عرض "نسابق الأحلام" الجوي يزين سماء العاصمة بمناسبة اليوم الوطني ال 94    كوليبالي خارج تشكيل الهلال بمواجهة الاتحاد    Space X متهمة بالتعدي على ممتلكات خاصة    لقاح على هيئة بخاخ ضد الإنفلونزا    بشرى سارة لمرضى ألزهايمر    اصطياد ال 6 الكبار..إسرائيل توجع حزب الله    "اليوم الوطني".. لمن؟    بعد اتهامه بالتحرش.. النيابة المصرية تخلي سبيل مسؤول «الطريقة التيجانية» بكفالة 50 ألفاً    تفريغ «الكاميرات» للتأكد من اعتداء نجل محمد رمضان على طالب    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    السعودية تتصدر دول «العشرين» في نمو عدد السياح الدوليين في 2024    الصين لا تزال المصدر الرئيس للاوراق العلمية الساخنة    كلية الملك فهد الأمنية الشرف والعطاء    الشرقية: عروض عسكرية للقوات البحرية احتفاءً بيوم الوطن    زاهر الغافري يرحلُ مُتخففاً من «الجملة المُثقلة بالظلام»    الفلاسفة الجدد    حصن العربية ودرعها    أبناؤنا يربونا    بلدية الخبر تحتفل باليوم الوطني ب 16 فعالية تعزز السياحة الداخلية    القيادة تهنئ الحاكم العام لبيليز بذكرى استقلال بلادها    شكر وتقدير لإذاعتي جدة والرياض    "البريك": ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الإنتماء وتجدد الولاء    مآقي الذاكرة    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الفوز على ضمك    مصر: تحقيق عاجل بعد فيديو اختناق ركاب «الطائرة»    اختفاء «مورد» أجهزة ال«بيجر»!    "الأوتشا" : نقص 70% في المواد الطبية و65% من الحالات الطارئة تنتظر الإجلاء في غزة    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على القصيم والرياض    فلكية جدة: اليوم آخر أيام فصل الصيف.. فلكياً    انخفاض سعر الدولار وارتفاع اليورو واليوان مقابل الروبل    الشورى: مضامين الخطاب الملكي خطة عمل لمواصلة الدور الرقابي والتشريعي للمجلس    2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    الاتحاد السعودي للهجن يقيم فعاليات عدة في اليوم الوطني السعودي    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قراءة في الخطاب الملكي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجتمع المدني بعضاً من دائرة علانية عامة وبورجوازية ... عناصره واستؤاؤه مثالاً تاريخياً . ائتلاف الجمهور من أفراد خارج السياسة والاقتصاد ... وإنكاره على السلطان أصله المرتبي 2 من 2
نشر في الحياة يوم 07 - 04 - 2001

فتكوَّن جمهور القراء، قراء الصحف والكتب والرسائل على معنى المقالات في موضوعات متداولة والأعمال المسرحية والروايات، من الروافد المتفرقة هذه. وتألفت نواة الجمهور من البورجوازيين الجدد والطارئين على البورجوازية التقليدية والبلدية. وانعقدت وحدة هذا الجمهور الجزئية على ركنين: الدائرة التي يصدر عنها، وتلم المدينة خيوطها وتتصل بالمدينة من طرق كثيرة، ودائرة "البلاط" التي تقوم المدينة وُجاهها وبإزائها مقام القطب المقابل والمكافئ. وعلى قدر تعاظُم شأن الدائرة البورجوازية والخاصة هذه من السياسة العامة التي تنتهجها الدولة، تعاظَمَ إدراك أهل الدائرة البورجوازية والخاصة لمكانة دائرتهم، ولدور مجتمعهم البورجوازي. فأوْلوا هم بدورهم دائرتَهم المشتركة، ومجتمعهم، اهتمامهم وعنايتهم. وجعلوا من دائرتهم هذه قضيتهم المشتركة والعامة.
