قبل حوالى ربع قرن طفا الى السطح من جديد، مفهوم المجتمع المدني، فنال اهتماماً خاصاً وحظوة كبيرة. وقد تم هذا الانبعاث في أوروبا الشرقية وكذلك في ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي. وفي خضم النضال ضد النظام الشيوعي، وعلى اثر انهياره، أصبحت التنظيمات التي ناضلت باسم المجتمع المدني ضد الاستبداد وشاركت في تدميره متميزة بشعبية بارزة. ما ترتب عن هذه الحركة، التي كانت غير متوقعة، هو ما أثار اهتمام المثقفين ورجال السياسة في العالم العربي، وقد ذهب بفصائل منهم الى وصف التحركات الجديدة داخل مجتمعاتهم بمفهوم المجتمع المدني والى تبنيه كوسيلة للتحليل والنضال من أجل تغيير التركيبة السياسية السائدة. فمع مطلع الثمانينات وبعدها انعقدت لهذا الموضوع لقاءات متعددة، وخصصت له كتابات كثيرة. وكانت النتيجة لذلك هي الاعتقاد بظهور المجتمع المدني والعمل على دعمه، على رغم التأكيد على هشاشة هذا النمط من التنظيمات وعلى التيارات والعقبات التي تعارضها، فتردد ووقع ترديد لهذا الشعار على أساس انه وسيلة لقيادة المجتمعات المغاربية نحو تطور ثقافي واقتصادي قادر على كسب المزيد من الحريات. وبحكم ارتباط المفهوم بنضال شعوب أوروبا الشرقية أعطيت الأولوية الى رسم الحدود لهيمنة الدولة في ظل التعددية، وفي اطار هذه التعددية احتلت الصدارة تلك التنظيمات والمؤسسات والهيئات من أحزاب ونقابات وجمعيات وأندية وتعاضديات ووداديات التي تنبثق، في نظر المناضلين والمتحمسين لهذه الرؤية، من المجتمع نفسه، وتعبر عن حقوقه وطموحات شرائحه على اختلاف مصالحها ومشاربها. وكان من الطبيعي في هذه الحالة ان يحصل التداخل المعروف بين التنظير للمجتمع المدني، حسب هذا التعريف، والتنظير للديموقراطية وحقوق الانسان، كما أن النضال من أجل الديموقراطية وحقوق الانسان لم يكن إلا الوجه الآخر للدعوة الى بناء المجتمع المدني. ولهذا المفهوم، كما لخصنا أهم جوانبه، جذور عميقة في فكر وتاريخ المجتمعات الغربية. ولا شك أن الوظيفة الوسائطية والدفاعية للمجتمع المدني ومكوناته بدأت تتبلور، بصيغة مجددة، في عصر الأنوار، خاصة في كتابات آدم فيركوسن، لتنمو بالمجهود الهيجلي محتلة الصدارة. لكن ما يلفت النظر هو اهمال بعض مراحل مناقشتها في تاريخ الفكر الغربي نفسه. فالكتاب المغاربيون يتعاملون مع مفهوم المجتمع المدني بالمعنى الموروث عن تاريخه الجديد، أي إثر انبعاثه الجديد في أوروبا الشرقية، بدون التنقيب عن حمولاته. وهذه الحمولات تمخضت عن الصراعات الحادة التي دارت حوله منذ أواسط القرن التاسع عشر الى غاية الستينات من القرن الحالي، وملخصها معروف: انه التطاحن بين الليبرالية والماركسية، أي بين الرؤية الماركسية التي تقول بأن المجتمع المدني بالمعنى الهيجلي والديموقراطية بالمعنى الذي آلت إليه نظرية الإرادة العامة لروسو، لا يحميان الطبقات الكادحة والشعبية من الاستغلال الرأسمالي، والرؤية الليبرالية التي تزعم أن الإرادة الجماعية يجب فهمها كحصيلة لتوافق الطموحات والنشاطات الفردية، وأن أطروحة العمل الجماعي والانتاج التعاوني لا تؤدي إلا لهيمنة أقلية تدعي تمثيل مصالح الجماعة والى كبت الوازع الفردي للنشاط والابتكار. وامتد هذا النقاش الى غاية الستينات من هذا القرن في صورة الصراعات بين ما سمي بالديموقراطية الصورية والديموقراطية