مختار عجوبة. المرأة السودانية: ظلمات الماضي وإشراقاته. مركز الدراسات السودانية، القاهرة. 2001. 111 صفحة. يندر أن يمضي أحد الباحثين السودانيين المتخصصين في علم الاجتماع في التنقيب والخوض في المسكوت عنه في ثقافة وتاريخ السودان الحديث، ذلك السودان الذي تبلور كما نعرفه اليوم منذ حملة اسماعيل باشا ابن محمد علي باشا الكبير والي مصر في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. ففي مبحثه الفريد هذا يتطرق عجوبة الى خفايا تلك الثقافة في شقها الأكثر غموضاً ألا وهو جانب المرأة، حيث ان هذا الجانب لم يكن أصلاً من ضمن اهتمامات من كتبوا عن تاريخ السودان. ويستشهد المؤلف في ديباجته بأن أشهر السودانيين الذين كتبوا عن الفقهاء والأولياء في النصف الأخير من القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وهو محمد النور ضيف الله "أولى المرأة اهتماماً في ثنايا طبقاته حكايته التأريخية يفوق ما ورد في كل كتب أو دراسات من جاؤوا بعده". يتناول المؤلف أحوال المرأة منذ عهود النوبة القديمة في شمال السودان النيلي مع تحديد لاتفاقية "البقط" المعروفة بين الفاطميين والأيوبيين في مصر وملوك النوبة في دنقلا، مروراً بسلطنة سنّار والعهد التركي والدولة المهدية والحكم الثنائي الانكليزي - المصري حتى مشارف الحرب العالمية الثانية. ويركن الباحث الى التحليل التاريخي/ الاجتماعي برصد أحوال المرأة السودانية حسب وضعها في الاطار المجتمعي تحديداً، وتصنيفها في ذلك الزمن كحرة أو أَمَة. وهذا النهج يبدو أكثر بروزاً في الفترة التي أعقبت اجتياح اسماعيل باشا للسودان النيلي الشمالي بعد نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر. وربما كان لتوافر بعض المراجع التاريخية والمعرفية منذ ذلك التحول الكبير الذي أحدثته الحملة في ما يعرف بالسودان الحديث، أثره في تقصي المؤلف لما أورده الرحالة والكتاب الأوروبيون والمصريون وقلة من السودانيين. وتجدر الاشارة هنا الى ورود اسم السوداني من أصول قبطية - يوسف ميخائيل، الذي عاصر أواخر الادارة التركية في السودان 1821 - 1885 والدولة المهدية 1885 - 1898، ويقال انه عمل "أمين سر" لخليفة المهدي عبدالله التعايشي. فكثيراً ما سكت الباحثون السودانيون عن ايراد ما كتبه يوسف ميخائيل في مخطوطة مذكراته، ربما لذكره أموراً عن الفترة المهدية لا يتطرق اليها السودانيون المحدثون عادة. غير أن ما يلفت النظر حقاً هو الفضاء المعرفي الخاص بالمرأة السودانية التي وصلتنا أخبارها منذ عهد سلطنة سنّار التي نشأت على ضفاف النيل الأزرق في القرن السادس عشر. فهذا الفضاء يحتفي بتلك الناطقة بالعربية السودانية، فيما نجد غياباً أو تغييباً شبه تام لنساء قبائل الشمال النوبية مثل المحس والدناقلة، بينما تبرز أصوات نساء قبائل الشابقية والجعليين والعبدلاب الناطقة بالعربية منذ الانقلاب التاريخي للهوية السودانية الذي جرى بعد انهيار ممالك النوبة الشمالية في نهاية القرن الخامس عشر. ولا شك ان لحملة اسماعيل باشا 1821 أثرها في إبراز مهيرة، بنت الشيخ عبود أشهر السودانيات اللائي بقيت أشعارهن الواصفة للمعارك التي خاضتها قبيلتها أمام جيش الباشا الزاحف. وهي فتاة بكر كانت تركب جملاً مزداناً بالحلي، وهي التي أعطت إشارة البدء بالقتال بأن أطلقت الزغاريد. وهناك أيضاً صفية، بنت الملك صُبير أحد ملوك قبيلة الشايقية التي وقعت أسيرة في أيدي فرقة من البدو التابعين لجيش الباشا، وكانت في السادسة عشرة من عمرها، وسرعان ما أحضروها بين يديه أملاً في أن يأمر لهم بمكافأة مادية، لكن الباشا أمر بها أن تلبس فاخر الثياب ووكّل بها حرساً من رجاله الذين يثق بهم، وردها الى أبيها مكرّمة. الا ان أباها حين رآها مزدانة بحلى