وعلى هذا أصبحت مسائل الدائرة والمجتمع البورجوازيين والخاصين والمتعلقَين بالرعايا وبأعمالهم وأحكامهم موضع مداولة ومنازعة وتدبير. والطرف الأول في المداولة والمنازعة والتدبير هو السلطة "العامة". أما الطرف الثاني فهو أهل الدائرة البورجوازية انفسهم. فكانت لهم، تدريجاً، دائرة جامعة. ومبنى جمعها الأول هو موقف أهل الدائرة الناقد والمتحفظ عن سياسة الرسوم أو المكوس الملكية على الأسعار.
وجاء الجمع على رأي أو موقف في مناسبة تدبير السلطة العامة شأناً من شؤون الاقتصاد البيتي أو المنزلي. وكانت السلطة الإنكليزية منعت بمرسوم أكل الخبز مساء يوم الجمعة في الأسابيع التي تقل الحنطة فيها. فأدى إجراء السلطة الى جعل سبب من أسباب الحياة، إطاره السلطة البيئية الخاصة وكان اليونان يسمونها "استبدادية" والعرب "ربوبية"، مسألة عامة ومشتركة. ونجم عن حمل الدائرة المنزلية والحياتية على شأن عام، تتولى السلطة بته والفصل فيه، "تأزم" العلاقة بين الدولة وبين الرعايا. والكلمة التي تدل على التأزم كريتيك في بعض اللغات الأوروبية، تعني النقد كذلك.
فاجتمعت الدائرة العامة الجديدة هذه من عام السلطة القديم، ومن إخراج الشأن المنزلي والحيوي أو الحيواني والخاص إلى العلانية المشتركة بين البيوت والأسر والعمومية، ومن علاقة متأزمة وانتقادية، على الملأ، بين الدائرتين. ويفترض رسم دائرة العلانية العامة جمهوراً يُعمل عقله ونقده في الأمور والمسائل الطارئة.
ويمثل هابرماز على هذا الوصف بواقعة تنقضه، أي تنقض مدلوله. ففي 1784 حظَّرَت "إرادة" صدرت عن فريدريك الثاني، الملك البروسي "الإصلاحي"، تناولَ شخص خاص، من عامة الناس، الملك أو البلاط أو الموظفين أو المجالس أو المحاكم، أو تناولَ الأعمال والقوانين والقرارات الصادرة عنه أو عنها، برأي أو تقويم علني. وحظرت "الإرادة" نفسها تداول معلومات تتعلق بالأعمال والقوانين والقرارات هذه. والآراء التي تصفها "الإرادة" بالعلنية إنما هي تلك التي تنسبها الى دائرة عامة تدخل تحت باب السلطة، من وجه.
ولكن هذه الدائرة، من وجه آخر، انفصلت من مِلك السلطة، وخرجت منه ومن سرِّه الى منتدى مشرَّع على مقالات أشخاص خاصين من العوام، يأتلف منهم جمهور، ورأي عام يدعو السلطة الى تسويغ مقالاتها وأحكامها عليه على الرأي العام وأمامه، بوسائل الاحتجاج العامة في الناس والمشتركة بينهم. فمن كان يتوجه عليهم السلطان بالمخاطبة صاروا خصومه، على المعنى القضائي أو الخطابي. وهم الجمهور وهو "العام"، على أحد معاني لفظة "بوبليك". وما يقضي فيه الجمهور برأي، بعد الاحتجاج والمنازعة والمناقشة، يُحمل على العلانية "بوبليسيتيهْ"، وهي مشتقة كذلك من اللفظة التي تدل على "العام" وعلى "الجمهور" - وهذا التوارد هو الداعي الى الترجمة المقترحة: دائرة العلانية العامة.
