هل الانتفاضة الفلسطينية عبء على الوضع العربي العام؟ يبدو ذلك. لا يستطيع هذا الوضع، في حاله الراهنة، حملها، ولا يمكنه تجاهلها. تبنيها من جانبه يفرض عليه تماسكاً لا يريده. فهي اندلعت لأن هناك من شجع القيادة الفلسطينية على رفضها عروض ايهود باراك. وهي استمرت لأن المؤسسات العربية، بما فيها القمة، وعدتها بالمساعدات. وهي تغذت من إعلام رسمي يقدمها بصفتها التعبير عن المحصلة الإجمالية لمواقف المنطقة. والذهاب في المنطق حتى نهايته يعني ابداء الاستعداد لمواجهة أرقى مع تصلب الحكومة الإسرائيلية وصياغة جديدة للعلاقة مع الولاياتالمتحدة. والأمران ليسا في وارد العدد الأكبر من الأنظمة العربية المعنية. لكن تجاهل الانتفاضة ليس اكثر سهولة. فهو يعني التسليم لإسرائيل بحل يعكس نفسه على توازنات الشرق الأوسط كلها، ويضعف المواقع الإقليمية لغير بلد عربي. أضف الى ذلك ان التعاطف الشعبي العربي، ولو في نسخته السلبية، مع هبّة الشعب الفلسطيني يحرج الحكام. لن يكون في امكانهم الاستمرار، بالسهولة إياها، في ممارسة قسوة محسوبة على شعوبهم إذا انكشفت اوضاعهم امام إسرائيل. وإذا كان "عناد" الشعب الفلسطيني يجعل الأمور صعبة فإن توجهات الحكومة الإسرائيلية الجديدة تجعلها معقدة جداً... صعبة ومعقدة على حكومات لا تستطيع الحرب طبعاً، لكنها عاجزة عن بناء موازين القوى التي تجعل السلام العادل ممكناً. الانتفاضة عبء، فهي ترغم من لا يرغب على مواجهة حقيقة يراد تغييبها: لا مجال لتسوية "محترمة" من دون نهج آخر في التعاطي مع الولاياتالمتحدة. ويفترض هذا النهج تغييراً ليس بسيطاً في الخطاب الرسمي، وفي السياسات الأمنية، وفي التحالفات الدولية، وفي البرامج الاقتصادية، وفي العلاقات الداخلية... وتعرف واشنطن ذلك تماماً. فهي اختبرت، منذ السبعينات، هذه الذهنية التي تتراجع عند اصطدامها بجدار التصلب. كان ذلك ايام الحرب الباردة، فكيف الأمر اليوم والبدائل على ما هي عليه. ولأن واشنطن تعلم فهي لا تمانع في اهتراء لا يتحول الى اضطراب واسع. والعجز العربي عن امتلاك وسائل هذا الاضطراب هو الذي يولد الشعور بأن الانتفاضة "ثقيلة" ويصعب احتمالها. التعبير السياسي عن تحول الانتفاضة الى عبء ليس ضعف المساعدات المادية المقدمة إليها، ولا الإسراع الى تقديم مبادرات والتصرف بمرونة حيال التعديلات الإسرائيلية الجذرية عليها، ولا الكلام المنسوب الى هذا الزعيم العربي أو ذاك. كلا، إن التعبير السياسي هو في العودة الى قراءة مزيفة للتاريخ القريب، تقوم على قاعدتين: الأولى أن الفلسطينيين أخطأوا برفض العرض الباراكي، والثانية أن أحداً لم يشجعهم على هذا الرفض ولم يدعم إصرارهم على استرجاع المقدسات وإحقاق غيرها من الحقوق. وبناء على هاتين القاعدتين يمكن بناءً شامخاً ان يرتفع: ان عرفات هو المسؤول عن وصول شارون، والانتفاضة عن تردد الإدارة الأميركية، ورفض اقتراحات بيل كلينتون عن سقوط آل غور، والتمسك بالانسحاب عن زيادة الاستيطان، والدفاع الشرعي عن النفس عن الحصار والقصف والجرف، و"الإرهاب" عن انحياز الجمهور الإسرائيلي. ان رفض بلوغ سن الرشد، بمعنى وعي الأهمية الحاسمة لضرورة الرد على السياسة الإسرائيلية، يقود الى انتكاسة طفولية تحمّل الضحية مسؤولية ما ينزل بها وترفض مد يد العون إليها طالما انها هي التي "اختارت" الانتحار. ليس الاحتلال هو العبء بل الانتفاضة، لذلك فإن الخلاص منها مطلوب بأي ثمن للخلاص من شاهد يعلن، بلا كلل، وجود فضيحة عجز جماعي يومية.