كانت "الصفاء" بداية مجلة شهرية واستمرت كذلك الى السنة 1897. فصدر العدد الأول في كانون الثاني يناير 1886 تحت عنوان: مجلة صناعية تاريخية فكاهية، لصاحب امتيازها ومنشئها علي ناصر الدين ومحلات الاشتراك في بيروت، ادارة "لسان الحال" الأَغر، وفي الجهات عند حضرة وكلائه. طبع العدد الأول في بيروت في المطبعة الأدبية على نفقة منشئها، في 24 صفحة من الحجم الوسط، قياس 17×24سنتم. وقيمة الاشتراك ريال ونصف مجيدي أو ثمانية فرنكات في سائر الجهات، خالصة أجرة البريد. اشتملت المجلة على خمسة أبواب هي: - الأول: في العلوم والفنون والآداب والصناعة. - الثاني: في المناظرات والمراسلات والألغاز والأحاجي. - الثالث: في فوائد تاريخية. - الرابع: في الفكاهات روايات أدبية ونحوها. - الباب الخامس فوائد شتى لتزداد في بلادنا المعارف العلمية. وجاء في "المقدمة" على لسان صاحب الامتياز علي ناصر الدين "تجسّماً بعد ان ظهرت لنا خيالات أو أشباحاً بعيدة المرام وتجنح بعد ان كنّا نقتبس منها شذوراً متفرقة". ويوضح ناصر الدين في مقدمته في الصفحة الرابعة: "بعناية صاحب الدولة واصه باشا متصرف جبل لبنان، وعزتلو نسيب باشا جنبلاط قائمقام قضاء الشوف، قد تعطفت الإرادة الشاهانية أيّد الله سرير دولتها وأيّد سلطان شوكتها بامتياز سامٍ يؤذن بإنشاء جريدة علمية تشمل جميع العلوم والفنون والآداب والمعارف المفيدة على اختلاف أنواعها مع عدم تعرّضها للمباحث الدينية والسياسية بوجه عام". أما سبب تسميتها ب"الصفاء" فيعود "الى صفاء لبناننا السعيد من الشوائب السياسية المقلقة". و"بناء على ذلك انشرحت الصدور وطابت النفوس وقرّت العيون، ولاحت تباشير النجاح في لبناننا السعيد بانفتاح هذا الباب الذي طالما تاق اليه أولو الألباب، باب العلم، الذي نشرت ألويته في أقطار البلاد الأجنبية وسطعت بعض أنواره في بلادنا الشرقية. ولا جرم اننا في أشد الاحتياج الى سلوك هذا السبيل الحميد الذي عليه يدور دولاب السعادة الأدبية والمادية. ويكفينا شاهداً ما أصبحت عليه البلاد الأوروبية من التقدم الأدبي والمادي". كما جاء على لسان منشئها في العدد الأول، موضحاً أهدافها وأسباب نشرها. ويضيف: و"إذا صادفت القبول عند الجمهور ضاعفنا اصدارها في المستقبل". وفي السنة 1897 تحوّلت "الصفاء" الى صحيفة سياسية واحتفظت بمزاياها الأدبية الظاهرة، وتناوب على انشاء مقالاتها الافتتاحية السياسية وتحبير فصولها الأدبية أمام البلاغة ونجل المؤسس الأمير أمين آل ناصر الدين 1876 - 1953 وأمير البيان شكيب ارسلان 1861 - 1946. وعندما صرفت مهمات السياسة ومشاغلها في العام 1896 الأمير شكيب عن مزاولة الصحافة، استقل الأمير أمين بحياطة "الصفاء" وانشاء مقالاتها الافتتاحية السياسية وتحبير فصولها الأدبية. وأضاف الى ابوابها باب اللغة. فكان يقوّم اعوجاج الأقلام بما يتعقبه من عثراتها وينبّه اليه من سقيمها وفاسدها، كالشيخ ابراهيم اليازجي في "الضياء". فإذا "الصفاء" طوال عهده معجم اللغة الحجة وندوة الأدب والفكر ومنارة العلم والوطنية ومجلس عرائس البيان، ومطلع دراري الشعر العربي الصميم. وممّا هو مشهور في أجواء الأدب ان الأمير أمين ناصر الدين ملك من طاقات العبقرية الفذّة ما جعله أمير الدولتين دولة النثر ودولة الشعر. ويذكر فريق من معاصريه انه اصدر "الصفاء" شعراً من ألفها الى يائها، يوم حاول صديقه الحميم أمير البيان شكيب ارسلان، ان يمتحن قريحته الجوادة بطرف خفيّ. اقتراح الأمير شكيب جاء الأمير شكيب ارسلان الى ادارة جريدة "الصفاء" في "عبيه" في مطلع سنة 1901 قبل موعد صدورها بيوم واحد. وقال لصديقه الأمير أمين: - ارجو ان تصدر "الصفاء" غداً، وفيها قصيدة من شعركم العالي في رثاء بطل بلافنا عثمان باشا الغازي. فأجابه الأمين: - لم يبق مجال لهذا. فقال الأمير شكيب: - ما أخال الأمر بشاق عليك. فأجاب الأمين: - سنرى، أتنصرنا القريحة أم تخذلنا؟ وصدرت "الصفاء" في موعدها وفيها قصيدة في رثاء البطل العثماني، عدّت يومذاك من عيون الشعر العربي. فاعجب بها الأمير شكيب كل الاعجاب، واقبل على أخيه الأمين يحييه، ويقول له: - أنت امير الشعر العربي ومروّض قوافيه. وأخالك لا تعجز ان تصدر "الصفاء" شعراً من ألفها الى يائها. وانفضّ مجلس العملاقين، ونوى الأمير أمين ان يحقق له أمنيته. وصدرت "الصفاء" في موعدها شعراً من الباب الى المحراب. فتلقاها الأمير شكيب وأسرع الى ادارتها يقول للأمين: - يا أخا العرب! اذا طلبنا من فقير متليكاً عزّ علينا مناله، ولكن إذا طلبنا من نجيب بك سرسق الملايين اخذناها من دون ابطاء عُرف عن نجيب سرسق انه كان من أغنى أغنياء بيروت على الاطلاق. انك يا أخي أغنى العالمين بأدبك وعلمك وخلقك وفضلك. ما زلت المنارة المتألقة في سماء المشرقين. كتّاب نهضتها الأولى من الذين رافقوها في اطلالتها الأولى وفي أيام مؤسسها علي ناصر الدين 1848 - 1922 طليعة مختارة من أهل العلم واعلام الأدب والفضل الأوائل نذكر منهم: ابراهيم اليازجي وابراهيم الحوراني وابا الحسن الكستي البيروتي واحمد فارس الشدياق ويوسف الأسير وابراهيم الأحدب والدكتور كرنيليوس فانديك والدكتور سعيد ناصر الدين منشئ مقالاتها الصحية ورشيد ناصر الدين وعمر الأنسي وسعيد الشرتوني وأحمد عباس الأزهري والمعلم شاكر شقير وعبدالرحمن سلام والمعلم رشيد مراد الخوري وحبيب باشا السعد وخليل اليازجي ونجيب الحداد ووردة اليازجي ومحيي الدين الخياط وجبر ضومط وظاهر خير الله ومحمد الكستي وعبدالله البستاني ونسيب ارسلان وشكيب ارسلان وعباس حميه ومحمد أبو عز الدين وسليمان أبو عز الدين والأب لويس شيخو اليسوعي وابراهيم الأسود وغيرهم. أما الأقلام التي رافقت "الصفاء" في نهضتها ومسيرتها الطويلة كانت من طلائع حملة الأقلام نذكر من هؤلاء على سبيل المثال: مصطفى الغلاييني وسليمان الظاهر العاملي وأحمد رضا العاملي وعيسى اسكندر المعلوف وفريد العماد وبشارة خليل الخوري وعبدالحميد الرافعي وشبلي الملاّط وداود عمّون وأمين الريحاني ووديع عقل وبولس سلامة ونقولا فياض وحليم دموس والياس أبو شبكة والياس طعمة ولحد خاطر وهاني أبو مصلح وكمال عباس وجميل بيهم وعبدالرحيم قليلات وكرم ملحم كرم وسعيد تقي الدين وأمين خضر وسلمان جابر ويوسف ابراهيم يزبك ومارون عبود وأمين نخله وعبدالله حشيمه وجبران تويني وخليل مطران وحافظ ابراهيم واسماعيل صبري وعباس محمود العقاد ويعقوب صروف ومي زياده ومحمد كرد علي وشفيق جبري وفارس الخوري وخليل مردم بك واحمد سليمان الأحمد ونجيب الريس ومعروف الرصافي واسعاف النشاشيبي وعجاج نويهض ورشيد سليم الخوري وايليا ابو ماضي والياس فرحات ومسعود سماحة وأمين مجيد ارسلان وغيرهم. ومن هذا الحشد الأدبي عدد من تلاميذ علي ناصر الدين المؤسس وعدد من تلاميذ نجله. ويشار الى ان أفراداً من مرافقيها في عهدها الأول، رافقوها طوال العهدين الأول والثاني، وآخرين منهم تجاوزوا العهدين الأول والثاني الى آخر العهد الثالث. ومن مرافقيها في العهد الثاني من