والجمهور البورجوازي الجديد، المؤتلف من أفراد خاصين، واقعة اجتماعية وسياسية وثقافية غير مسبوقة. فهذه الطبقة من الناس ليست على شاكلة الطبقات - المراتب المعهودة في التاريخ السياسي والاجتماعي الأوروبي. فهي لا تملك سلطاناً أو بعضاً من سلطان، على النحو الذي أمتلك عليه الأشراف سلطاناً، أو على النحو الذي تقاسم عليه المحاربون والتجار امتيازات وحقوقاً، أو أجزاءً وأبعاضاً من سلطان "جوهري" على معنى الجوهر أو الشيء العين. فالسلطان على المِلك الداخل في الإنتاج الرأسمالي، وهذا السلطان هو تعريف المرء البورجوازي، يدخل في باب الحق الخاص. ولا يدخل، تالياً، في باب السياسة وحقها العام. وعليه، لا يصرِّف البورجوازيون الجدد سلطاناً على الناس على صورة حق ثابت موكول الى جماعة معروفة تنتسب الى مرتبة، إلخ.
وينكر الجمهور البورجوازي، وهذه حاله وهذا موضعه من الطبقات - المراتب، ينكر على السلطان "الجوهري"، القابض على حقوق المِلك والتصرف والأمر، الأصل الذي ينهض عليه، والمراتب التي يرتبها ويُنزل الجماعات عليها. وهو، أي الجمهور البورجوازي، إذ يسلِّط على السلطان مراقبته، ويدعو السلطان الى الخروج من التكتم والأمر الى العلانية والاحتجاج، إنما يغيِّر طبيعة السيطرة. فالاحتجاج بالرأي، وهو وجه من ملابسة العقلانية العملية والقيمية وجوه الحياة كلها، يختلف عن طلب جزء من السلطان. وغايةُ الجمهور من تسليط مراقبته على السلطان، ومن سعيه في إخراج السلطان من الأمر والإكراه والمرتبة الى الاحتجاج بالرأي، هي تقييد السلطان بالقانون، وإلغاء مفارقةِ السلطان "الناسَ" أو "الشعب" التاريخي. وتتردد أصداء هذه الأفكار، وهي حلَّت في هيئات ومؤسسات، في الحركات الاجتماعية العمالية مثل حركة "التضامن" البولندية، بعدما ترددت في المؤتمرات التي مهدت الطريق الى صوغ دستور الولايات المتحدة الأميركية وفي النوادي الفرنسية الثورية.
والمرء الخاص، وهو افترض الجمهور أصلاً له ومصدراً، جمع بين وجوه وأدوار كثيرة ومختلفة. فهو صاحب ممتلكات وحيازات ثابتة قليلة أو كثيرة" وهو "رب" أسرة وبيت" وهو صاحب رأس مال يستثمره ويستنتجه نتاجاً متعاظماً بواسطة طرائق عمل" وهو امرؤ أو إنسان يعرِّفه دخوله في الإنسية. وكانت الخصوصية هذه، على وجهها الأسري والبيتي الحميم والضيق أولاً وقبل اضطلاعها بالمراقبة والمنازعة السياسيتين، كانت أنشأت جمهورها الخاص على شاكلة رأي عام أدبي. ووضع الرأي العام الأدبي مناقشاته، وروافدها الكتب والرسائل والصحف والمسرحيات والروايات التي صارت سلعاً، على أمور ومسائل مثل اختبارات أفراده في دوائر حياتهم المتفرقة والمتنوعة، من غير غاية غير تعبير هذه الاختبارات أو إخراجها الى العبارة وتأويلها ومقارنتها بعضها ببعض.
واجتذبت دائرة العلانية الجزئية هذه، الى الطبقات الوسطى "المثقفة" وثقافتها ليست مهنتها ولا معاشها التي أنشأتها ورعتها، بعض أشراف البلاط الذين نأوا بأنفسهم عن البلاط ودخلوا المدينة الكبيرة والمتعاظمة الروافد والهيئات. ومن هيئات دائرة العلانية الأدبية في المدن، وهي الدائرة التي يدخلها الأفراد الخاصون و"المثقفون" على صفتهم المزدوجة هذه، المقاهي و"الصالونات" المنتديات في البيوت الميسورة أو الكبيرة وجمعيات مرتادي محال مخصوصة مثل البيوت التجارية أو المكتبات أو المسارح ونواديهم. وجلت هذه الهيئات الخاصة المحادثة والمحاورة فناً قائماً بنفسه. معياره استقلال المحادث بنفسه، وقدرته على العبارة عن اختباراته عبارة طريفة ومتفردة تدعو الى النظر والفحص والمقارنة.
