من الواضح أن سيرورة العولمة باتت، اليوم، سيرورة فاعلة وحقيقية، في اساسها وجوهرها. وواضح أيضاً ان الدينامية الخاصة التي تحملها هذه الظاهرة - مأخوذة في المعنى العريض للكلمة - تقف في التعارض مع تصور من نمط اسطوري هو ذاك الذي تنشره المنظمات الجامعة للحكومات، بالنسبة الى دنو ما من القضية الاجتماعية. وفي اطار السرعة التي نلحظها، عند بداية القرن الجديد، في مجال تحقق العولمة المالية، التي تمثل عامل دمج حقيقياً، ثمة موضوعة بدأت تتجسد، حتى وان كانت لا تزال حتى اليوم عند مستوى جنيني. والأمر يتعلق هنا بالاشكالية الاجمالية المرتبطة بايجاد تصور نظري للأنماط الاجتماعية الموصوفة بأنها "أساسية" وتحديدها ووضعها موضع التطبيق، ولكن الأمر يتعلق أيضاً بالمحور الذي تقوم عليه مسألة الارتكان الى مبدأ "النزاهة" في مجال التبادلات التجارية عبر الاعتراف ب"الشأن الاجتماعي"، كما عبر المجابهة بين منظمتين عالميتين، هما "المنظمة العالمية للتجارة" م ع ت و"المنظمة العالمية للعمل" م ع ع . والواقع ان هاتين المؤسستين تتنازعان أمر الاهتمام بهذا المجال" الأولى تساندها الدول المتقدمة التي تريد ان تفرض، باسم العدالة الاجتماعية، نموذج تطورها الاجتماعي من طريق فرض قواعد ضاغطة، فيما تساند الثانية دول نامية تخشى نوعاً من العودة الى نظام حماية مقنع. وتبرز هذه القضية، تحديداً، من خلال واقع ان عولمة الاقتصاد، كما نتصورها اليوم، تفترض وجود الحد الأدنى من الضوابط. فالذي يحدث هو أنه في مواجهة تسارع التبادلات الاقتصادية والتجارية تتدفق أموال استثمارات أجنبية مباشرة، لتشكل قاعدة العولمة والتعددية، ما يجعل من الحتمي فرض قواعد معينة بغية تفادي الوصول الى نوع من تقييس الشروط الاجتماعية عند مستويات الحد الأدنى. والحقيقة ان المتطلبات الخاصة بهذه العولمة الاقتصادية قد يكون من شأنها ان تمنع شعوب الأمم "المتقدمة" من الافادة من شروط العمل الاجتماعية التي تعيش اليوم في احضانها، وذلك بسبب منافسة غير نزيهة قائمة، طالما ان التجارة تقوم اليوم مع أمم لا يتمتع فيها العمال بالحقوق الاجتماعية نفسها التي يتمتع بها عمال الدول المتقدمة. وبالنتيجة، ومن أجل تفادي استشراء الفوضى المولدة للظلم، توضع موضع الصدارة في الوقت الراهن اهتمامات تتعلق بادخال ما يطلق عليه اسم النزاهة في التبادلات الدولية، بما ينتج من ذلك من وصول الى الابعاد الاجتماعية. القدرة على المنافسة هنا لا بد لنا من ملاحظة وجود نوع من الوعي بهذا الأمر المحوري على مستوى دولي. فهناك الآن مواقف وممارسات، غالباً ما تبدو مثيرة للتنديد، تجعل من الدول التي تسودها اجور ضئيلة ولا يتمتع عمالها بحماية اجتماعية حقيقية، دولاً قادرة على المنافسة. وهكذا نرى كيف ان عمال "الجنوب"، الذين ينافسون عمال "الشمال"، يتمتعون بمزايا زائدة كتعويض عن قلة متطلباتهم. وهذا الوضع يطلق عليه اسم "الاغراق الاجتماعي" أي خلق ظروف تنافس غير نزيه يرجح كفة البلدان ذات الكلفة المنخفضة. وهذا الوضع وما يترتب عليه، تحاول الآن كيانات مختلفة - ومنها الدول - أن تتحرك خلال مفاوضات "حلقة الاورغواي" التي كانت آخر دورة من دورات مفاوضات "الغات" بين 1986و1993، طالبت الدول المتطورة بفرض قانون اجتماعي على النظام التجاري العالمي، همه الأساس التصدي ل"الاغراق الاجتماعي" Dumping Social. وكان المطلوب، في شكل ملموس، ايجاد اجراءات تجارية تعاقب كل الخروقات الحاصلة في انماط التشغيل والاستخدام، وتهدف، عبر ذلك الى ربط فتح السوق باحترام عدد معين من القواعد في المجال الاجتماعي. ويذكر ان انماط التشغيل والاستخدام التي جرت المطالبة بفرضها، هي ستة: حرية العمل النقابي للعمال والاجراء" حق التفاوض الجماعي" حظر تشغيل القاصرين والأطفال" منع أي تمييز في مجال التشغيل وإسناد المهمات" حظر عمل السخرة والتشغيل بالقوة" وأخيراً توفير حق الضمان الاجتماعي والصحي في اماكن العمل