على مدى الأعوام الستة والعشرين الماضية والتشكيلية المصرية بيريت بطرس غالي تقيم في مصر، مشاركة في الحركة التشكيلية المصرية والعربية والأجنبية، بحس دؤوب، وبصمة تجريدية. درجت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ضمن إطار الحركة الفنية التجريدية الحديثة في أوروبا. ولدت بيريت في النروج العام 1937، ودرست النحت والرسم على ألين كريستنسن وفرديناند لند في "أوسلو" النروج خلال الفترة من 1959 الى 1962. وكان معرضها الأول في غاليري "دولو نيفر سيتيه" في باريس العام 1965 بمثابة الخطوة الأولى لتتوالى من بعد خطواتها الفنية الناجحة عبر المعارض التي طافت بأعمال الفنانة، على جميع دول العالم، ومنها: إسبانيا وألمانيا وإنكلترا وسويسرا ومصر والنروج واليونان وبلجيكا. وفي معرضها الجديد في غاليري "بيكاسو" في ضاحية الزمالك تقدم بيريت بطرس غالي ما يقرب من ثلاثين لوحة، تظهر في شكل جلي، كيف تزاوج الفنانة بين جذورها التجريدية الأوروبية، وبين معايشتها المجتمع المصري بكل ما يعتمل فيه من حركة وتجسيد وصور لا تحتمل تأويلات التجريديين ولا شطحاتهم الخيالية. في هذه الأعمال، تستنّ الفنانة روحاً وخطوطاً وألواناً تخلق لنفسها برزخاً فنياً وبصرياً يقف بوضوح ما بين التشخيصية الصريحة وما بين التجريدية المتطرفة. فثمة وجه ما تكشف عنه ألوانها المتجاورة. وثمة بشر يقفون على البعد أمام مياه بحر غامض في زرقته المخضرة، مشهد ضبابي لصيادين على ضفة غير محددة على نهر ما. وإذا كانت الحركة التشكيلية النسائية في مصر قدمت عبر تاريخها الطويل اكثر من فنانة متميزة، بدءاً بتحية حليم وجاذبية سري وإنجي أفلاطون ونازلي مدكور فإنها اليوم تقدّم فنانة متميزة أخرى، استطاعت أن تصنع حالاً تشكيلية متفردة ومكتملة في معرضها الأخير، عبر اختلاط رؤاها اللونية المكثفة على نسيج اللوحة التشكيلي، مستمدة إرثها الطويل في التجريد الأوروبي الحديث، وخالقة إيقاعاً هارمونياً مصرياً في اكتماله وتمامه، وكذلك عبر رصد لوني لمشاهد حية من الريف المصري، وشوارع المدينة الآهلة بالسكان، فاللوحة بألوانها وخطوطها تكاد تنقل إليك أصوات ضجيج المارة في صباح ضبابي من صباحات الشتاء القاهري، بل تكاد ان تضع يدك على وجه يظهر ويختفي في ركن إحدى اللوحات، كأنك كنت تعرف صاحبه يوماً. لكن ضبابية المشهد وتجريديته، تجعلانك غير واثق، مَن يكون، وأين تاه اسمه في دماغك! أمام هذه الإبداعات اللونية، لا جدوى من التساؤل، أو الاستفسار ولا يصح أن تضع علامات الاستفهام: ماذا تصور اللوحة، ما هو المضمون، أين المعنى، كيف... وأين...؟ أترك فقط عينيك تنقلانك شيئاً فشيئاً الى هناك، الى قلب هذا الخضم اللوني الآسر، حيث تتمازج لغتان لا ثالث لهما: الشعر... والموسيقى. ثم اتبع قلبك الى حيث يريد، ضع تفكيرك في الألوان وهي تتجاور كأن ينبت الأصفر من قلب الأزرق، والرمادي من الأحمر، الأبيض الضبابي من بين براثن الأسود القاتم. ولا بد من أن تخرج من هذه الحال بأسئلة لا أجوبة محسومة وواضحة لها. وستعود مرة اخرى، وفي اليوم الثاني، لترى بعينيك ما لم تره امس، في قلب هذه الأعمال الصامتة والكثيرة الكلام في الحين عينه. بيريت بطرس غالي فنانة تخلق للوحتها إيقاعاً من اللون في البداية، من دون خيوط واضحة وصريحة، ثم تترك يدها لملوانتها. فهي وحدها التي تملك الإرادة النهائية في العمل ككل. وهي التي تقرر، من أين أبدأ حركة الفرشاة، وأين أنهيها، وما هي صيرورة اللون الى جوار الآخر، وكيف أشق الفراغ الأبيض بخبطة أخرى، وسؤال جديد. ثلاثة وستون عاماً، وهي عمر بيريت بطرس غالي الآن، وإذا كنا سنعد عمرها الفني بالسنوات التي أقامتها في مصر، مشاركة وإسهاماً في الحركة التشكيلية المصرية، فإننا سنقف امام معرضها الأخير في غاليري "بيكاسو" لنقول إنه محطة أخرى من محطات الفنانة، محطة تختلف عما سبقها وعما سيليها من محطات ومراحل، حيث الفن ينبئ عن صيرورة ولدت وتشكلت.