قراء ورواد مقاهٍ
فثبتت هذه الهيئات والمرافق غلبة المدينة على البلاط. والمدينة كانت دوماً هي الغالبة على البلاط في انكلترا، على خلاف فرنسا. وازدهرت المقاهي في البلدين بين 1680 و1730، على حين بلغت الصالونات ذروة أثرها طوال القرن الثامن عشر تقريباً 1715 - 1789. وأرست المقاهي ضرباً من المساواة بين متأدبين، بعضهم جاء من الأشراف، وبعضهم الآخر من البورجوازية. وكانت الذريعة الى افتتاح المقاهي في لندن، في منتصف القرن السابع عشر، انتشار شراب الشاي والشوكولا والقهوة. والبادئ الى افتتاح أول مقهى من هذا الضرب حوذي وتاجر، من أصل مشرقي متوسطي.
وفي العقد الأول من القرن الثامن عشر كانت لندن وحدها تعد أكثر من ثلاثة آلاف مقهى. ولكل مقهى رواده وحلقته. واستبق معظم كبار كتاب القرن الثامن عشر إنشاء كتبهم، وكتابتها كاملة، بطرح أفكارها، على صورة مقالات أو محاضرات ومناظرات، على مناقشة حلقات المقاهي أو الصالونات، في فرنسا. واضطلعت المقاهي والمنتديات والنوادي بتوسع المنطق الاحتجاجي والعقلي من مناقشة الأعمال الفنية والأدبية الى المسائل السياسية والاقتصادية، من غير ضمان ألا تترتب على قراءة المقالات وتداول الآراء نتائج "أمنية".
وتشاركت النوادي والجمعيات و"الصالونات" والمقاهي، على اختلاف مواقعها وأدوارها في إخراج المترددين إليها ومرتاديها من الدائرة السياسية، الموقوفة على أقدار متفاوتة على الحكم المطلق، إلى دائرة غير سياسية مباشرة، وتشاركت في التمثيل على رغبة في المطارحة والمناقشة المستمرتين بين أشخاص خاصين، يُعمِلون عقلهم أو حجتهم في المسائل التي يتطارحونها. فالنازع الى المبادلة "التجارة" على حسب بعض اللغات الأوروبية الاجتماعية، وإلى مساواةٍ معيارُها قيمة المرء الشخصية والإنسانية وحدها على خلاف المراتب، والأخد بقسمة الحق والإقرار بها حَكَماً في الاحتجاج - هذه كلها كانت القواسم المشتركة بين اهل النوادي والجمعيات الأدبية و"الصالونات" والمقاهي.
وائتلف الجمهور ممن أعملوا في اجتماعهم القواسم المشتركة هذه فكانوا الجمهور العام والعلني والمشترك والذواقة على معانٍ سالبة كذلك. فهم من لا يصدعون بقوة الإدارات العامة ولا بدالَّتها" ولا أثر للقوة الاقتصادية أو لأسبابها في صفوفهم. فالقوة السياسية، شأن القوة الاقتصادية، معلقتا الأثر في صفوف الجمهور هذا. وعلى هذا تحققت المساواة، أو تبلورت فكرةً عملية، على صورة مكافأة الناس بعضهم بعضاً بما هم آدميون أو إنسيون وبشر، خارج "قوانين" السوق، من وجه، وخارج قوانين الدولة، من وجه آخر. وسميت هذه المساواة، من بعد، شكلية أو مجردة، ونسبت الى "إنسانوية" غائمة، من غير اعتبار قوتها ولا نازعها الطوباوي.
