حضرت قبل أسبوع "مزاد فنون العالم الاسلامي" في دار سوذبيز في لندن، وكان اهتمامي مقتصراً على الجزء الأخير من المزاد الذي ضم لوحات لرسامين عرب، أكثرها من مجموعة كبيرة يملكها الزميل رياض نجيب الريّس. كنت أريد تحديداً لوحة من رسم داود قرم أو عمر أنسي أو مصطفى فروخ أو صليبا الدويهي أو لؤي كيالي، الا ان الأسعار كانت فوق ميزانيتي، وحاولت ان اشتري لوحة لضياء العزاوي، على سبيل العناد، فقد كانت عندي لوحة من رسمه ضاعت بعد ان انتقلت الى منزل جديد في لندن قبل عشر سنوات، ما تركني في حيرة ازاء مدى معرفة عمال النقل باللوحات العربية الحديثة. وهي لم تكن مؤمناً عليها. غير ان أكثر اللوحات بيع بزيادة على السعر الأعلى المحدد، وبقيت أحاول حتى استطعت شراء لوحة زيتية لبلدة معلولا، من رسم فاتح مدرس لم تكن خياري الأول أو الثاني أو الثالث. وقد تعلمت بالتجربة ان أي شيء اختاره في متجر يكون أغلى بضاعة معروضة، وانني لا اختار شيئاً في مزاد الا وأجد ان سلطان بروناي وبيل غيتس ينافسانني عليه، ما يدل على ان ذوقي "مرتفع"، وليس بالضرورة رفيعاً. السلطان وغيتس لم يكونا في مزاد لندن، ولكن لا بد ان أثرياء آخرين حضروا مزاداً في الدار نفسها قبل يومين لكتب السفر والرحلات والتاريخ الطبيعي والخرائط. مرة أخرى كنت مهتماً بالجزء الأخير من المزاد، وهذا ضم كتباً نادرة من مكتبة الدكتور نجيب نسيم طالب يعود أكثرها الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبينها طبعات أولى غير متوافرة من أي مصدر آخر. أهم المعروض في المزاد كان مجموعة رسائل من سانت جون عبدالله فيلبي الى السير بيرسي كوكس، المعتمد البريطاني في العراق، وهي 16 رسالة عما أصبح الآن المملكة العربية السعودية والملك عبدالعزيز، واثنتان عن الامارة الأردنية الناشئة. وكنت استطيع الفوز بهذه الرسائل لو رهنت البيت أو بعته، فقد قدر ثمنها بثمانين الف جنيه الى مئة ألف جنيه، وبيعت بتسعين الفاً. وانتهيت بالمزايدة على بعض الكتب من اسعار تتراوح بين 500 جنيه وألفي جنيه، بعد ان حاولت ان اشتري رسوماً في ستة مجلدات للرسام الانكليزي المعروف ديفيد روبرتس فبيعت ب34 الف جنيه. ليس مهماً ما اشتريت أو عجزت عن شرائه، فقد سمعت بعض الأصدقاء والزملاء يشكو من اننا نبيع إرثاً قومياً، أو نبيع "فضية البيت" كما تقول عبارة بالانكليزية. وهذا صحيح، ولكن الى حد معين، ففي مزاد الأسبوع الماضي أكاد اكون واثقاً من ان المشترين كلهم كانوا عرباً، وانتقلت اللوحات من بيت عربي الى آخر. ولا استطيع ان أقول الشيء نفسه عن كتب الدكتور نجيب طالب قبل يومين، فقد كان هناك مشترون اجانب، الا انني اذكر ان مكتبة كميل ابو صوان النادرة بيعت قبل سنوات في الدار نفسها، وكانت غالبية المشترين من العرب، بمن فيهم الذين زايدوا على الهاتف حتى لا تعرف هويتهم. ومع ذلك فمثل هذه المزادات مفيد لأنه يضع سعراً تقريبياً للوحات الرسامين العرب، فلوحة العزاوي التي فقدتها ربما كانت في حدود عشرة آلاف جنيه، ونحن أصبحنا نعرف حدود اسعار لوحات سعاد العطار وشفيق عبود وآخرين. وربما جنينا فائدة اضافية اذا أعادت وزارة الثقافة اللبنانية النظر في الضريبة المفروضة على الاعمال الفنية، فقد كان من أسباب قرار رياض الريس بيع لوحاته في لندن اكتشافه ارتفاع الرسوم الجمركية على هذه الأعمال اذا قرر اعادتها الى لبنان. وما أعرف هو ان الأعمال الفنية في معظم الدول المتقدمة تعفى من الضريبة، بل تمنع من مغادرة البلد، وأعرف أصدقاء يملكون لوحات بملايين الدولارات، وهم يحصلون على رخصة تصدير لمثل هذه اللوحة فور شرائها، ويجددونها باستمرار ليستطيعوا اخراجها أو بيعها في الخارج عندما يقررون ذلك. وهكذا فالقانون الذكي يمنع اللوحة من الخروج، ولكن يرحب بها داخلة. الصديق العزيز غسان سلامة كان مشغولاً بالفرنكوفونية، في الأسابيع الأخيرة، ولا أصدمه اذا قلت ان الفرنسية مضى زمنها فهي ربما لا تزال لغة الصالونات في بيروت، الا انها لم تعد لغة الديبلوماسية، وكانت هذه آخر معاقلها. وعندما يطرأ خلاف في تفسير معاهدة دولية هذه الأيام تغلب النسخة الانكليزية هل هذه مؤامرة صهيونية اخرى لأن القرار 242 بالانكليزية يقول "أراضٍ"، وبالفرنسية "الأراضي"؟. الدكتور غسان سلامة يتقن الانكليزية، كالفرنسية أو أفضل، لذلك فهو يستطيع ان يتعامل مع الفرنكوفونية بموضوعية، كما لا استطيع انا لأن لغتي الفرنسية مزعزعة أكثر من عملية السلام. ستكون هناك مزادات اخرى، وسأحاول ان اشتري وأفشل. وندمي الوحيد هو على توقفي عن المزايدة قبل عشر سنوات على طقم صحون تذكارية قدمه قادة الاستقلال اللبناني الى الجنرال سبيرز بعد اطلاقهم من قلعة راشيا، فقد ضم صحناً مطلياً بالفضة عليه تواقيع القادة كلهم، ولم يكن بقي منهم على قيد الحياة في حينه سوى عادل عسيران. واشترى الطقم تاجر تحف فنية واختفى به، ولا أزال أبحث عنه حتى اليوم.