او ما يمكن ان ينجم عنها من اتفاق، دون المستوى الذي يسمح به ذلك الميزان، او يمكن ان يقبل به "الاكثر اعتدالاً". يجب ان يلاحظ هنا ان ميزان القوى لا يقاس بالميزان العسكري وحده وانما ايضاً بجملة من الظروف والمعطيات الفلسطينية والعربية والاسلامية والدولية، وفي مقدمة ذلك الحالة التي يمرّ بها باراك وكلينتون سواء كان من زاوية المأزق السياسي الداخلي والخارجي ام كان من جهة ما يمنعهما من استخدام القوة العسكرية المباشرة حتى مداها الاقصى. وان هذه السمة الاخيرة كانت من اسباب اندحار الاحتلال في جنوبلبنان، ويمكن ان تلحظ في اغلب الحالات المماثلة التي انتهت بهزيمة الاحتلال. ليس هناك من مبالغة لو قيل انه لم يعد امام باراك من خيارات في مواجهة الانتفاضة غير التخبّط في الاخطاء والولوغ في طريق المجازر والفضيحة. فالحسم في الميدان اصبح مستحيلاً بالرغم من آلته العسكرية. ولكم شكّل مثل هذا الوضع في التاريخ طريقاً للهزيمة بالنسبة الى قوى كانت اعلى بنياناً واشد بطشاً. وليس من مبالغة لو قيل ان الادارة الاميركية دخلت مأزقاً عربياً واسلامياً وعالمياً بعد ان فشلت ادارتها لعملية التسوية وفقدت زمام المبادرة عدا السعي للضغط على بعض نقاط الضعف الفلسطينية والعربية لاستئناف المفاوضات والوصول الى اتفاق باعتبار ذلك هو المنقذ من ازمتي باراك وكلينتون. ومن هناك كانت ملاحظة هذا الجانب تقضي باغلاق الباب في وجهي باراك وكلينتون حتى انتزاع التراجع الكامل منهما. فما داما فقدا المبادرة، واصبح النزال في الميدان طريقاً مسدوداً بالنسبة اليهما، وخسائره اكبر من مكاسبه، فلماذا لا يمضي الوضع المؤاتي مع استمرار الانتفاضة والمقاومة الى النتيجة المرجوة، بدلاً من ان نهدي نصراً لمهزوم عبر المفاوضات وهذا شيء فريد من نوعه في التاريخ. * كاتب وباحث فلسطيني.