وعلى نحو ما انتهكت مساواة الجمهور هذه السياسة المطلقة، ومثالها المرتبي، وبددت هالتها و"قدسها"، أدى تطارح الجمهور مسائل كانت بمنأى من المناقشة والنظر وحكراً على السلطات الإكليركية والإدارية، إلى صبغ السلع الثقافية، من أعمال فنية وأدبية، بصبغة علمانية وعامية. وأمست السلع الثقافية بمتناول العامة وعقولهم ومقالاتهم وتأويلهم. فلم يبق في هذه الأعمال سر مكنون يمتنع من التفسير والشرح.
وكان يتهدد هذا الجمهور تحولُه بدوره الى شيعة مغلقة ومنكفئة على نفسها، وتمتعُه بانكفائه ونخبويته ونرجسيته. ولم يعصم جمهور دائرة العلانية العامة والبورجوازية من الانكفاء النرجسي هذا إلا اندراجه في جمهور أوسع فأوسع، ولو كان هذا الجمهور غير متعين ولا يقبل، تعريفاً وفكرة، التعيين. فالقصد الذي انعقد عليه سعي الجمهور، في هذا الدور من أدوار نشأته وتكوينه، إنما هو قصد "إنساني" عام. فحمل الجمهورُ نفسه على معنى ينبغي له، في نهاية المطاف إن كان لهذا المطاف نهاية، أن يكون هو والإنسانية جمعاء واحداً. أي أن الإنسانية المتحققة فرداً فرداً، إلى آخر "راعٍ في جبال صنعاء"، على قول عمر بن الخطاب فلا يستثنى من تدبر التاريخ ما "قد يحصل في بوركينافاسو"، على قول فرنسيس فوكوياما مزدرياً، هذه الإنسانية هي قصد الجمهور وغايته.
روافد الجمهور
والحق أن مدى الجمهور هذا في الفكرة كان يخالف دائرته الفعلية مخالفة تقرب من النقيض. فالإعداد المدرسي الابتدائي والأولي ركيك وسخيف، والأميون قراءة وكتابة هم الكثرة الغالبة، والفقر يمنع الشطر الأعظم من الناس من شراء الكتب والصحف، والأعمال الصادرة في رعاية الأشراف "المحسنين" ضرب من السلع الفاخرة. ولم يتغير الحال هذا إلا في العقود الأولى من القرن الثامن عشر، مع تولي الناشرين المحترفين عمل النشر. والناشرون نوع جديد من التجار وأهل الصناعة خلفوا "المحسنين" الرعاة، وحوَّلوا المطبوعات الى سلع متداولة وفي متناول المتوسطي الحال.
ومنذ القرن السابع عشر كان جمهور المسرح، في فرنسا وإنكلترا، خليطاً من طبقة ميسورة من أصحاب محال السلع الكمالية والدُّرجة، أو الموضة، مثل الجوهرجية وبائعي آلات الموسيقى وآلات النظر والحذّائين ومن طبقة "سوقية" مثل الخدم والجنود والصنَّاع وفتية الخطاطين. وانقسم هذا الجمهور طبقتين، وكان مرتادو المسرح يجلسون على رتبتين ودرجتين: رتبة الصالة، ورتبة الشرفة أو "البلكون". وحمت الشرطة أهل رتبة الشرفة من أهل الصالة. وعلى خلاف المسرحين الفرنسي والإنكليزي لم ينشأ أول مسرح ألماني إلا في 1766، شأن "التأخر" الألماني في ميزان الهيئات الأوروبية، الاجتماعية والسياسية، كلها.
وآذنت المحافل الموسيقية الخاصة، وكان ارتيادها لقاء ثمن تذكرة يسع أياً كان شراؤها، بخروج "العرض" الموسيقي من الكنائس وبيوت الأشراف الى العامة. وكُتبت وعزفت موسيقى غايتها من نفسها، ويستنفد تركيبها غايتها، ولا يحكم فيها غير الذوق المتغيِّر والمتقلِّب. وصارت العبارة عن الذوق شأن عامةٍ لا حصانة لها من علمٍ مكنون ومخصوص ولا من سليقة تنفرد بها. والرسم امست معارض لوحاته وأعماله دورية في 1739. وقرر أحد رعاة المعارض ونقاد الرسم الأوائل أن اللوحة المعروضة هي نظير كتاب مطبوع أو مسرحية تؤدى على الخشبات وفي مستطاع من شاء ان يرى رأيه فيها.
