كان الصراع السياسيّ بين فرنسا وانكلترا في بلاد الشام ومصر، أوانَ القرن التاسع عشر بلغ الذروة... وبموازاة هذا الصراع الدمويّ، كان ثمّةَ صراع ثقافيّ قادته البعثات التبشيريّة الكاثوليكية في مواجهة البعثات الانجيليّة الطارئة التي راحت تعمل لجذب الناس الى نحلتها، وإيواء أولادهم في المدارس والملاجئ والمستوصفات، وادّعاء حقّ الوصاية الروحية عليهم، وتقديم العون لهم في العلم والمذهب والمرض، وإغرائهم - زعماً وَوَهْماً - برفع الحَيْفِ عنهم بما مَلَكَتْهُ، كغيرها من البعثات المناوئة، من امتيازات. والحقّ، إنّ جلَّ المتهافَتِ عليهم كان من فقراء الطائفة الارثوذكسيّة، كبرى الطوائف المسيحيّة في الشرق، فعلى حسابهم كبرت، طوائف، ونشأت طوائف لم يكن لها في الشرق كلّه وجود. واكتشفت الروسيّا متأخرةً، إزاءَ هذا الصراع، أنّ الفرصة متاحةٌ لها لمواقعة الخصمين اللدودين في بلاد الشام، فأَلْقَتْ دلوها بين الدّلاء في ماء البئر السياسية الواحدة، في لحظة انشغال "الرجل المريض" بأوصابه وضعفه ومتاعبه، واقتحمت السَّاحة الثقافيّة - الروحيّة، لدواعٍ سياسيّة، في صدّ الهجمات عن الأرثوذكس العرب، وإيقاف قَضْمِهِم، والحفاظ على مَنْ بقيَ منهم في منأىً عن الوقوع في الإغراء. لهذه الأسباب مجتمعةً تألّفت في روسيا 21/5/1882 جمعية خيرية من خيرة نبلائها وأشرافها، برئاسة الغراندوق سرجيوس خامس أنجال الامبراطور اسكندر الثاني، وحماية الأمبراطور اسكندر الثالث" لأجل مساعدة الرَّوسيين الذين يَفِدون سنوياً الى فلسطين لزيارة الأماكن المقدسة، ولأجل افتتاح مدارس ابتدائية في فلسطين، أوّلاً، تعلّم أبناء الأرثوذكس عقائد ايمانهم، الى جانب بعض العلوم الضرورية" لذلك أطلق عليها اسم "الجمعية الأمبراطورية الارثوذكسية الفلسطينية". ولم يكن سهلاً قطّ على هذه الجمعية الفتية، في بدء أمرها، ان تفلح في ازالة عقباتٍ مغرقةٍ في الرسوخ، منها: انها تَفِدُ الى هذه الأرض من غير أن يكون لها إرث تعليمي تركن اليه في مقارعة المرسلين الآخرين. ومنها أن اللغة الروسية وأدبها كانا في غفلة من الشرقيين عموماً، وكأنهما غابة اكتنفتهما الأدغال والظلمة من كل جانب، ولم يكن لأحد ان يخترقها ويتعرف الى ما خفي فيها من المعالم بإزاء الفرنسية والانكليزية اللتين صارتا لسان المتعلمين من البرجوازية الناهضة... ومنها التصدّي لطغيان الكنيسة الارثوذكسية اليونانية - التي كان لها تاريخ طويل في فلسطين وغيرها من البلدان الشامية، حفل باستصغار شأن الارثوذكس العرب، وتمادى في اهمالهم رَاعَوِيّاً وتعليمياً. هذه العقبات الثلاث، فضلاً عن غيرها من العقبات، استنزفت من جهد الجمعية وبذلها ومتابعاتها ما لم يدر في خلد أحد، ولكنها لم تستعصِ عليها وتفت من عزمها، فشرعت بالعمل من فلسطين فحسب، أوّلَ الأمر" فزرعت قراها ومدنها بالمدارس الابتدائية، وأنشأت في الناصرة داراً للمعلمين، وفي بيت جالا، لاحقاً، داراً للمعلمات لرفد