العملية. والآن وبعد انهيار جدار برلين والانهزام الاقتصادي والسياسي للماركسية كما طبقت في بلدان ما كان يسمى بالمعسكر السوفياتي، تكاد الرؤية الليبيرالية تطغى على العالم بأسره ما عدا الصين، وتحاول أن تهيمن على جميع البلدان النامية وعلى الخطاب العلمي والدعائي حول مستقبل المجتمعات الانسانية. لكن، في الوقت نفسه، وتلك هي المفارقة العظمى، تبدو حدودها جلية في العولمة الاقتصادية نفسها: فلا توافق طبيعياً وتلقائياً بين التكتلات في اطار السوق العالمية، ولا توافقات بين مصالح السوق العالمية والمصالح الخاصة، ومصالح الشعوب والدول، ولا توافق بين مصالح الشغيلة ومصالح الرأسمال المعولم. وإذا كانت الحال كذلك فلا بد من الرجوع الى تعريف المجتمع المدني للتعمق في مفارقات المفهوم نفسه وامعان النظر في احدى حمولاته الرئيسية وهي علاقته بالرأسمال والسوق. وسوف يؤدي بنا هذا المسار الى التطرق لجوانب اجتماعية وثقافية اهملت في الدراسات المغاربية السابقة. فلنرجع الى التعريف. يتكون المجتمع المدني حسب هيجل من التنظيمات والنشاطات التي تقوم على أساس تعاقد حر بين الأفراد خارج اطاري العائلة والدولة. وهو فضاء خاص بهذا النمط الاجتماعي الجديد، حيث وكما يقول هيجل: "يتموقع المجتمع المدني في الفرق الموجود بين الأسرة والدولة"، وهو فضاء لا يتأتى له الوجود والاستمرار الا بظهور الدولة قبله ككيان مستقل. ولفظ المجتمع المدني Societe Civile بهذا المعنى استقاها هيجل من آدم فيركوسن ثم طورها وترجمها بلفظ Burgerliche Gesellschaft والتي نقلت الى اللغات الأوروبية الأخرى بلفظ "المجتمع المدني". وبين الفترة التي عاش فيها فركسون والفترة الهيجلية، نما اقتصاد السوق حيث تجاوز المبادلات التجارية الى مرحلة الثورة الصناعية ونما "تقسيم العمل" في اطار "نظام العمل" كما عبر عن ذلك آدم سميث. فالمجتمع المدني، كمجتمع بورجوازي، هو في نظرية هيجل ذلك القطاع من المجتمع العام الذي تدور همومه ومشاغله حول السوق، وهذه نقطة من الأهمية بمكان، حيث أن السوق هو المجال الذي يطغى فيه التعاقد الحر وتنمو بفضله الملكية الخاصة. والعلاقة بين الملكية الخاصة والسوق هي علاقة جدلية طبعاً من حيث ان السوق تتوسع بتوسع الملكية الخاصة وفي نفس الوقت تنمو الملكية الخاصة مع دينامية السوق. في هذه الرؤية الهيجلية أصبح نموذج الحق الفردي للملكية الخاصة هو النموذج لجميع الحقوق الفردية، وهذا الحق يرتبط عضوياً بالحق في تكوين المقاولات والشركات الانتاجية والتجارية التي تنشط بدافع المنافسة، وذلك في ظل الدولة والاستقلال عنها في آن واحد. تكمن مهمة الدولة في الحفاظ على الأمن والحفاظ على حرية السوق بوجه عام. وإذ يركز هيجل على السوق فإنه يعطي أهمية كبيرة لدور الدولة كممثل للمصلحة العامة، أي المصلحة كما يتصورها العقل ويمثلها العقل الشامل. ويحاول هيجل، من خلال هذا التركيز على السوق والتعاقد الحر، أن يرصد مؤسسات خاصة للحد من الأنانية التي من شأنها أن تهدد الكيان كله وضمنه السوق والدولة. وفي هذا السياق يذهب الى اقتراح نوع من "النقابات" تهتم بالتوفيق بين المصالح وجمع الصدقات لصالح الفقراء والشرائح المهمشة وذلك بحكم سير السوق الرأسمالية. وما يهمنا في كل هذا هو الصعوبات التي تتخلل هذه النظرية، وهي التي أشار اليها ماركس عندما ذكر بأن النقابات