والمناقشة والمطارحة هما طريق العامّي الى الفهم والدراية. وتصور النقدُ الفني والأدبي في صورة "حكومة الفنون" أو مرجع التحكيم والقضاء في قيمة الأعمال الفنية والأدبية. ووُقفت صحف دورية على نقد هذه الأعمال، وخصت بالنقد وحده. وجمع الجمهور وهو جمهور القارئين والشارحين، بين قراءته وشرحه وبين صيرورته جمهوراً متصلاً ومتماسكاً بواسطة القراءة والشرح. فهو مؤدِّب نفسه بنفسه. وهو العالم والمتعلِّم. وتأديبه نفسه بنفسه، أو استيلاده نفسه جمهوراً من طريق التأديب والتثقيف هذين هو تمثيل عيني ومشهود على ولادة الإنسانية نفسَها من نفسها.
وفي منتصف القرن الثامن عشر كان ائتلف جمهور بورجوازي "كبير" من مشاهدي المسارح ومرتادي المتاحف والمعارض والمحافل الموسيقية، ومن جمهرة قراء الكتب والرسائل والصحف ومعتادي المناقشات في المقاهي والصالونات والمنتديات. وأصبح أثر هذا الجمهور في معايير الذوق راجحاً. وأقبل الجمهور المتوسط هذا على قراءة الروايات العاطفية والأخلاقية. فكانت هذه الروايات ذريعته الى مناقشة الاختبار والتجريب الفرديين وإلى تعبيرهما وتأويلهما وتداول الرأي فيهما. وتوسل كتاب الروايات والقصص ب"أبطالها"، وهم "أبطال" الكتاب أولاً، الى الاحتجاج للأفكار والأحكام والمذاهب العامة بأفراد خصوصيين وبالتجريب الفردي والخاص.
وسوَّغ هذا إرساء عام العمومية على خاص الخصوصية، واستخلاص العام من الخاص، من غير افتراض العام سابقاً وقائماً بنفسه، وفي نفسه، أو مستقلاً عن الخاص وعن الخصوصية. وأبطل هذا جواز الصدور عن عام جوهري أو جمعي، والكلام باسم عام مرتبي. وهذا منشأ ائتلاف التفاهم والعقل الناقد من إدلاء أطراف المحاورة والمطارحة بآرائهم ومقالاتهم. وهو منشأ التفويض والتكليف اللذين لا يعقلان ولا يقبلان إلا مقيدين ومؤقتين على وقت.
والذاتية المتميزة والفريدة، وهي مصدر القول والرأي والذوق، موطنها الدائرة العائلية والبيتية. وهذه ترعاها البطرقية، على رغم التغيرات الكثيرة التي طرأت على العائلة البورجوازية. فكان اتخاذ العشيقة علناً، والجهر بها خارج بيت الأسرة، قرينة على مقابلة العلاقة الحميمة والثابتة، في كنف الأسرة، بعلاقة حميمة وعابرة على ملأ "المجتمع". وبدا ان الجمع بين الحياة الخصوصية وبين "حياة المجتمع" ووشائجها أمر عسير، إذا لم يكن محالاً.
وأدى الإفراد، أو الإمعان في استقلال الفرد بمتعلقاته، سكناً وعمارةً، الى تقسيم وظائف الحجرة المشتركة والكبيرة على حجرات متوسطة حجماً ومساحة. وانقرضت الحجرة المشتركة. وكثرت الحجرات الصغيرة العائدة الى أفراد العائلة، ورتبت على أهواء أصحابها. وبقيت حجرة الجلوس من الحجرة المشتركة. وينعزل الزوجان والأولاد القصَّر في حجرة الجلوس هذه عن أهل الخدمة. وظهرت غرفة جديدة هي حجرة الاستقبال. فيترك الأفراد حجراتهم، أي دائرتهم الخاصة، الى حجرة الاستقبال، أو الدائرة العامة والمشتركة بين الخاص والعام.
