ربما ارتفعت من زمان لتكون مقرّبة لدى المهراجا. أما الآن ان تكون المرأة راقصة في لاهور يعني انها معرّضة للفقر والمرض وغضب المتدينيين. ورازيا بنت الخامسة عشرة، نادراً ما يسمح لها بالخروج ليلاً الا بمرافقة احد أفراد عائلتها. وليس ذلك بسبب التقاليد الاجتماعية، ولكن لاعتبارها سلعة ثمينة، كونها صغيرة و"طازجة" وجاهزة لأن تباع في المزاد!. رازيا وسواها من أترابها متحدرات من الرقص والغناء منذ قرون غابرة، سلالة تثقّف الفتيات على أساليب تسلية وامتاع النبلاء والوجهاء. وكانت هذه التجارة عبر العصور عصيبة وقاسية، إذ كانت الفتاة تُعرض للعسكر والمواطنين العاديين، بعدما تكون تلقنت فنون الرقص والغناء لاقامة السهرات العارمة لإمتاع أمراء البنجاب ونبلائه. وتحولت مهاراتهن وجمالهن اسطورة في الشعر والأغاني الشرقية وفي الأوبرا الغربية. أما الآن فأصبحن "بنات هوى" بحسب الترجمة الحرفية من لغة الأوردو. وتعيش فتيات الرقص هذه الأيام في الأجواء السابقة للحفلات الراقصة وفي الأماكن التي يطلق عليها في لاهور "سوق الالماس" منعزلات عن الحياة الاجتماعية إلاّ حين يحتاج المجتمع الساهرالى خدماتهن. بالنسبة الى رازيا التي بدأت حديثاً ممارسة مهنتها، فإن شبابها وبراءتها النسبية يعتبران نقاطاً أساسية في تسعيرة بيعها. بدأت ممارسة المهنة منذ سنة في غرف الفنادق للنزلاء الأثرياء، اضافة الى ممارستها في احدى غرف "سوق الماس". تذهب فتيات "سوق الماس" عادة الى نزلاء الفنادق أو يأتين بالزبون الى غرف اقامتهن بحسب رغبته. وتعتبر بكارة الفتاة شيئاً مميزاً وثميناً ينالها من يدفع الثمن المناسب. في حال رازيا كان أمر فض البكارة للمرة الأولى غير ناجح، اذ انفجرت بالبكاء المرّ. ومعظم الفتيات مثيلاتها عشن التجربة نفسها لكنهن لا يعترفن بذلك صراحة. ويعود ذلك الى شعورهن بالخجل واظهار مشاعر العار. ومعظم الزبائن هذه الأيام لا يكفيهم مجرد رقص الفتاة لهم... بل تتعرّض الراقصة الى ما هو أسوأ بكثير. إذ ان الزبائن يكونون شديدي القسوة... ومن الزبائن من يحتفظ لديه بالأسيد والإصرار على تعليم الفتاة دروساً رهيبة لو حاولت التملص من ممارسة الجنس معه. الهروب مما مارسته أجيال سابقة من نساء عائلة رازيا لمواجهة الحياة الصعبة لم يكن خياراً سهلاً على رازيا. فنظام الحياة في "سوق الماس" صعب جداً... وإلا فماذا يمكنهن عمله؟ ان اقل من 40 في المئة من القوات المسلحة في لاهور من النساء. وخيارات العمل للنساء غير اليد العاملة محدودة، كمهنة التعليم والطب والمضيفات الجويات. لم يبق لهؤلاء الفتيات باب آخر للهرب من "سوق الماس" سوى الزواج وهو أيضاً لا يحلّ المشكلة. حياة هؤلاء الفتيات صعبة جداً، كما يصفها لويس براون مدير الدراسات الثانوية في جامعة برمنغهام للدراسات الشرقية، الذي أعدّ كتاباً عن بنات الرقص في لاهور، أكبر مدن باكستان. ان اقامة زواج في باكستان أمر جدّي. فالتمويل يبحث بعمق، والعلاقات العائلية تدقّق جيداً. وشبهة الفتاة بمهنة فتيات الرقص قد تقضي على مشروع زواجها. وإذا نجحت احداهن في اجتياز الأمر واخفاء ذلك، تبقى دائماً تحت خطر اكتشاف زوجها أو أحد أفراد عائلته ماضيها. "نيخات" هي احدى الفتيات اللواتي اضطررن للعودة الى مهنتهن في "سوق الماس" بعدما فشلت في اخفاء سرها. منذ بضع سنوات تزوجت "نيخات" ورحلت مع زوجها الى الريف، ولكن الزواج لم يستمر لأسباب عدة إذ ظهرت أمامها بعض التعقيدات الناشئة عن المحيط