لطالما رغب الفنان الليتواني الشهير ميكالويوس كونستانتينس شيرليونيس (1895- 1911) في الخروج من أفق الواقع الصرف والمجالات المحدودة للتعبير عنه، واستطاع تمثيل الجانب الدينامي الحي بين تيارات الفن الحديث، عبر تحميل اللون ودرجاته الكثير من الدفق الوجداني والنفسي المشبع بالذات الإنسانية، وأحياناً الشخصنة، في شتى حالات الصراع. فمياكلويوس الذي تحتضن مكتبة الإسكندرية هذه الأيام معرضاً لأهم أعماله، يستحضر شخوصاً وكائنات وانعكاسات خصبة من واقع الحياة، تتعرى من ملامحها التقليدية لتخلق فضاءها الخاص، محتضنة المكان ومخترقة المزاج العام التقليدي السائد في أوروبا، عن مفهوم اللوحة التشكيلية والفن عموماً. ويعد ميكالويوس أحد أهم فناني أوروبا مطلع القرن العشرين، ورمزاً للهوية الليتوانية، ومصدر إلهام لشعبه في أصعب الأوقات، إذ اشتغل بنَفَسه الوجداني المعروف على أفكار فلسفية ونفسية ودينية، وقدّم خليطاً من الفنون الإبداعية التي ما كانت لتفعل فعلها العجيب ضمن انعطافة الفن الحديث لولا أنها فجرت ينابيع الألوان السحرية وأطلقت موسيقاها الخيالية في مسار جديد شكّل معنى تكوينياً وغريزياً مغايراً في داخل أعماله ذاتها. ويقدّم المعرض، المستمر حتى نهاية الشهر الجاري، 24 لوحة من أعمال ميكالويوس، و12 عملاً في مجال التصوير، ومخطوطات عن حياته وأعماله، وعرضاً مرئياً ومسموعاً عن أعماله الفنية والموسيقية. ومن اللوحات اللافتة في المعرض: «المنحدر» و «سوناتا البحر» التي أظهرت الخصوصية الإبداعية للفنان، لا سيما تلك اللحظة اللونية المميزة لتقلّب البحر، وأحكم فيها صوغ أدواته الفنية، وهو الواقع تحت تأثيرات عديدة متنوعة المنابع، منها الغيبي السحري، ومنها الروحاني الديني، ومنها الانفعالي الذاتي. واشتمل المعرض كذلك على العديد من اللوحات حيث «أعاد إنتاج» الطبيعة بمعادل تشكيلي تجرد من إشكاليات المدارس الفنية التشكيلية القديمة وقيودها، مكرّساً التجريدية الحديثة كواحد من روّادها. يقول منفّذ المعرض، المعماري والفنان سالوس فاليس: «أعمال ميكالويوس حرّكت التآلفات الخيالية الكامنة في اللوحة، ومنطوقها البصري، فنرى في ضربات فرشاته ووخزات سكينته رؤية غير اعتيادية للعالم، تعكس أعماله المركّبة هويته الليتوانية الأصيلة وحسّه العالمي في الوقت ذاته، إذ تتعرى الكتل من ملامحها التقليدية لتندس في أزليتها الكونية، وتندمج من أجل تحقيق المعنى المضمر في مخيلة الفنان». ويرى فاليس أنه في حين تدفق الإنتاج الفني الأوروبي، كان ميكالويوس يتّجه بلا وعي إلى مطلق الفن، بحثاً عن التجريد الخالص، مستبقاً كل التجريديين. كما بيّن أنه متعدد المواهب، في الموسيقى كما التشكيل والتصوير الفوتوغرافي والكتابة، وقد دمجت موسيقاه ولوحاته بين عدد من الاتجاهات، لا سيما الترميزية والرومانسية والانفصالية، في تفرد مدهش. أما زوجة فاليس، سالي، وهي أيضاً تشكيلية وعملت معه في توليف المعرض، فتقول إن المعرض أعدّ ليجول العالم، وأن اللوحات عرضت في فرنسا وتركيا والصين والأرجنتين، قبل الإسكندرية، «إلا أن المعرض في مكتبة الإسكندرية نُظّم باحترافية أكبر، وفي شكل أوسع، حتى يليق بالمكتبة التي كانت منارة للحضارة والعلوم والفنون منذ آلاف السنوات، كما أن للمكتبة الجديدة شهرة دولية، لذلك قررنا تقديم المعرض في شكل أكثر تميزاً مما قدّم في دول أخرى». أما رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المكتبة، السفير علي ماهر، فيقول إن هذا المعرض يشكّل فرصة «للتعرف إلى الشعب الليتواني وتاريخه الفني، خصوصاً أننا كعرب، قد لا نعرف الكثير عن الثقافة الليتوانية. وإيماناً من المكتبة بدورها في الانفتاح على الثقافات، أُعدّ المعرض في إطار دعم العلاقات المصرية - الليتوانية»، علماً إن مكتبة الإسكندرية كانت نظمت في ليتوانيا احتفالية «ذاكرة مصر المعاصرة»، في آذار (مارس) الماضي. يذكر أن ميكالويوس يعدّ من أشهر الفنانين في تاريخ ليتوانيا المعاصر، وهو رسام وكاتب وموسيقار ومصور، وتعتبر أعماله من أهم الأعمال الفنية ذات التأثير في الحركة الفنية في بلاده، كما في الفن الأوروبي عموماً، ويصنّفه النقاد رائداً للفن التجريدي، وتقارن لوحاته بأعمال كاندينسكي وبوكلين وردون وكلينج.