تركية، ومرتدية ثياباً تركية فاخرة، خطر له أنها أخذت ثمن خيانتها، فرفض أن يستردها. لكنه لم يلبث أن عرف الحقيقة، فتلقاها بالترحيب، وقرر على الفور التسليم لاسماعيل لأنه، كما يقول، أصبح لا يستطيع أن يحارب رجلاً حفظ له عفاف ابنته. غير أن الاستسلام، كما يقول المؤلف، يرجع في الحقيقة الى ما قام به الجيش الغازي. فإن كان الباشا قد أحسن معاملة الأميرة فإن عامة النساء وبينهن محاربات لم يحظين بما حظيت به. فبعد انتهاء معركة كورتي، أعلن اسماعيل عن مكافأة لكل من يحضر له أذنين لأي شايقي قُتل في الحرب، ولم يتلمس جنوده ذلك في الرجال وحدهم، بل في النساء كذلك. ويقول كايو، أحد الرحالة الأوروبيين، "ان نصف الأهالي الذين التقينا بهم، وكثير منهم من النساء، كانوا محرومين اما من احدى الأذنين أو من كلتيهما". وعن أوصاف المرأة السودانية كتب أحد الرحالة الفرنسيين المجهولين 1822 - 1840 يقول: "فكل شيء في السودان بكر كالتربة، حيث تندر العاهات الجسدية، ومن الجميل أن ترى الفتيات عاريات إلا من "الرحط" وهو هداب من الجلد يغطي اسفل الجسم، وهن جميلات الصدور والأكتاف، وإذا ما غضضنا النظر عن بياض البشرة، فالأوروبيات لا يرقين الى مستوى الشابات النوبيات السودانيات، فهن لا يستعملن المشدات أو الملابس الضيقة". ووصف الرحالة النمسوي بوركهارت النوبيات "بأن لهن قامات بديعة ووجوهاً طلقة حلوة وان لم تكن جميلة. ونساء النوبة يدهن شعورهن وأجسادهن ب"ودك" البقر أو زيت السمسم للنظافة كبديل للصابون". كما أن الرحالة "بروس" في زيارته لبلدة شندي، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قام بزيارة الملكة "ستنا" أي سيدتنا فوجدها امرأة جميلة في الأربعين من عمرها وعلى رأسها تاج ذهبي رائع. وعندما تقدم بروس لتحيتها جرياً على العادة الأوروبية تراجعت الى الوراء وصرخت مندهشة لأنه قبّل يدها. وعلى الرغم من أن سبي المرأة والغارات كانت متبادلة بين قبائل السودان قبل حملة اسماعيل فإن جيشه أيضاً لم يتورع عن سبي النساء والرجال معاً كما حدث مع االدفتردار، صهر محمد علي باشا الكبير، كما روى المؤرخ البريطاني ج. هيل. فبعد مقتل اسماعيل باشا حرقاً على أيدي ملوك الجعليين في بلدة شندي، أغار الدفتردار على الأهالي في تلك المنطقة انتقاماً لمقتل ابن محمد علي. غير أن الدائرة تدور: فبعد ما يربو على الستين سنة من حملة الدفتردار الانتقامية وعقب سقوط الخرطوم بين يدي المهدي مباشرة كانت المدينة غاصة بنساء المصريين والأتراك والشوام والأرمن والأرناؤوط وبعض الأوروبيين العاملين بالادارة والتجارة، وقد تم سبيهن جميعاً بعد قتل وأسر البالغين من الأزواج والرجال. وفي فترة الحكم الثنائي 1898 - 1956 يشير المؤلف الى عزة محمد عبدالله، زوجة علي عبداللطيف، أحد قواد ثورة 1924 في الخرطوم كأول سودانية تشارك في النشاط السياسي بالمعنى الحديث، وجمال الباشا في منطقة الشايقية التي تغنى بثرائها وعطائها الشعراء وقد تزيّت بزي الرجال، والست آمنة، في مديرية الفونج التي تم اعتقالها في 1929 بتهمة تجارة الرقيق، وشول، ملكة الدينكا، أكبر قبائل السودان وافريقيا قاطبة، والأميرة مندي بنت السلطان عجبنا، وقد حاربت الانكليز مع والدها وخلدتها الأغاني الشعبية والمارشات العسكرية في منطقة جبال النوبة. ويسهب الكتاب في الغوص في المسكوت عنه من الثقافة السودانية، خصوصاً فترات الأحداث الكبرى التي شهدها سودان القرن التاسع عشر. ومن الملاحظ أن سودان اليوم الذي تستعر فيه حرب أهلية ضروس منذ 1983 لا يعدو أن يكون انعكاساً لما جرى في القرن التاسع عشر وما قبله. فالمرأة وأطفالها أكثر من يعاني من الحرب ونتائجها ولا ننسى "الخطف" وهو كلمة مخففة للسبي ومعادلة لها في فترات الحروب والنزاعات السابقة.