سوف تدخل في صراع، بعضها مع البعض، بحكم تعارض مصالح الطبقات والشرائح التي تقوم بتمثيلها والدفاع عن حقوقها. ومن هذه المفارقات انبثق التفكير في الديموقراطية كاختيار جماعي وتمثل للمصلحة العامة، والتفكير في اجهزة تضمن الرقابة الدائمة على المنتخبين الممثلين للكيان والمجتمع من جهة، وتضمن الخدمة اليومية في سبيل الدفاع عن حقوق الشرائح الاجتماعية وإبراز تلك الحقوق نظرياً وعملياً. يتبين مما سبق أن المجتمع المدني يكمن في قانون السوق الذي تحميه دولة القانون بالمعنى الذي تبلور عند هيجل. ومن هذا المنظور تأتي أهمية التنظيمات والمؤسسات والهيئات المستقلة عن الدولة في تعريف المجتمع المدني. لأن المشكل يرتبط أولاً وقبل كل شيء بتغيير الدولة كمفهوم وممارسة ومؤسسة حتى تصبح قابلة لمبدأ استقلالية تلك الهيئات بل وخاضعة لمراقبتها. وهذا لا يعني المراقبة بواسطة الانتخابات والمؤسسات البرلمانية فقط، لكن المراقبة اليومية من طرف هيئات متميزة في مفهومها وتركيبها وممارساتها عن الأحزاب السياسية التي تستهدف بالدرجة الأولى الاستيلاء على زمام الحكم. وهذا لا يعني ان هناك اشكالاً في طموح الأحزاب السياسية الى الحكم، فعمل الأحزاب من أجل الوصول الى السلطة أمر مشروع، ولا ينتابه أي نقص أخلاقي في حد ذاته، كل ما هناك هو أن هذا النوع من التنظيم والتعبئة ما هو إلا جزء من المجتمع المدني، وان الجزء الذي يضمن استمرارية هذا المجتمع يكمن في التنظيمات التي تكرس جهودها للدفاع عن الحقوق الاجتماعية والأدبية والثقافية في الاطار العملي اليومي ووسط المجتمع كله بما في ذلك قطاعات الدولة والادارة والأحزاب السياسية والنقابات. وتتعامل هذه التنظيمات مع الأحزاب بمنطق جدلي حيث تتعاضد معها في النضال وفي الوقت نفسه تراقبها كلما أخضعت عملها لمنطق تحزبي محض، او نجحت في كسب الحكم واصبحت طرفاً من الدولة يسعى المجتمع المدني دائماً الى فرض استقلاليته ازاءها. بهذا المعنى، يكون المجتمع المدني الذي يشمل جميع التنظيمات المذكورة بما فيها الاحزاب السياسية والنقابات، فضاء خاصاً لكنه يحتفظ بخصوبته من حيث انجاب اجيال تجدد اليقظة والمراقبة وتجدد تصور العلائق الاجتماعية. ان تحرير السوق تتبعه مشكلة الفروقات في الدخل وانعدام المساواة في الانتفاع من مردوديتها، وتبقى مشكلة التعادل مشكلة قائمة باستمرار. وهذه المعضلة صار حلها اكثر صعوبة بسبب عولمة رأس المال والتقنيات الجديدة للمعلوميات. وانعدام التعادل يظهر على مستوى الشرائح داخل الشعوب والدول، كما يظهر على مستوى الشعوب والدول داخل ما يسمى بالمجتمع الدولي. تكون دولة القانون قادرة على لعب دور الحكم اذ هي تنبثق من اختيار المجتمع، وهذا يعطيها المشروعية للقيام بذلك الدور، وفي اطارها يتم نقاش الفروقات والتوفيق بين المصالح عن طريق الحوار "المتمدن" كما يشير الى ذلك بعض منظري المجتمع المدني كهبرماس وادوارد شيلس. لكن الحوار المتمدن كثيراً ما يكشف عن العنف كلما احتد جو النقاش بسبب ازمة اقتصادية او سياسية او اخلاقية تطرح مشكل الاسس التي يقوم عليها الوضع الاجتماعي نفسه. واحتداد الازمات يفصح عن افق التأزم الذي يبقى دائماً حاضراً ومهدداً، وهو الافق الذي ينبهنا في الوقت نفسه الى الطابع المثالي لهذه النظريات وابتعادها عن المجال العلمي. II لنرجع الآن الى اشكالية التفكير في حاضر ومستقبل المجتمعات المغاربية بواسطة مفهوم المجتمع المدني ونقل هذا الاخير من تاريخه وبيئته الفكرية للتنظير في ما يخص مجتمعاتنا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كالتالي: اذا كان المجتمع المدني يتكون في السوق الحرة وفي تنظيمات مستقلة عن الدولة وتحد من سلطتها، فماذا تكون فائدة هذا المفهوم، النظرية والعملية، بالنسبة للمجتمعات المغاربية؟ لا شك ان الجواب على هذا جد صعب. ولا يسعنا هنا الا الاشارة لبعض النقط في انتظار دراسات معمقة. اول هذه النقط هو ان تحرير السوق في مجتمعاتنا ليس تحريراً من هيمنة تخطيط من نوع سوفياتي او من السيطرة الكاملة لدولة الحزب الواحد على تسيير الانتاج وعلى تقسيم الموارد على الشرائح الاجتماعية. تحرير السوق عندنا يعني تحريره من احتكار وسائل الانتاج وفرص الربح من لدن تكتلات زبونية على اساس عائلي او جهوي - قبلي او طبقي او وراثي او على خليط من هذه الأسس يلحمها التصاهر ومبادلات اخرى اجتماعية واقتصادية. واذا حررت السوق من ضغط واحتكار هذه الانماط الاجتماعية والسلوكية، فهل هناك ما يضمن تلافي التنافس الوحشي، والاستحواذ الاناني، وبديهي ان تنافساً من هذا النوع الجديد سوف ينتج مجتمعاً وثقافة "لا مدنيين" ومبتورين. وبما ان خصوصيتنا كانت والى الامس القريب مزيجاً من قطاع الدولة وقطاع خاص تتحكم فيهما الشبكات الزبونية، فحرية السوق عندنا يمكن ان تدفع بنا من سيئ الى اسوأ، اي الى هيمنة مطلقة للشبكات الزبونية. وتساؤلنا هذا يظهر ثغرة من ثغرات نقل مفهوم المجتمع المدني الى محيطنا بدون تهيئ تربة جديدة لغرسه. وهذه التربة تكمن في اعادة تركيب العلاقات والقيم الاجتماعية والعلائق السياسية والقيم التي تنبني عليها السلطة والدولة. ان تركيب الدولة عندنا ونوعية العلاقات والقيم التي تنبني عليها لا يختلفان جذرياً عن نوعية العلاقات السياسية التي تنبني عليها هذه التكتلات والشبكات التي نرى نشاطها وتأثيرها في السوق والمجتمع بصفة عامة. فهل سيدفعنا تحرير السوق الى الخروج من الاتفاقات والتوافقات الشبه سرية لهذه الشبكات في ظل التركيب الحالي للدولة الى تنافس وتطاحن لا يرحم، وذلك باسم المجتمع المدني، اذا نحن نقلناه عن تاريخ نضال شعوب كانت تريد قبل كل شيء الخروج من الاقتصاد المعمم على النمط السوفياتي؟ وهل هناك مخرج من هذه الثنائية؟ ان المخرج يتأتى لا محالة باعادة النظر في الثغرات التي تشوب الكيفية التي نقل بها مفهوم المجتمع المدني الى المحيط المغاربي. من هذه الثغرات عدم الاعتناء بخصوصية الدولة المغربية وتركيبها، وأسس ونوعية العلاقات التي تنبني عليها سلطتها ومشروعيتها. والى اي مدى بلغ التفكير والممارسة في مشكل الحد من سلطة الدولة. وقد يكون من الاهم التفكير في اعادة بناء الدولة والعلاقات السياسية والقيم التي تقوم عليها حتى تصبح قابلة لشيئين اساسيين: قبول الحدود التي توضع لهيمنتها، من جهة، والقيام بدور قوي للحفاظ على الأمن والوساطة بين المصالح والتيارات، من جهة اخرى، اي ان تقوي الدولة سلطتها الاحتكامية وان تقبل الحد من هيمنتها في آن واحد! ولا بد لنا من الالحاح على كلمة "قبول" لتبيان دور الثقافة في العلاقات ما بين الدولة والمجتمع. فالقبول يتضمن التفاهم ضمن جو من البحث على الاتفاق والاعتراف بمشروعية الاختلاف. وهنا تظهر الثغرة الثانية