الذي واجهها، منها مشكلة الزوجة الأولى لزوجها، اضافة الى ظلال السمعة حول مكان ولادتها، وكانت مهنتها السابقة عاملاً اضافياً لفشل زواجها. "سانا" فتاة رقص أخرى تجاوزت المشكلة نسبياً، لأنها مالكة أرض ولديها بيتان ولها ولدان. يعمل ابنها الأصغر مع تاجر استيراد وتصدير اسمه يوسف، كان له معها عقد خاص طويل الأجل. ويوسف هذا كانت له زوجة أخرى في مكان ما في "لاهور" وهي لم تكن تعلم شيئاً عن وجود سانا. لم يعد يسمح لسانا ان ترقص في مكان عام، وهو أمر تشتاق اليه بوضوح. ولكن هذا العمل يعتبر تجارة مهمة لتحسين المستوى المالي في اعمالها الأخرى. وعالم "سوق الماس" معقّد. فالرقص هذه الأيام يخفي وراءه الكثير من الخطايا ومنها حياة البغاء، اضافة الى سفر تلك الفتيات عبر الحدود لتغذية تجارة الجنس. ويقول لويس براون ان هذا العمل تقلّص وفقد بريقه خلال السنوات الثلاثين الماضية، إلا ان التجاذب بين العائلات التقليدية والقادمين الجدد بقي مستمراً، فالكثير ممن استقدمن للعمل في "سوق الماس" بائعات هوى محترفات، يسمح لهن بعرض أنفسهن خلف الأبواب المفتوحة لمدة ساعتين فقط مساءً ثم يختفين عن الأنظار، ولا يظهرن بمظهر الجانحات ولا يعترفن صراحة بالناحية الجنسية في حياتهن. الا ان انتماءهن الى العائلات التقليدية وخبرتهن في فنون الرقص ما زالا واضحين ومصدر فخر لهن باعتبارهن ورثن هذا التراث الفني جيلاً عن جيل. وفنون الرقص لدى الفتيات الممارسات في ملحمة "مهابهاراتا" الشهيرة يعتبر أمراً لاهوتياً كما ورد في كتب الشعر الهندوسية وفي مضامين كتب الأدب السنسكريتي. فطقوس الجنس منتشرة في شرائع البوذية والهندوسية منذ مئات السنين، وللرقص والموسيقى دور. والكثير من معابد الهندوسيين يشمل قاعات خاصة للرقص، ولراقصات المعابد صفة "الأبطال القوميين"، كما كانت الحال أيام البابليين القدامى. ومع مرور الزمن صار الرقص وسيلة شعبية للتسلية والمتعة. ونقل المغول والأتراك الغزاة الى الهند الكثير من الفنون والتقاليد الفارسية فنشأ جيل من النساء أكثر رقياً وتطوراً من نظيراتهن في باكستان، حيث 72 في المئة من النساء أمّيات. الأمهات يثقفن بناتهن لتصبحن أغلى ثمناً كما يقول لويس براون، أي مؤهلات لاقامة حفلات صاخبة أو زيارة نزلاء أثرياء في الفنادق الفخمة. أما الحكام "السيخ" الذين هزموا المغول في البنجاب وجعلوا "لاهور" عاصمتهم فاستمروا في اعتماد التقاليد الملكية ازاء هذه الحال، إذ ان المهراجا رانجيت سنغ الملقّب بأسد البنجاب رعى مجموعة 150 فتاة من أهم محترفات كشمير وفارس وبنجاب، وشهد لبراعتهن الفنية في القرن الثامن عشر كثير من البريطانيين الذين زاروا القصر الملكي حينذاك. وعرضت مسرحية كوميدية على مسرح أوبرا سافوي في لندن سميت "بنات نوتش" أو "بنات الرقص في لاهور" أو "راجا شتونيبور". وسرعان ما اعتاد المتزمتون على حفلات "نوتش" بفضل افتتاح بعض المراكز الأخرى في شبه القارة، الا انه في العصر الفيكتوري حصلت مصادمات ثقافية بعد افتتاح قناة السويس المؤدية الى الهند وانتقال زوجات بريطانيات للانضمام الى أزواجهن هناك. ناهيك عن وصول بعثات دينية تبشيرية مسيحية. فقد راقب القادمون عن كثب رقص بنات "نوتش" في مسارح المعبد ولم يفرقوا بينهن وبين المومسات العاديات، فقاموا بحملات منظمة "لتنظيف" مدينة لاهور منذ العام 1890. ومع بدء القرن العشرين وظهور جماعات اسلامية متشددة في باكستانوالهند تحاربان البغاء تقلّص عدد فتيات "نوتش" وانتقل تراثهن الى السينما، الأمر الذي تسبّب في انتقالهن من لاهور الى الأرياف. وبات "فنهن" شيئاً من الماضي غير جدير بالاحترام. فقط النساء غير المحترمات بقين يمارسن الجنس خارج البيوت الزوجية. ولم تعد فتيات "نوتش" قادرات على الاعتراف بأن فن الرقص هو الطريق الذي ينتهي الى "الزنا" بعدما مُنعت ممارسته قانونياً منذ العام 1979 ويعاقب عليه بأحكام مشددة. فقد جرى رجم بعضهن حتى الموت اضافة الى مئة جلدة بالسوط علناً. غير ان مضايقة الشرطة لهؤلاء الفتيات وارغامهن على ممارسة الجنس بعد اعتقالهن بجريمة الزنا أديا الى هجرة بعضهن في مقابل عقود تدرّ مالاً أقل مما يحصلن عليه في بلدهن. على رغم كل ذلك تبقى بنات "نوتش" لاهور فخورات بتقاليدهن الموروثة مع انهن يلجأن الى استعمال أنواع من اللبان المخدّر المستخرج من التبغ أو شراب مستخرج من جوز القانبول الحار كالفلفل لتخديرهن ومساعدتهن على تقبّل واقعهن. مليحة، الطموحة لأن تصبح ممثلة أو مطربة، وقد وقفت أمام الكاميرا كعارضة أزياء تقول عن تجربتها انها تحب الكاميرا والملابس والزينة والكثير من الموسيقى. ولكنها ترفض تماماً الرقص والغناء خلال شهر محرّم تضامناً مع احتفالات الشيعة في هذا الشهر من كل سنة. ومليحة احدى ثلاث شقيقات من بنات "نوتش" المحترفات لكنها أكثر موهبة وجاذبية وأكثر ظهوراً مع الزبائن علناً، الأمر الذي يميزها مالياً عن شقيقتيها ويعطيها مركزاً أفضل في العائلة التي تدعمها في شكل جيد مع انها عائلة كبيرة مؤلفة من والديها وشقيقتيها وأخ وزوجته وولديه. فهي تدفع الايجار وتقدم مساعدات لبعض الأقرباء. وترتدي أفضل ثيابها التقليدية الباكستانية وتتعطّر وتنطلق ليلاً في شوارع "سوق الماس" في لاهور بين الجماهير وصولاً الى "كوتا" التي تستمر سهراتها حتى ساعات الصباح. تجد في الأسواق صوراً لفتيات "سوق الماس" وفتيات "كوتا" وهن شبه عاريات بكامل زينتهن وصولاً الى العدسات اللاصقة الملونة، وتعرض هذه الصور بحجم "بوستر" للدعاية كي يتعرّف الزبون اليهن عبرها قبل الموافقة على حجز احداهن لمرافقته، وجميع تلك الفتيات لا يتجاوزن الثلاثين من أعمارهن. وجه الطفلة الجميل يؤهلها منذ الطفولة لأن تصبح سلعة ثمينة للبيع في المستقبل. أما الأطفال الذكور فإنهم يؤهلون ليصبحوا قوادين صغاراً أو حتى للدعارة المثلية. خرج عن هذه القاعدة ابن احدى فتيات "نوتش" واسمه اقبال حسين الذي اصبح من أشهر الرسامين المحترفين في باكستان. وقد صرح اقبال في مقابلة معه عام 1998 انه ينتمي الى والدة وجدّة تنحدران من فتيات المتعة العاملات كمحظيات في بلاط مهراجا "باتاليا"، وقد تراجعن عن عملهن كمحظيات للمهراجا بعدما أصبحن مسلمات. كما اعترف ايضاً بأنه كان يحمل ابنة أخته الى الحديقة الخارجية تمكيناً لأخته من الترفيه عن احد الزبائن في الغرفة حيث يعيش مع شقيقته. ولا يزال حسين يقيم في النزل نفسه في هيراماندي "سوق الماس" حيث ولد عام 1950 وهو يرسم النساء المقيمات حوله ونماذج حياتهن مع ان السلطات هناك غير مرتاحة الى عمله وتطالبه برسم حجاب يغطي به بعض المفاتن في رسومه. وقد مُنع حسين من عرض لوحاته للعموم في بعض المعارض الفنية. كما خسر وظيفته في كلية الفنون الوطنية في لاهور. الا ان لوحاته ازدهرت وارتفعت اسعارها الى العشرة آلاف دولار للوحة الواحدة. أما نساء لوحاته، فالحياة بالنسبة اليهن مستمرة كما كانت منذ أجيال وسط عواصف صاخبة من الفقر والخوف والعار.