للعمال. صحيح ان دول الجنوب لم تبد أي اعتراض مبدئي على تلك الرغبة في اخضاع التوسع التجاري، الى الاهتمامات الاجتماعية" غير انها رأت أن تلك المعايير انما تفرض من بلدان كان لديها من الوقت ما يكفي لتطوير ترسانتها الحقوقية في المجال الاجتماعي، وانه من البين ان الدول النامية ليست قادرة على ذلك، في الوقت الراهن، كما انها لا تملك القدرة على تطبيق مثل هذه القواعد والنظم داخل منظوماتها الاقتصادية. ومن هنا رأت تلك الدول أن في الأمر، خارج اطار البعد الاجتماعي والاخلاقي، نوعاً من العودة الى سياسة الحماية، انما عبر أساليب مقنّعة. ورأى عالم الاقتصاد الهندي جاغديش باغواتي، أن الدول المتطورة، تعود الى سياسة الحماية الذاتية، عبر المزج بين التجارة والشؤون الاجتماعية والأخلاقية، وتساءل في هذا الصدد: "هل يمكننا ان نأمل من لاعبي البوكر، وهم يحتسون الويسكي ويتبادلون الحكايات الماجنة، أن يتوقفوا فجأة لإنشاد الاهازيج الدينية؟". أما الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، الذي كان يرى أنه يجب فرض الحد الأدنى من المعايير ضمن اية سيرورة تداول في اطار منظمة التجارة العالمية، فيقول: "انه لا ينبغي لنا ان نشتري أية منتجات آتية من بلدان تخرق قواعد حظر تشغيل الاطفال، ولا من مجتمعات تقمع اليد العاملة". ضد فرض المعايير والحال ان البلدان النامية دائماً ما وقفت ضد فرض أية معايير اجتماعية، وهي عاودت التشديد على هذه الرغبة خلال المؤتمر الوزاري الأول للمنظمة العالمية للتجارة والذي عقد في سنغافورة خلال شهر كانون الأول ديسمبر 1996، وهي كسبت الجولة يومها، حيث ان "اعلان سنغافورة" الذي تم تبنيه يوم الثالث عشر من ذلك الشهر، أقر بأن المنظمة العالمية للعمل، هي الهيئة الوحيدة الصالحة لدراسة هذه المعايير والنظم والانكباب عليها. وكذلك رفض التقرير أي استخدام للقواعد تفوح منه رائحة الحماية، واعترف بأن الامتياز التنافسي للبلدان ذات الأجور الزهيدة لا ينبغي ابداً ان يخضع الى أية اعادة نظر" واضافة الى هذا خلا الاعلان من أية بنود تتحدث عن مفاوضات جديدة تجري حول هذا الموضوع، ووافق في النهاية على قيام تعاون في المجال نفسه بين المنظمة العالمية للتجارة والمنظمة العالمية للعمل. إن المحور العملي للاشكالية المتعلقة برسم تصور وتحديد وتطبيق للمعايير الأساسية، يكمن في واقع ان السمة الواقعية والضاغطة لتحرك المنظمة العالمية للتجارة، انما يسمح بتفعيل، على المستوى العالمي، رغبة لن تسفر، في نهاية الأمر عن أية نتيجة اذا ما اقتصر الاهتمام بها، كما هي الحال، على هيئة مثل المنظمة العالمية للعمل. ولهذا الأمر تحديداً، نجد ان الدول النامية لا تساند سوى المنظمة ذات الاهتمام الاجتماعي، ضمن اطار هذا الصراع. فإذا ظل الأمر محصوراً ضمن اطار هذه المنظمة الأخيرة منظمة العمل، من المؤكد انه لن يكون في الامكان تحقيق اية نتائج ملموسة، على المدى القصير على الأقل. وهنا يمكن القول ان مجمل المعطيات، وكذلك ضروب التقدم المتحققة في هذا المجال، سوف تظل، عملياً وبكل بساطة، عند مستوى التوصيات. أما اذا حدث وأسند الأمر الى المنظمة العالمية للتجارة، فإن محوراً أكثر عمقاً وأهمية سيكون في جوهر اللعبة: هو محور التبادلات التجارية. وهنا سوف تجد بلدان الجنوب نفسها مضطرة لأخذ البعد الاجتماعي - الاخلاقي، في الاعتبار في سياساتها الاقتصادية. بيد ان الواقع يقول لنا ان المنظمة العالمية للعمل هي المهيمنة حالياً على الموضوع، يقوي من عزيمتها ما جاء في "اعلان سنغافورة". وهذا ما جعلها قادرة على ان تتبنى، خلال الدورة السادسة والثمانين - حزيران يونيو 1998 اعلاناً يتعلق ب"مبادئ العمل الأساسية وما يترتب عليها" كاستكمال لما جاء في المؤتمر الوزاري في سنغافورة. وعبر هذا الاعلان الجديد، أتى مجموع الاعضاء ليجددوا تعهدهم احترام وتشجيع وتنفيذ المبادئ التي تحكم معايير التشغيل. أما ملحق الاعلان