في نقل مفهوم المجتمع المدني، والتي تتلخص في اغفال ما يمكن ان نسميه بالشعور الذاتي لهذه التنظيمات والرؤية التي تكونها عن نفسها ومسؤولياتها، وهذا الشعور بالذات قد يساعدنا على تحليل جانب من التعريف الهيجلي الذي طالما تم اهماله. لنذكر بأن المجتمع المدني كفضاء خاص "يتموقع بين الاسرة والدولة" حسب هذا التعريف. وبما أننا اشرنا سابقاً الى استقلالية المجتمع المدني عن الدولة، فالأهم في هذه المرحلة من التحليل هو استقلال المجتمع المدني عن الأسرة. والثغرة في نقل هذا المفهوم هي تلك التي تناست ان وجوده لا يثبت إلا بتجاوز علاقات وحقوق الاسرة/ وبصفة عامة حقوق القرابة الدموية، او العلاقات المبنية على شاكلاتها العشيرة، القبيلة او ما شاكل ذلك. والحكمة في هذا المضمار هي الحكمة نفسها التي تحرر العلاقات الاقتصادية السوق من الحقوق والعلاقات التي تخرج عن نطاق العقدة بين اشخاص احرار يمتلكون انفسهم ويتصرفون كملاكين بكامل الحرية في ممتلكاتهم. ومن المعلوم ان العلاقات الأسروية يكون التحامها بالحب وان رابطة الحب لا تخضع لقانون وحقوق وضعية تسهل الموازنة بينها. وفي سياق كهذا لا بد من الخروج من نطاق التلاحم المبني على العاطفة الى نطاق اكثر وضعية وتجرداً للحقوق، وهذا يعني ان النطاق الاسروي نفسه يتموضع كفضاء يجب حده كلما تموضعت الدولة واصبح التفكير في الحد من سلطتها ممكناً. فتنظيمات المجتمع المدني تنفصل عن التركيبة الاجتماعية الموروثة الاسرة، القبيلة المدينة، الحي، الطبقة الاجتماعية… وتتكون بتجمع اشخاص حسب ارادتهم ولأهداف وادوار تختلف عن اهداف وادوار النظم الاجتماعية التي ينشأ الاشخاص ويتربّون في احضانها. وهذا لا يتم الا في حالة استقلال نسبي للوعي عن الاعراف السائدة. وانطلاقاً من هذا المنظور لا يمكن التفكير في ما سمّاه البعض بالعقبات التي تقف في طريق تنمية المجتمع فقط، بل يبقى المشكل مطروحاً حتى في حالة ظهور هذه التنظيمات بكثافة كما هو الحال في المغرب مثلاً لكون هذه التنظيمات نفسها يمكن ان تصبح تركيبة مجتمعية جديدة تضغط بأعرافها على حريات الافراد. فالتحرر اذن يطرح التحرر من ضغط المجتمع نفسه، وهذا لا يمكن ان يتحقق الا بتموضعه، اي بجعله موضع تساؤل وتحليل ونقد. اذا ثبت ان المجتمع المدني يستوجب استنباط مفهوم جديد لمحتواه، يقوم على نقد لحرية السوق وعلى ديموقراطية الحوار على اساس تهديد المصالح الخاصة الانانية للكيان الاجتماعي ككل وعلى اساس تعميق الموازنة بين الاطراف المتحاورة في المجال الاقتصادي والسياسي وهو مسار لا يمكن ان يخلو من مجابهة لتعديل ميزان القوى قبل نقله كمفهوم لتحليل المجتمعات المغاربية والنداء به كشعار رمزي لتغيير الاوضاع المزرية، فان هذا الاستنباط يبقى رهيناً بنقد مزدوج، نقد يتناول تجربة الشعوب التي ظهر فيها مفهوم المجتمع المدني المهيمن الآن في الساحتين الاجتماعية والسياسية، كما يتناول تجربة الشعوب التي ينقل اليها هذا المفهوم وهي هنا الشعوب المغاربية. III هناك محاولات كثيرة لممارسة النقد المزدوج نخصّ منها اربعة انماط ونأتي بها هنا لتبيان نوعية النقد المزدوج الكفيل في نظرنا بسدّ الثغرات المشار اليها سابقاً. النمط الاول كان شائعاً الى غاية السبعينات وكان ينادي بالاخذ بما استحسن من ثقافتنا، وذلك بغير تحديد مدقق لمفهوم وماهية الثقافة، وما