يبدو أن الانتفاضة التي قام بها الشعب الفلسطيني، أخيراً، في وجه العالم ليستقظ على المشهد المرعب الذي يعيشه هذا الشعب، دفعت بالحدث الفلسطيني ليكون الحدث الأول والأهم في اللقاءات والمؤتمرات السياسية، وكذلك في الملتقيات الثقافية. فلا يمر يوم منذ اندلاع الانتفاضة إلا نسمع عن عمل ما سياسي او ثقافي وحتى اقتصادي، لدعم الانتفاضة. وهكذا بعدما غابت القضية الفلسطينية تقريباً عن المسرح والسينما والتلفزيون، باستثناء التقارير الإخبارية الموسعة وبعض اللقاءات التلفزيونية مع مفكرين وسياسيين مهتمين بالوضع في المنطقة وبالشأن الفلسطيني خصوصاً، نجد الانتفاضة تعيدها إلى واجهة التفزيون. وعن أحدث وجوه تلك العودة فلم تلفزيوني بعنوان "بستان الموت" من انتاج "شركة الشام"، كتبه قمر الزمان علوش أخرجه ناجي طعمة، وهو من بطولة زيناتي قدسية ونبيلة النابلسي ورغداء الشعراني وسامر المصري ومانيا النبواني وزينة ظروف، بالاشتراك مع لينا باتع وعبدالرحمن أبو القاسم. وتقوم فكرة العمل، كما يقول القائمون به، على اعتبارات ثلاثة الأول، تقديم عمل درامي مرتبط بملحمة الشعب الفلسطيني الأخيرة المستمرة فصولها حتى الآن، ارتباطاً كلياً فلا يفقد العمل تأثيره الفني والفكري إذا توقفت الانتفاضة ويتأتى ذلك من طبيعة الأفكار وأسلوب المعالجة الدرامية التي تعطيه صفة الديمومة، من خلال تضمينه تضمينه "عناصر الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي التاريخية والمستقبلية في آن". الاعتبار الثاني، هو الانتقال بالحدث من الطرف الآخر من طرفي الصراع، وهو هنا الاسرائيلي. فما يراه المواطن العربي عموماً أو عموم المشاهدين الآن من أخبار تلفزيونية ومشاهد حية وتحليلات يومية يقتصر على الطرف الفلسطيني: كيف يقذف الفلسطينيون الحجارة ويشعلون الحرائق وكيف يسقط الجرحى والشهداء، من دون توافر إجابة عن سؤال جوهري عن مصدر هذا العنف ونتائجه؟ في هذا العمل محاولة للإجابة عن السؤال وتوضيح صورة الأزمة الروحية والفكرية العنصرية التي يعيشها الفرد الاسرائيلي. وهو ما يغيب تماماً عن يوميات الانتفاضة الخبرية. الاعتبار الثالث أن الاقتراح القائم بعرض الفيلم في مرحلة أحداث الانتفاضة المستمرة يضع الشريط أمام منافس قوي هو ما يراه المشاهدون يومياً على شاشة التلفزيون، من صور واقعية وحية عن القصف والعنف الدامي والقتل المبرمج... إلخ. وهذا يلقي على عاتق العمل مسؤولية ويحمله عبء جذب انتباه المشاهدين، وسط بحيرة من المؤثرات الواقعية والكثافة الإعلامية المثيرة. في حديثه عن اختياره المشاركة في العمل، يقول قمر الزمان علوش: "أعتقد أن هذه الانتفاضة المستمرة ف الأرض المحتلة حرب استقلال حقيقية تولد فيها فلسطين من جديد... إلا أنني أخشى دسيسة ما قد تلغي كل توقعاتنا. ولكن حتى الآن يبدو أن الفلسطينيين لا يفكرون الا باسترداد حقهم المسلوب... ومن خلال متابعتي اليومية أحداث الانتفاضة ظهر في وضوح أهمية الإعلام بكل أشكاله، ودوره في خدمة الحق الفلسطيني في صورة لم يسبق لها مثيل... فإصرار الفلسطينيين على الموت اليومي حرك الشارع العربي وأخرجه من رقاده. وفرض على الرأي العام العالمي أن يتحسس ضميره، ولو قليلاً، ليدرك أن هناك شعباً أعزل صاحبَ قضية، يقتل برصاص محسوب وأعصاب بادرة... وبطبيعة الحال فإن ذلك أعطى الانتفاضة من خلال التأثير والتأثير المتبادل، شحنة من الثقة بالنفس والمعنويات العالية اللازمة للاستمرار. من هنا انطلقت فكرة فيلم "بستان الموت" للإجابة عن سؤالين هما: من أين جاء كل هذا العنف لدى الاسرائيليين؟ ومن أين جاء كل هذين الصبر وقوة الإرادة لدى الفلسطينيين؟". ويروي المخرج ناجي طعمة قصة الفيلم الذي تدور أحداثه في منزل قديم في القدسالشرقية، مكون من طبقتين تعيش في الارضية منهما أسرة فلسطينية مؤلفة من الأب تيسير الرحال زيناتي قدسية والأم نبيلة النابلسي وولدين أحدهما في الرابعة عشرة والثاني في العاشرة والابنة الشابة شفاء رغداء الشعراني، وتمثل الوجدان الفلسطيني والخطاب الوطني الذي تبثه عبر مذكراتها عن أحداث الانتفاضة. وفي الطبقة العلوية تقطن مستوطنة اسرائيلية اسمها أليسا مانيا النبواني، وهي ممثلة مسرح متشبعة بالفكر الصهيوني ومتحمسة لإلغاء الطرف الآخر... يزورها في المنزل شاب اسرائيلي اسمه يوسي سامر المصري، هو رقيب في جيس الاحتلال ومكلف مع بقية مجموعته مهمة من مهمات قمع الانتفاضة. وهذا القمع اليومي المرهق في قتل الأطفال وشبان الانتفاضة يترك أثره في نفسيته ويجعله يعيش حال رعب مستمرة، من خطر أعمال المقاومة التي تترصده في كل خطوة يخطوها. تعمل عشيقته إليسا على الشد من أزره بجرعات يومية من الشجاعة، بمساعدة عم لها اسمه بنيامين عبدالرحمن أبو القاسم، وهو حاخام متطرف يدعو في استمرار إلى إبادة الشعب العربي الفلسطيني كي يعرف الاسرائيليون أن يعيشوا في هدوء وسلام. اننا هنا أمام رمز الثقافة الصهيونية التي تهيمن على الحياة داخل فلسطينالمحتلة، وتعطي الانطباع بتفسخها الداخلي وهشاشة تركيبها القائم على العنصرية وإبادة الطرف الآخر، مع احتفاظها بملامح الحضارة المعاصرة بما فيها من مقولات ومظاهر كاذبة عن الديموقراطية والإنسانية. وفي الطرف المقابل، اي العائلة الفلسطينية، نرى الاسرة تعيش حياة محفوفة بالخطر اليومي، خطر الموت... لكنه موت متوقع ومشتهى "لأنه في سبيل تحرير الأرض والمقدسات وحلم الاستقلال". سقط لهذه الأسرة شهيد في الانتفاضة الأولى في الثمانينات، وها هي تقدم في انتفاضة اليوم شهيدها الثاني. لكن ذلك لم يمنع الأبوين من تقديم الابن الأخير... فالأسرة الفلسطينية تعلن، بلك العذاب والقهر موجودين في العالم. وبلك بساطة، أنها مستعدة للتضحية ليس بالأبناء فقط بل وبكل الأسرة في سبيل تحرير الأرض. فكما حاكت الأخت شفاء العلم الفلسطيني كفناً للأخ الأول، تستعد الأم تحويل العلم الثاني كفناً للشهيد الجديد. أما الأب فلا يجد ما يمكن أن يطفئ نار قلبه على شهيديه، إلا قتل أحد المستوطنين. ويكون في النهاية ضحية للرقيب يوسي داخل المسجد حيث يقتله وهو يقرأ في كتاب اللّه، ثم يوقد النار لكن أطفال الحجارة يصعدون إلى شرفة المئذنة ليرفعوا الأذان ليرتفع اسم اللّه فوق الكارثة. فلحظة يدخل الرقيب يوسي الساحة الخالية ويسير بين أنقاض انتفاضة الأمس مزهواً بالعمل الذي قام به قبل قليل، يظهر لنا من زاوية الاطار وجه عربي ثم نسمع دوي طلق ناري، ويهوي يوسي على إثره أرضاً وتكون بداية النهاية. الفنان زيناتي قدسية يتحدث عن العمل فيقول: "حين يتعلق الأمر بالمسألة الفلسطينية يشارع نبض الفنان، ويملأ المدع العربي شعور بالتقصير، وتنتابه هواجس مريرة واندفاعات محمومة للبحث عن مساحة واضحة في اتساع الحضور الطاغي للفعل اليومي العظيم والمتألق الذي يعمده أبطال انتفاضة شعب فلسطين، بأرواحهم ودمائهم، وينهض السؤال الموجع والمرير، في آن، عن دور المثقف المبدع / الفنان في هذه اللحظات التاريخية المتوهجة. كأن مهمة الحدث أن يباغتنا فيدفع الرجفة في الأوصال. ويتحرك السؤال الماكر والمكرر عن دور الفن والثقافة ونتذكر، والضمير يعاتبنا، أن لهما دوراً استراتيجياً مواجهاً، ماضاً وحاضراً، واستشراف دور نقيض لفكرة المباغت في كل اللحظات. فحين يتعلق الأمر بالوطن تتلاشى حدود المشاعر وتنفتح آفاق الابتكار ويدخل المبدع أتون المكابدة طامحاً إلى تخوم الإعجاز الذي تخطه السواعد الحية والمقاتلة في المواجهة العاتية مع العدو العاتي".