فأتى ذا طبيعة ترويجية، حيث اعلن انه يقدم "درباً جديدة لنشر المعلومات المتعلقة بتلك الحقوق والمبادئ المرتبطة بحاجات النمو الاقتصادي والاجتماعي". وفي الوقت نفسه ارفقت ب"الاعلان" دينامية استلحاقية ذات دلالة تقوم على أساس التقارير الهادفة الى توفير تعاون تقني يدعم الجهود المبذولة من البلدان للتوصل الى احترام لمبادئ العمل وحقوقه. أما التقرير الأول الاجمالي فإنه اتى منضوياً ضمن اطار "الاعلان" المذكور وعنوانه "صوتكم في العمل" وقدم في حزيران 2000. وهذا التقرير أتى ليلقي الضوء على التوجهات المتعلقة باحترام حرية اقامة الجمعيات وحق التفاوض الجماعي في العالم. والحال ان هذا التقرير هو الأول في سلسلة من التقارير السنوية التي ستعالج بالمداورة كل واحدة من الفئات الأربع التي تضم المبادئ والحقوق الأساسية. وفي النتيجة ستكون التقارير الأولى تقارير شاملة اخرى في الاعوام 2001 و2002 و2003، تتعلق بقضايا يغطيها اعلان العام 1998. ومن الواضح ازاء هذا كله ان دنو المنظمة العالمية للعمل من الأمر وتدخلها فيه، مسألة طويلة الأمد، وتقف بالتعارض تماماً مع الرغبات التي تعبر عنها المنظمة العالمية للتجارة، والتي تفضل التوصل الى نتائج سريعة ومباشرة في المجال نفسه، نتائج تكون ملموسة أكثر، وبالتالي أكثر فاعلية. وضع موقت بيد ان الوضع الراهن لا يمكنه الا ان يكون موقتاً، بالنظر الى ان القواعد الاجتماعية سينبغي، عاجلاً أو آجلاً، وضعها موضع التطبيق في منظومات التبادل. أما الدلالة الحقيقية لهذا الوضع شبه الجامد، فهي أن السمة الواقعية تأتي أولاً. وذلك لأن البلدان النامية ليست قادرة في الوقت الحاضر، على اتباع مثل تلك المعايير وجعلها متحكمة في اقتصادياتها اليافعة، لأنها لو فعلت سوف تفقد القدرة على المنافسة وبالتالي سوف تنهار اقتصادياتها، في زمن تقف أمم الشمال ضد أي تبادل تجاري مع أمم لا تحترم المعايير المحددة. ومعنى هذا: عودة نظم الحماية ونهاية التبادل الحر! في هذا الاطار لن يكون من المبالغة ملاحظة وجود علاقة دقيقة بين رفض اتباع معايير اجتماعية في العمل ولو عند أدنى الحدود، والرغبة في اسناد تحديد هذه المعايير الى المنظمة العالمية للعمل لا الى المنظمة العالمية للتجارة. وذلك لأننا مع هذه الأخيرة نكون كما لو اننا نعود الى عصر اللجوء الى العقوبات التجارية، من طريق الشأن الاجتماعي، وبالتالي الى تلك السمة القانونية الضاغطة التي تشهد على واقعية الدينامية الاقتصادية والتجارية. وفي هذا تعارض تام مع الطابع "الطوباوي" للمنظمة ذات الهم الاجتماعي. وفي النهاية لا بد من القول ان الرغبة في فرض مطلق للمعايير الاجتماعية، لا يمكنها ان تتحقق من دون المطالبة بفرض معيار اجتماعي في التبادلات نفسها، معيار من شأنه، هو، أن يطرح على بساط البحث ما يؤسس لمشروعية التجارة نفسها" أي عنصر المزايا التنافسية. ومعنى هذه ادخال بعد اخلاقي معين عبر العقوبات التي يمكن ان تنزل بالبلدان "الغشاشة". انه لمن الصحيح ان المنظمة العالمية للعمل هي مبدئياً وواقعياً، المنظمة الأكثر قدرة على تفهم وتولي تحديد المعايير وتعريفها. ومع هذا، وكما ينص - في صورة شكلية طبعاً - اتفاق سنغافورة، إن امانتي المنظمتين يجب ان تتعاونا في مجال التطبيق. وفي مطلق الأحوال، من الواضح ان تدخل المنظمة العالمية للتجارة، يتموقع عند مستوى الاعتراف بشروط العمل كفعل خير، يمكن جعله قيد التبادل في الأسواق العالمية. وأنه لمن السهل ادراك ان هذه السمة سوف تكون المهيمنة على المدى البعيد. أما احترام شروط العمل، ك"فزاعة" أو ربما كحافز مروج للاقتصاد المعولم، لن يكون فاعلاً الا بفضل الشأن الاجتماعي - الذي يتحول هنا الى ابتزاز تجاري - وبالتالي، بفضل أي تدخل تنفرد به المنظمة العالمية للتجارة، التي ستكون قادرة على فرضه ضمن اطار منظومة لا يُكف عن التنديد بها، وتحديداً بسبب لا أخلاقيتها. * جامعية لبنانية مقيمة في فرنسا.