استحسن من الثقافة الغربية. وهنا ايضاً بالغموض نفسه. في هذا الاطار كان يبدو وكأن المستحسن من الثقافتين امر جاهز يعرض نفسه! وبعبارة اخرى كانت هذه المقولة تردد وكأننا قد محصنا بنجاح ما هو مقبول وما هو مرفوض في الثقافتين بدون ان نعرف ماهيتهما. وبتزامن مع هذه النظرة كانت هناك الدعوة الاخرى التي نادت بالنقد المزدوج وألحت على تعريف الاشياء بالتدقيق، ونجد لهذا الموقف امثلة في كتابات عبدالكبير الخطيبي. لكنه سرعان ما تبين ان نقد الثقافة الغربية لا يتجاز حدود النقد السريع للهيمنة السياسية والاقتصادية المبنية على المثاليات والميتافيزيقيا. وهو نقد يستمد ادواته من النقد الغربي نفسه ولا يزيد عن كونه امتداداً له داخل المجتمعات المغاربية. ان هذه الصفة في حدّ ذاتها لا تنقص من اهمية هذا النقد، ولكن يبقى السؤال المطروح هو: هل هذا النوع من النقد يجسد تحليلاً لهذه الثقافات؟ والجواب هنا واضح وهو انه ليس كذلك. فلماذا هو ليس كذلك؟ لأن الهيمنة، السياسية والاقتصادية، المتمثلة في الاستعمار والامبريالية، وكذلك الهيمنة الثقافية الخانقة التي نعيشها اليوم، ليست الا نتيجة لعوامل تدفع بعجلتها ولا ينفع معها تفكيك الميتافيزيقا التي تنبني عليها، فلربما هذه الميتافيزيقا نفسها أطّرت الادمغة والجهود ورسمت لها اهدافاً فتحت لها طريق النماء الاقتصادي وغزو العالم. وتبقى المفاهيم والقيم حاضرة في تصارع مع المفاهيم والقيم لقصورها في مجال خلق البديل. وربما يكون الوضع السائد حالياً يناسب المفاهيم النقدية التفكيكية ويكون في الواقع تربة لازدهارها. والغريب هنا ان في الواجهة الاخرى اي نقد المجتمعات المغاربية لا يتعدى هذا النمط من النقد المزدوج التنديد بالتقليد وبهيمنة الديني على السياسي و"اللاهوت" على المعرفة. وهذا التنديد لا يزيد كثيراً عن ادعاءات ذلك النوع المغرض من الاستشراق التي تدعي هذه النظرية الخاصة مواجهته!! فنحن اذن امام وضع غريب: نقد مزدوج لا يتناول الثقافات المغاربية بالتحليل والمراجعة، ولا يخوض معركة المفاهيم والمؤسسات التي تنبني عليها الثقافات في المجتمعات الغربية. اما النمط الثالث فهو الذي يصف الحالة السياسية والاقتصادية المزرية لمجتمعاتنا ويلي هذا الوصف وصفٌُ آخر للمجتمعات الغربية التي كانت الى عهد قريب تنقسم الى رأسمالية وشيوعية فتنعت تلك المجتمعات من طرف رواد هذا النمط بالانحطاط الاخلاقي الناتج عن طغيان المادية. ويذهب ممثلو هذا النسق من النقد المزدوج الى الدعوة الى طريق ثالث يتجسد حسب هؤلاء في ممارسة القيم الاسلامية الاصيلة وهي قيم في رأيهم كانت قائمة، قبل الخلط الذي اصابها من جراء عوامل تاريخية ظهرت بعد العصر الاول للاسلام. وممارسو هذا النوع من النقد يروّجون لأفكار سبق ان رسمت بكل وضوح في كتابات عديدة ومؤسسات للتيارات الاصولية لكتاب كمولانا المودودي وسيد قطب والخميني وآخرين. وهذا النوع من النقد يعتمد على مفاهيم أساسية من أهمها العدل والمساواة والتكافل، وحاكمية الله ضد حاكمية الإنسان التي تعتبر في نظرهم ليست كعبادة للبشر، واعتبر هؤلاء تلك المفاهيم بأنها مفاهيم إسلامية محضة وليست بدخيلة، وكثيراً ما يشددون على أنها تنبع من العقل والفطرة. والفطرة هنا تعني أنها طبيعية وحتمية يطمئن لها العقل كلما ارتقى إلى تسجيلها. إن الاشكال هنا يترتب عن تحليل غير عقلاني