عندما نتناول العقل الماهوي في سورية" لا نتحدث عن عقل سوري فحسب، بل عن سمة عامة، ربما، للعقل العربي، تجد احد أهم تجلياتها وتطرفها في تلك الابتكارات المفهومية التي ينضح بها السوريون من فترة الى اخرى. وحقيقة الأمر ان العقل الماهوي هو ذلك العقل الذي يعتبر كل مفاهيمه بديهات. فإذا كانت البديهات صادقة بذاتها ولا يمكن البرهان عليها، وهي تصدق على جميع العلوم، وإذا كانت المسلمات غير صادقة بنفسها، ولا يمكن البرهان عليها، خصوصاً في كل علم، فإن التعريف هو الضرورة لتحديد المعاني وتوضيحها. وإذا عدنا الى استخدام بعض المثقفين السوريين لمفاهيمهم، سنجد انهم يتعاملون معها تعاملهم مع البديهات، كمفهوم الثورة والديموقراطية والمجتمع المدني، فهي صادقة بذاتها لا يمكن البرهنة عليها، وتصدق على جميع الأمم والدول. وبهذا فهم لا يعترفون سلفاً بأن نسق المسلمات لديهم يحتاج الى معالجة، لأنه يفتقر الى التعريف، كما انه لا يكلف نفسه" أعني هذا النسق، عناء الارتقاء من البداهة الى المسلمة، وفيما اذا ارتقى قليلاً الى المسلمة يضعها أمامنا كمواضيع هي أقرب للمصادرة على الموضوع منها الى نسق المسلمات. هنالك خطر كبير في العقل المفهومي السائد لدى بعض المثقفين في سورية، فهو عقل ينتج مفهوم الثورة، باعتباره بديه، وإذ ينتقد هذا المفهوم البعض من الذين تداعت بهم السبل الثورية عن الوصول الى السلطة، حيث يعتبر هؤلاء بأن الشرعية الثورية خاطئة، فإنهم يمارسون العقل ذاته بمصطلحات يُنزل بها الى مستوى البديهات كالديموقراطية والمجتمع المدني. فإذا كان العقل الذي انتج مفهوم الثورة باعتبارها بديهة لا مناقشة فيها مُداناً لأنه لا يعرف الثورة، ولا يستخدم التمايز طريقة لتعيين المصطلح، فإنه هو نفسه يعاود ارتكاب الخطأ ذاته عندما لا يُعرّف مصطلحه كالديموقراطية أو المجتمع المدني، إذ انه يعتبر كلا المصطلحين كالبديهة التي تصدق على كل شيء، أو كالماهية السياسية، فهو عقل ماهوي مريض بالماهيات، لا يعترف بأن مصطلحات كالديموقراطية والمجتمع المدني هي نتاج السيرورة، ونتاج الانجاز البشري في سيرورته واقعاً، وبالتالي فإذا كان في الغرب نفسه ديموقواطيات، بما هي تنوع يحتاج الى تعريف يتعين بالتجربة ذاتها باعتبارها خاصة، واذا كان تعبير المجتمع المدني ليس ثمة من اتفاق عليه كمصطلح حتى الآن: بمعنى ان له تعريفات عدة: حتى ان جميع الموسوعات كالإنكارتا، والبريتانيكا، لا تقبل مثل هذا المصطلح، فمن باب أولى ألاَّ يسترسل المثقفون الماهويون في اعتبار هذا المصطلح بديهة وكل من لا يتعامل معه وفق العشوائية المطروحة خارجاً عن الطاعة مفارقاً للجماعة يستحق جهنم!!!، تماماً كما كانوا يفعلون وغيرهم من الماهويين عندما كان البعض منهم يعتبر ان من لا يقبل فكرة الثورة، منادياً بالعقلانية والاصلاح، خارجاً عن خط الجماهير والنقائية البيوريتانية ويمكن ان يقام عليه "الحد". عقل ماهوي، يعني انه عقل حدّي؟!. والحد هو الفصل بين أمرين أي التمايز، كالفصل بين الموت والحياة والفصل بين الحيوان والانسان. وللأسف فإن تناول بعض المثقفين لهذه المصطلحات هو كالحد الذي يفصل بين الوجود الجيد كما يرون والوجود السيئ كما هو مُعاش" أو كما يراه الآخرون. العقل الماهوي لا يقبل بالنقاش. ينتقد بحدية عسف السلطات ويمارس عسفاً موازياً لأنه يعتبر ان مشروعه هو الأصح وهو الأفضل، وبالتالي فهو عقل سلطة استبدادية في المنفى. أن عقلاً ماهوياً يعتمد البديهة هو عقل بدائي لأنه لا يحتاج الى البرهان على مواضيعه ولا يُعرِّفها، فهو لا يعين هل المجتمع المدني يشتمل على الاحزاب أم على المنظمات غير الحكومية أم على النقابات أم على كل هذه معاً؟! ولا يبين على أي أساس اقتصادي يمكن تأسيس هذ المجتمع وهذا المدني. والأمر بالأمر يُذكر، فبعض الماهويين ركبوا فكرتهم وصعّدوا بديهتهم وتوهموا أنهم سيكونون بديلاً من السلطة، بل ان بعضهم كانت لديه قناعة بأن النظام قاب قوسين أو أدنى من السقوط، ذلك ان هجمة الديموقراطية الراكبة على مصطلح المجتمع المدني، ستطيح أي سلطة لأنها هجمة بديهية لا مفهومية ولا تعريف لها ولا مرد