الى متى يستطيع "الجسم العربي" تحمل الوجع الذي يتعرض اليه طرفه الفلسطيني؟ هل هناك عتبة معينة، أو لحظة قطع، تبدد معها الآلام عامة وتستدعي رداً جماعياً؟ ماذا لو كنا، في الواقع، أمام حال متذررة وليس أمام جسم موحد حيث تحرق الجمرة موقعها فحسب من دون وجود القنوات الموصلة التي تنقل الشعور بالحريق؟ لا بد من هذه التساؤلات لمعرفة درجة التسامح التي يمكن "النظام العربي" ان يصل اليها امام هذا القمع الاستثنائي للشعب الفلسطيني. واذا كان من توصيف يقال، فهو ان النسيج العربي أظهر، حتى الآن، قدرة فائقة على التحمل تجعل المرء يتساءل عما اذا كنا امام حال صبر وجَلَد لافتة أم أمام لامبالاة مقنعة بتعاطف مُقعد. لا يستطيع احد الادعاء، لاحقاً، انه لم يكن يعرف. أي ان لا مجال لاستعادة التبرير المقدم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في الغرب، والقائل ان اخبار الاهوال المرتكبة في معسكرات الاعتقال النازية لم تكن شائعة. ان وقائع البطش الإسرائيلي بالفلسطينيين هي "الخبز اليومي" لشاشات التلفزة. ويمكن الجزم، بلا خوف المبالغة، ان عشرات ملايين العرب يعاينون، باستمرار، احداث التنكيل، ويستمعون الى نداءات الاستغاثة. ويمكن توقع انهم يهزون رؤوسهم حزناً، ويعبّرون، في احاديثهم وسهراتهم وصحفهم، عن بالغ الغضب والاشمئزاز، وينتصرون، قعوداً، لاشقائهم، وربما ذهب كثيرون منهم الى حد الدعاء على إسرائيل، ودفع بهم شعورهم بالتقصير الى حد شتيمة "اليهود" ولعنهم وتوعّدهم بالثأر. وما يقال عن المشاهدين العاديين يقال مثله وأكثر عن المسؤولين وأصحاب القرار. فهؤلاء يعرفون ما وراء المشاهد اليومية. ويدركون ان الهجمة الإسرائيلية تعبر عن قرار سياسي واع يقابله اضطرار الى ولوج اختبار القوة من جانب الفلسطينيين. وليس سراً، بالنسبة اليهم، ان لا ضوء في آخر هذا النفق، حتى لا نقول ان نفقاً مؤكداً هو في نهاية هذا الضوء. ومع ذلك فإن الغضب المولد لرد فعل لا ينتشر كبقعة زيت. يبقى محصوراً في ميدان المواجهة حيث تبدو الدعوة الى نصرة الشعب الفلسطيني فعلياً مغامرة حمقاء يستحق اصحابها اللوم. "عود ثقاب" الانتفاضة عاجز عن اشعال الغابة، لأن الغابة، ببساطة، خضراء، ومتقطعة الأوصال، والرياح غير مواتية، والاطفائي الأميركي شديد الفاعلية. لقد ظلم طفل الانتفاضة الأول، الذي سقط في حضن ابيه، رضيعة الانتفاضة التي قضت في وسط أهلها. وبدل ان يحصل التراكم الذي يقود الى انفجار حصل تلقيح يقي من المرض ويجعل الجسم أكثر استعداداً ومناعة لتقبله. لقد تحولت الهبّة الفلسطينية الى مشهد يجعل المواطن العربي مجرد متفرج يكتفي من عناء المشاركة بالانفعال، وذلك في انتظار... فيلم السهرة! سببت الانتفاضة تخمة اعلامية تدفع الى مكافأة الذين "يغطونها" كما فعل، مشكوراً، نادي دبي ولو على حساب معاقبة الذين يقومون بها، أي ابطالها الفعليون. المجد لناقل الصورة وليس لصاحب الصورة. والنقل ينتج علاقة بين المشاهد والموضوع توفر نوعاً من الامتلاء، في حين ان العلاقة المفترضة بين المشاهد والموضوع لا يمكنها ان تكون تفاعلية فعلاً الا اذا اكتشف كل واحد، حيث هو، مصلحته الملموسة في المعركة التي يخوضها الفلسطينيون بالاصالة عن انفسهم والنيابة عن الآخرين. هذه هي المشكلة اذاً. هل هناك مصلحة فعلية، جدية، حسية، تربط كل مواطن عربي، أو كل مواطن في الدول المعنية مباشرة بالنزاع، بالانتفاضة الفلسطينية حيث يكون انتصارها تحسيناً لحياته، وهزيمتها زيادة بؤس على بؤسه؟ ليس ممكناً تحديد عتبة الاحتمال من دون جواب واضح عن هذا السؤال.