وهذه القسمة أقرت الانصراف الى الحياة العائلية على موضع خاص به وموقوف عليه. وأرست الاستبطان الشخصي و"النفسي" على مبنى ومنزل. ويذهب ه.ب. باردت، وهابرماز ينقل عنه، الى أن ما ينم به البيت البورجوازي هو مدنية السكن، أو بالأحرى تمدين السكن على نحو ينشئ البيئة الأقرب الى نفس الفرد وجسمه إنشاءً متعيِّناً ومدركاً. وهذه البيئة هي إطار التملك الخاص لآلات الثقافة واستعمالها المشترك في الجماعة الأضيق" وهي إطار المحادثة الفكرية والشخصية بين أهل الأسرة الواحدة" وهي كنف حياة دينية قائمة بنفسها بعض الشيء ومستقلة عن الكنيسة" والبيئة الأقرب هذه هي ملاذ ايروسية فردية تؤدي الى اختيار القرين الزوجي، "العاطفي" والجنسي، وتنكر على الوالدين الحق في نقض هذا الاختيار.
وهذه الدائرة الحميمة تَبَعٌ لدائرة السوق الاقتصادية الخاصة. فهي مثلها لا يقيدها قيد الولاء للغير. ولا تعتبر الدائرتان معياراً إلا معيار العائد أو المردود. ونظير الاستقلال الذي يتمتع به المرء صاحب المِلك بملكه يتمتع المرء في إطار العائلة بتمثيله نفسَه والنيابة عنها، إذا جازت العبارة. وتضطلع الأسرة بالوساطة الصعبة بين وجوه ثلاثة هي إرادة الأفراد الحرة، والشراكة في الانعطاف والمودة، والثقافة على معنى تأديب النفس وإدخالها في الجمهور، وبين الانضباط الصارم بالضرورات الاجتماعية.
وتتجاذب هذه الوساطة، مهما بلغت من الفلاح والموازنة، اضداد ومنازعات: بين الحب والعقل حساب المصلحة: وظيفة العائلة النسبية والتراكمية" بين متعلقات العمل والمهنة وبين حمل الثقافة وغايتها على الثقافة نفسها التي لا غاية لها من غيرها. وقد تكون الأسرة البورجوازية ومثالاتها في الحرية والحب والتربية على معنى التأدب الذي مر، الوصلة التي تصل اختبار العلاقات الحميمة بالشعور "الإنساني" الأوسع. وهي توجب حظَّ الإيديولوجية البورجوازية من الحقيقة ومن نفاذ المعنى الذاتي، وتحول دون استغراقها في دعوى محض.
ولا ينتهي تاريخ دائرة العلانية العامة، الاجتماعي والحقوقي والفكري، عند هذا، ولا إلى هذا وحده. فهذه السياقات أغفلت بعض الشيء السياق الديني حركات الإصلاح البروتستانتي التي عاد هابرماز إليها على خطو ماكس فيبر مطولاً، ونسب إليها في "نظرية الفعل التواصلي" شطراً عظيماً من عوامل العقلنة. وهونت بعض الشيء من شأن السياسة واستواء الدولة الحديثة، القانونية والإدارية البيروقراطية والعقلانية، آية على السياسة. ولكنها، أي السياقات، الرحم الذي تكونت فيه معالم الاجتماع الأوروبي والأميركي الحديث والمعاصر. وفي القياس عليها ربما تتضح معاني شطر كبير من المناقشات الفكرية، التأريخية والاجتماعية والحقوقية والسياسية، التي تتجاذب المجتمعات اليوم.
* كاتب لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.