لحاكميتها. البعض منهم بدأ فعلياً بتأسيس لجان أحياء فسلموا احدهم شؤون البحث العلمي، أي وزارة التعليم العالي، وآخر لجنة المستهلكين، أي وزارة التموين، وآخر شؤون الثقافة، أي وزارة الثقافة. والسلسلة لا تتوقف، إذ ان هذا العقل الماهوي صدق نفسه كحكومة ظل، لكنه لم يكتشف ان الوهم المصطلحي البديهي لا يصنع واقعاً ولا هو قادر على قراءته في الحدّ الأدنى. وآخر الطُرف البديهية ان بديهة المُفرد تحاول ان تستبد ببديهات المجموع، وهنا لا يتحقق العقل الجمعي الذي يعترف بالآخر بل يسعى للاستبداد بغيره: فواحد من أعضاء اللجان أراد أن يفرض على مجموعته استصدار بيان يرد فيه على السلطة وآراء ممثليها، ولما ارتأت عقلانية بعضهم عدم فعل ذلك، استقال من هذه المجموعة لأن الماهية مقدسة وهي تقتضي أن يفرض رأيه، لأنها... باختصار بديهة!؟؟؟. عقل بديهي هو عقل مستبد، يعترف صاحبه أمام استاذ فلسفة قديم بأنه يتعلم التفكير، ويرمي الأسباب الى استبداد السلطة الطويل، من دون ان يدرك ان السبب يكمن في طبيعة العقل الماهوي الذي يحمله، إذ لا يشكل استبداد أي سلطة مانعاً امام تفكير جمعي تعريفي لا يمتلك الحقيقة؟! بل يُقاربها، ذلك ان الحقيقة لم تكن أبداً مجردة وهي التي يكون نقيضها حقيقة أيضاً كما يقول أوسكار وايلد. لقد تجاوز النظام، وتحديداً رأس النظام، هذا العقل الماهوي عندما تداعى الى عقل الجماعة وعمل الفريق وعندما حدد تعريف الديموقراطية ولاحظوا انه يعتمد التعريف وليس البديهة، ولاحظوا انه عرّف الشفافية وعرّف المفاهيم الذي يستخدمها، بمعنى ان الرئيس بشار الأسد يستخدم نسق المسلمات بدقة تتجاوز البديهات" باعتباره حقي الذي يماثل حقك" وبقوله بدقة: "فالفكر الديموقراطي يستند الى أساس قبول الرأي الآخر، وهو طريق ذو اتجاهين حتماً، وفي شكل أكيد، أي ما يحق لي يحق للآخرين، وعندما يتحول الطريق باتجاه واحد يتحول الى أنانية وفردية. أي لا نقول يحق لنا كذا وكذا، وبل يجب ان نقول يحق: للآخرين حقوق معينة، فإذا كان هذا الحق يجوز للآخرين من وجهة نظرنا أصبح لنا الحق نفسه. فإذاً، الديموقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل ان تكون حقاً لنا، والفكر الديموقراطي هو الأساس" ولهذا يرى الرئيس ان تعريف الديموقراطية يعني انها لا تنطبق على كل شيء كما حال البديهات: أي انها تعبير عما هو خاص، بما يعكس سيرورة الأشياء وواقعها. والتعريف في أساسه تعيين المصطلح كدال الى ذاته، حيث يتضمن التنوع. والتنوع هنا لا يجعل كل تعريف حداً انما يجعله حقيقة المعنى، وهي حقيقة تتضمن الحد والماهية لكنها تتضمن التبدل والتغير معاً. فمصطلح يتم تعيين حده لا يستمر جوهراً وماهية إذا لم يكن بديهياً، ذلك ان تعريف الحد شيء وتعريف المصطلح شيء آخر. وهذا يعني ان رأس النظام تجاوز الجيل السائد من المثقفين تماماً، كما تجاوز الرئيس الراحل تهويمات المثقفين الماهوية التي منعت فهم السياسة والتعامل معها خارج أسوار الايديولوجية. المجتمع المدني كما هو بديهة لا تاريخية ولا زمنية ولا مكانية عند البعض، لا يجعله إلا جمعاً لماهيات تأكل بعضها بعضاً ولا تتضايف كنعت الى منعوت، فالمدني أكل المجتمع، فلا هو مجتمع ولا هو مدني، تماماً كماهيات العقل العلمي عند ماركسيينا ومن سار وراءهم الى يوم الدين، أعني يوم المجتمع المدني، أكل فيه العلمي العقل فلا هو عقل ولا هو علمي. ولم يفهم هؤلاء الذين علمونا العقل العلمي، وهم لا يعرفون من العالم إلا كمحب لا يعرف من الحب إلا كلمة "وحشتني"، أنهم يكررون العقلية نفسها، يكررون المنطق ذاته، فلا هو مجتمع ولا هو مدني، والمسألة تتكرر مرة كدراما مع العقل العلمي والثورة، ومرة اخرى كمهزلة مع المجتمع المدني. قيل ان احد أسباب انقراض الديناصور ان جسده كبر وعقله بقي صغيراً، والمهم ان يكبر العقل، لا ان يتم تهييج الناس، وان يتعلم العقل التمايزات والفويرقات، وأن العالم ليس عقلاً، وان ثمة فرقاً بين الواقع والمفهوم هو الذي يجعل الواقع ليس مفهوم الواقع والمفهوم ليس واقعاً، وان العبث بهذه المعادلة هو عبث بالوجود والعقل والناس ومستقبل البلاد. * كاتب سوري.