الذين فوجئوا باندلاع السجال في السياسة اللبنانية بعد أكثر من عشر سنوات على اتفاق الطائف الذي ظُنَّ بأنه أرسى أساساً وطيداً للدولة الوطنية اللبنانية بعد الحروب الطائفية المدمرة، لم يقرأوا التاريخ اللبناني جيداً ولم يفيدوا من عبره ودروسه. فبيان المطارنة وردود الفعل التي أثارها وصولاً الى بيان علماء عكار ما هو في الحقيقة الا استئناف متجدِّد للصراع على الدولة المدنية التي لا تزال منذ القرن التاسع عشر رهينة التوازنات والتسويات الطائفية، حيث تعاقبت التسوية مع الحرب الأهلية والمصالحة مع الفتنة والصيغة أو الميثاق مع التفتيش عن بدائل والسعي الى صيغ ومواثيق أخرى يرى فيها أحد أطراف الصراع الطائفي تعزيزاً لموقعه في حين يجدها الآخر مجحفة وباعثة على الاحباط. كان هذا هو المنحى التاريخي المعهود للدولة اللبنانية منذ نظام القائمقاميتين الى نظام المتصرفية الى صيغة 1943 الطائفية مروراً بالتوازن الذي قام على أساسه لبنان الحديث وولادته من رحم تسوية طائفية أحكمت تاريخه المعاصر كله من الحرب الأهلية 1958 الى النزاعات والحروب التي بقيت تتناسل على مدى الربع الأخير من القرن العشرين. في هذا الاطار يجب أن ننظر الى بيان المطارنة وما تبعه من سجال سياسي لا يمكن إدراجه في نظرنا إلا في السياق عينه مع السجال الذي ميز السنوات الأخيرة على الزواج المدني أو على التعليم الديني في المدارس أو على إدخال التربية الجنسية في المنهاج الرسمي للتعليم انتهاء بالمحاكمة المفتعلة لمرسيل خليفة. وهي كلها ظواهر ملتبسة ومأسوية لانكسار شامل ومقيت في النهضة العربية والثقافة العربية يتعدى الساحة اللبنانية الملغومة أصلاً بالانقسامات الأهلية والطائفية الى كل الساحات العربية المهددة بالتخلف والأصولية والنزاعات المختلفة الوجوه والأشكال. وليس في نيتنا الدخول في مضامين بيان المطارنة أو البيانات وردود الفعل التي أعقبته، فهذه كلها قد تنطوي على السلب أو الايجاب، بل ما يهمنا هو الدلالة التي يحملها اندلاع مثل هذا السجال الحار في الأروقة الطائفية في وقت بدا وكأن الأمور تتجه نحو تأكيد الدولة المدنية. فقد كشف من جديد عن رفض قديم للخروج من إمارات الطوائف الى دولة الحداثة، دولة المواطنية والمساواة المدنية، تلك التي أُشير الى بعض مقوِّماتها وأسسها في التنظيمات العثمانية في ثلاثينات وخمسينات القرن التاسع عشر، ودعا الى قيامها في الحقبة التاريخية ذاتها أو بعدها بقليل، بطرس البستاني وفرنسيس المراش وسليم البستاني وابراهيم اليازجي وأديب اسحق والرعيل الأكبر من نهضويي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولكنها وُوجهت مذاك بالشك والرفض والتكفير حتى من الملل غير الاسلامية التي أُريد حمايتها من التمييز واللامساواة المدنية، لأنه كان من المطلوب دائماً الحفاظ على دويلات الملل والطوائف وإن من خلال صيغ وتوازنات مختلفة متجددة في ظاهرها ثاوية في باطنها على العقل القروسطي اللامدني واللاحداثي. من هنا لا يمكن النظر الى بيان المطارنة وما تلاه إلا من زاوية القلق على المواقع الطائفية. إذ ان ما يخشاه "المطارنة" هو عينه ما يقلق "العلماء". وهو بالتأكيد حصول أي خلل في التوازن أو تبدل في القوى والنفوذ. فما يشهره المطارنة من نقد للسياسة السورية في لبنان أو ما يُطرح بين الحين والآخر من إصرار على إلغاء الطائفية السياسية ليس إلا وجهاً من وجوه الخلاف العميق وغير المعلن في النظرة الى الهوية والى المواطنية والى النظام السياسي المرتجى والمنشود. إن النفوذ السوري في مرآة بيان المطارنة وفي ما أعقبه من أحاديث صحافية وإذاعية، يحمل تهديداً لهوية لبنانية لا يزال اندراجها في القومية العربية موضع لبس وإشكال. في حين أن إلغاء الطائفية السياسية يمهد لهيمنة طائفية مستندة الى عمق جغرافي يضع مستقبل الأقلية المسيحية على المحك. لكن الصورة تنعكس في بيان "العلماء" الذين يجدون في سورية سنداً طائفياً وفي إلغاء الطائفية السياسية قلباً لتوازن القوى ووعداً بغلبة طالما كانت من الأمنيات والأهداف. هذه الدوامة من السجالات المتضادة والمتجددة لا خلاص للمجتمع اللبناني من ثقلها ووطأتها إلا بإحياء مشروع الدولة المدنية الوطنية العاثر، وبإقصاء الديني عن المدني والطائفي عن السياسي، وبالنظر الى اللبناني كمواطن في وطن لا كعضو في جماعة طائفية أو مذهبية أو قبلية. فبالوطن وحده يجب أن يتعيَّن انتماء اللبنانيين وليس بما دونه من عصبيات نخرت التاريخ اللبناني بالحرب والنزاعات المتجددة والمتناسلة منذ القرن التاسع عشر. ولعله بات من الواجب في وقت يكتسح عالمنا تطور غير مسبوق، وتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية غير معهودة، وثورة في القيم والأعراف والمفهومات، الانتقال من ذهنية التسوية والتوازن الى رحابة الانتماء الوطني والقومي وإخلاء الساحة أمام الدولة المدنية وتفرغ أمراء الطوائف للصلاة والعبادة، حيث أن اختلاط الديني بالمدني يفسد الاثنين معاً على ما رأى بطرس البستاني منذ قرابة قرن ونصف القرن. ولعل الرئيس لحود في رده على نداء المطارنة وحديثه عن "المصالح الوطنية العليا واستخلاص العبر من الماضي" يحدس بهذه الحقيقة ويغرِّد ربما وحيداً وسط جلبة طائفية تصم الآذان. * كاتب لبناني.