دون الأول من تجاوزه الى آخر العهد الثالث، ومنهم من تجاوزه الى العهد الرابع. ومن مرافقيها في العهد الثالث من دون الذي قبله متجاوزينه الى العهد الرابع، رهط من الأدباء والشعراء منهم: خليل رامز سركيس وعبدالله العلايلي وفاضل سعيد عقل وروبير ابيلا ورياض المعلوف ورئيف خوري وهنري أبو فاضل وبولس الشرتوني وألبرت كنعان ونور الدين المدور وغنطوس الرامي وسمير شيخاني وسليم شمس الدين ونعيم الزيلع ونبيه ثابت وعمر أبو ريشة وغيرهم. وكان مدير ادارتها العام طوال العهدين الثاني والثالث الأمير سليم آل ناصر الدين النجل الثاني للمؤسس. وتوالت على "الصفاء" المآزق المادية المحرجة والمكاره الميعشية القاصمة، فلم يبق من الطاقة إلا ان تعود الى مكانها الصداري في جبهة الصراع العربي لمتابعة رسالتها الأصيلة وكشف ما يحيط بها من المكايد المتوالية لتعطيل ما تختزنه من طاقات التنوير الحضاري. انقضت على "الصفاء" في حياطة اصحابها الأوائل من الأمراء آل ناصر الدين العهود الثلاثة. من السنة 1886 الى السنة 1942. وانقضى عليها العهد الرابع من السنة 1942 الى آخر السنة 1961. وفيه كان للقدر يد في التحكم بزمامها وتعرضها لتجارب قاسية. وكان لكلّ عهد رجاله من حملة القلم على ان رهطاً منهم - كما تقدم - رافقها طوال العهود الثلاثة الأول والثاني والثالث. وثانياً رافقها طوال العهدين الأول والثاني. وثالثاً رافقها طوال العهدين الثاني والثالث، ورابعاً رافقها في العهد الثالث متعدياً اياه الى العهد الرابع. وممن رافقوها بأقلامهم ملازمين من أواسط العهد الثالث الى نهايته، وفترات من العهد الرابع، محمد مصطفى العريضي وسلمان جابر. ويذكر ان الوفاً من شباب لبنان وسائر مواطن العالم العربي أخذوا عن "الصفاء" اصول الانشاء واساليبه العربية الصحيحة وسلامة اللغة. ثم لم يلبثوا ان ارتفعوا الى مصاف كبار الكتّاب. وهناك فريق من متولي اشغالها اهلهم استعدادهم واجتهادهم لأن يصبحوا في عداد الكتّاب البارعين. نذكر منهم المعلم داود سليمان والمعلم فريد جابر. موارد "الصفاء" وبالنسبة الى دعم "الصفاء" مادياً كي تقوم بمصاريفها الضرورية، فهناك جهات كثيرة قامت بهذا العمل. فبعد انتقال "الصفاء" الى بيروت، في سنة 1938، وصدورها يومية سياسية كانت النفقة باهظة والموارد قليلة جداً. فكان من المحسن الشيخ ابراهيم نجم أبو عمار المغترب الى بوتوسي مزوري في الولاياتالمتحدة ان تبرع ببعض النفقة على سنين تبرعاً لا تقلُّ قيمته على 200 ليرة عثمانية ذهباً. وكان هذا المبلغ وما يضاف اليه ممّا أدّاه النصراء من بدلات اشتراك سنوية، سدَّ معظم النفقة وهي المكسور من النفقة، إضافة الى المكسور من نفقة السنين الآتية. الأمير علي ناصر الدين اصدرها من سنة 1868 الى حين وفاته في 1922، ثم استمر الأمير امين ناصر الدين في اصدارها من 20 تشرين الثاني نوفمبر سنة 1922 الى تشرين الأول اكتوبر 1953، ثم تسلّمها الأمير نديم ناصر الدين في العاشر من نيسان ابريل 1962، وباعها الى رشدي المعلوف احد اصحاب صحيفة "الجريدة" في بيروت، فأصدرها فترة من الزمن باللغة الفرنسية من سنة 1963 الى سنة 1969. * * * هذا هو تاريخ صحيفة "الصفاء" في عهودها الأربعة، ومن خلال العدد الأول منها، وفي عهدة آل ناصر الدين، علي وأمين ونديم، على مدى 76 سنة متواصلة. وهذا التاريخ، في العهود الثلاثة الأول والثاني والثالث، حفل بجلائل الأعمال، من تاريخ الصحافة الوطنية اللبنانية الحرّة الذي ما يزال يزهو به لبنان.