للمجتمعات المنقودة والمرفوضة، أي المجتمعات الغربية والمجتمعات المغاربية والإسلامية الراهنة بصفة عامة. ورغم ادعاء هذه الطائفة الاحتكام إلى العقل، فإنها لا تكرس أي جهد للبحث في الأسس العقلية والفطرية التي تكون القاعدة للنظم الرأسمالية والاشتراكية وللمؤسسات الجماعية أو الليبرالية، ومن هنا يبقى الاحتكام إلى العقل والفطرة محدوداً في تصوره للمجتمعات الغربية، ويطغى الخلط بين المادية كمثل أعلى لبناء العلاقات وكقانون لتفسير التاريخ والمعاملات الإنسانية، وبين حب المادة، تلك الظاهرة المتفشية في جميع المجتمعات بما فيها المجتمعات المسلمة قديماً وحديثاً، ولا يخفى ان الرأسمالية تحتكم فلسفياً إلى عقلانية النزعة الفردية كمثل تتحقق بوسيلته فضيلة الفرد والمجتمع. وكان من الواجب على هذه الطائفة ان ترد على الاطروحات الليبرالية والماركسية وعلى ممارساتها من زاوية منطقها الفلسفي وأسسها العقلية بدلاً من ضربها بسبب ذعيرة أي حب المادة تشترك فيها مع نظم أخرى. وأما عبادة الإنسان للانسان، فالجدير بالذكر أن الأسس الفلسفية للرأسمالية والشيوعية لا تقبلانه، وان فصائل من الأولى تتبنى عبادة الله، وأن الثانية مبنية على قولة تحرير الانسان من الاستغلال، والعقل هنا الذي لا بد أن يسعى الجميع إلى الاحتكام إليه يحتم تحليل مفهوم حاكمية الاله عقلياً. وإذا تم هذا فلا بد من الاقرار بأن مفهوم حاكمية الاله وتطبيقها يتوقف على وجود أناس، رجال ونساء، يفسرون الوحي ويقومون بوضع المؤسسات التطبيقية في الحياة اليومية. وبحكم جهودهم تصبح الحاكمية عملياً في أيدي حزب بشري، ولا مخرج من ذلك. اللهم التأويلات المختلفة للوحي وتطويرها حسب الظروف ووضعية الناس العلمية والاجتماعية، خصوصاً ذلك الجانب من الوحي الذي شرعت على أساسه الشرائع وسنت على أساسه السنن انطلاقاً مما جاء به الوحي من معايير وقيم لبناء النظم والمؤسسات. وفي هذه الحال تصبح الأمة عبارة عن مجتمع يتشاور حول المؤسسات والمسطرات الكفيلة بضبط سيره اليومي وتنميته، والاعتراف بدور البشر في الفهم والتأويل يحتم إقرار حرية السلوك والفكر. أما النوع الرابع من النقد المزدوج فهو ذلك الذي يتبنى العقلانية وينتقد التقليد الأعمى، في مجتمعاتنا وتاريخنا، ثم ينتقل إلى الفكر الأوروبي ويأخذ عليه أحد مزاعمه الأساسية وهي تفضله على المجتمعات الأخرى باختراع العقلانية وتنميتها. وهذه النقطة مرتبطة طبعاً برفض الهيمنة الأوروبية فكرياً. ويتبنى هذا النوع من النقد العقل كفاعل أساسي في الفكر الفلسفي الإسلامي خصوصاً عند ابن رشد وابن خلدون ليفند بذلك منطق القياس الذي ساد تاريخنا وكان حسب هذه النظرة سبباً في التزمت والتقليد الذي أديا بالمجتمعات المغاربية والعربية - الإسلامية بصفة عامة إلى التعثر وراء الثورات التحديثية التي عرفتها جاراتها الأوروبية. والمشكلة في هذا النوع من الممارسة النقدية أنها لا تنظر للتقليد كشيء تاريخي يزعم الأزلية، وأنها تتبنى عقلانية تكاد تمنعها من استيعاب التجارب الدينية والفكرية والفنية التي تخرج من مجال العقل إلى مجال الايمان والحدس والشعور بالوجود ككل، وهذه التجارب كلها تفرض حرية جذرية لا تتطابق ومنطق الضغط ولو كان باسم العقل، ولا تقبل العنف إلى في الدفاع عن ذاتها. * أستاذ الانثروبولوجيا في جامعة برنستون، الولاياتالمتحدة الأميركية.