المدارس التي ستقوم لاحقاً في انحاء سورية ولبنان بالكوادر اللازمة. وأمام النجاح الخارق الذي حققته مدارس هذه الجمعية في البلاد الشامية، قررت في مؤتمرها العام الذي عُقد في موسكو عام 1913 انشاء جامعة روسية في بيروت على غرار الجامعتين الأميركية واليسوعية تضم الكثير من الكليات إسوةً بهما. ولكن نشوب الحرب العالمية بعد عام، ووقوف تركيا وألمانيا والنمسا ضد روسياوفرنسا وانكلترا حالا دون تحقيق هذا الهدف، خصوصاً أنّ تركيّا أمرت باغلاق المدارس الروسية جميعاً التي بلغ عددها 114 مدرسة تضم 15 الف طالب وطالبة يتلقون تعليمهم مجاناً، وتوزع عليهم الكتب المدرسية والدفاتر والأقلام والحبر من دون مقابل، الى جانب قطعة من الجوخ الكحليّ الثمين يقدم اليهم ليخيطوها ثوباً يرتدونه في عيد القيصر. ولن ننسى، أخيراً، ما كان لهذه الجمعية من فضل في ارسال بعض البعوث العلمية المختارة من متفوقي مدارسها الى روسيا لاستكمال تعليمهم العالي في أكاديميات بطرسبرغ وموسكو وقازان وجامعاتها... ولا شك في ان عدد خمسة عشر طالباً وطالبة من مرتادي هذه المدارس، لا يقاس في شيء، بإزاء عدد طلاب البعثات الكاثوليكية والانجيلية وطالباتها الذين أدرك كثير منهم انفتاحاً في العقل، وتضلعاً في العربية والفرنسية والانكليزية، واستياء في المعاش والمنزلة، واطلاعاً على حضارة الغرب وثقافته، وإكباباً على التأليف والنظم والنقل، وإصدار الدوريات اليومية والأسبوعية والشهرية... ولكن ذلك جميعاً، في الواقع، لم يمنع ريح الثقافة الروسية من ان تهب قويةً بتأثيرٍ من متخرجي الناصرة وبيت جالا وبعض طلاب الجامعات الروسية، حاملةً معها وَبْلاً سيفيض عميقاً في تربة القصة الفلسطينية خصوصاً ومذهب الواقعية في الأدب العربي عموماً. والمؤسف حقاً انه ليس معروفاً حتى الساعة اسماءُ من نقلوا الى العربية الروائع الروسية معرفةً كاملةً أو تقريبية. ودليلنا على ذلك ان خليل بيدس بدأ ترجمته الروائية بثلاث روايات معربة عن الروسية في سنة واحدة عام 1898" وعلى رغم اندفاعته ومتابعته من غير كللٍ أو ملل لكتابة القصة وترجمتها، فإنه توقف عن الكتابة عام 1924 بنشره مجموعته القصصية "مسارح الاذهان"، مع انه عاش بعد ذلك ربع قرن من الزمن، وكان لا يزال في سن العطاء والإبداع... والى هذا السبب وذاك، ثمة سبب ثالث يدعونا الى المساءلة، وهو ضياع هذه الأسماء في زحمة الإهمال قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها وبعيدها، وتبدّدها مع كثير من النقول المطبوعة على حدةٍ، أو المنشورة في الصحف والمجلات في الوطن العربي والمهاجر الأميركية" اذ لا يعقل ان تتمثل حركة الترجمة عن الروسية ببضعة أسماء لا تتجاوز العشرة عدّاً مع العلم أنّ دار المعلمين في الناصرة خرجت عام 1907 أربعين معلماً، ودار المعلمات في بيت جالا تسعاً وأربعين معلمة، وكلهم واقف على الروسية لغةً وأدباً، مشبع بروحهما الى حد الانحياز لها والوله بهما، فإذا كان عددُ المتخرجين ذكوراً وإناثاً، في عام واحد، تسعةً وثمانين مُعلماً ومعلمة، فما بالنا بأعدادهم قبل هذا التاريخ وبعده، وهو تاريخ امتد على مساحة ثلاثة عقود ونيّف؟ وبالطبع، ليس لأحدٍ ان يزعم ان العشرات من هؤلاء المتخرجين - ان لم نقل المئات افتراضاً، هم أدباء بالطبع زاولوا الكتابة والنقل عن الروسية. انهم ببساطة، معلمون كفيون أعدوا لاحتراف التعليم اعداداً حسناً، ولم ينشأوا على الثقافة الروسية ليكونوا نقلة ومحترفي أدبٍ وصحافة. ولكن هذا لا يمنع ان نقدر عدد المشتغل منهم بصناعة الأدب والترجمة أضعاف ما هو معروف، في عصر كان فيه سلوك سبيل التخصص بالنقد ضرباً من المستحيل. بيد ان هذه الأسباب التي سقناها، ووطأت للشك في عدد المشتغلين بالنقل عن الروسية نقلاً مباشراً، تفتح أمام جمع من الباحثين الذين دأبوا على اقتباس مقولاتِ من سبقهم، من غير ان يتكلف الواحد منهم عناء البحث والتنقير للاطمئنان الى صحتها، وذلك بالعودة الى خزائن الكتب القديمة التي حفرت الأرضة والعثةُ في بطونها أنفاقاً، ومراجعة ما سلم من صحف القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين ومجلاتها شرقاً وغرباً" فهو، لا شكّ، واجدٌ فيها أسماء كثيرة سيتردد ورودها في غير مكان، كان الدارسون الأوائل انتبذوها لغفلةٍ وسوء تقدير... فلو انهم يفعلون ذلك، سيجدون مثلاً ان كاتباً وشاعراً ومترجماً فذّاً اسمه نعمة صباغ من خريجي دار المعلمين في الناصرة، وأحد أساتذة ميخائيل نعيمة فيها، كان ينشر بين الحين والحين نقولاً عن الروسية على صفحات "النفائس العصرية" لخليل بيدس، وأنه انفرد، في مطلع القرن الماضي، بنقل أعمال عيون القصصِ الروسي لتولستوي وتشيخوف وبونين، ملأت ما عدده ستة مجلدات ضخام بالعربية ظلت رهينة درجهِ ما يربو على أربعة عقود. فلما طوحت به نكبة فلسطين عام 1948، حملها معه وأودعها درجاً جديداً في مغتربه. لا أحد يعرف اليوم شيئاً عن مصير هذه النقول، فأسرة نعمة صباغ تفرقت، وغدا العثور على أحد أفرادها، لاستخباره عن تركة أبيه، صعباً ولكنّه ليس مستحيلاً. ومن أمثلة ما كان يفعله بعض الدارسين الأوائل، كذلك، ويتحملون تبعة ما لحق النقل عن الروسية من اهمال، قلة تدقيقهم في تفحص مضامين كثير من الأعمال. فالمعروف أنّ لرزق الله حَسُّون 1825-1881 كتاباً بعنوان "النفثات" مطبوعاً في لندن عام 1861 في أربع وثمانين صفحة؟ وواقع الحال ان هذا العنوان لا يدلُّ على طبيعة ما حواه الكتاب، فرزق الله قسمهُ الى قسمين وضمن القسم الأول تعريب قصص الكاتب الروسي كريلوف الموضوعة على طريقة بيدبا الفيلسوف في كتاب "كليلة ودمنة"، فيما ضمن القسم الثاني نخبةً من نظمه. وغالب الظن ان أمثال كريلوف هي أول نقل أدبي من الروسية الى العربية في العصر الحديث، واغفالها على مثل هذا النحو يومذاك يثير شكوكاً جمة في جدية التأريخ للرواية الروسية المترجمة الى العربية" لذلك فإنَّ تجاوز الدارسين لمثل هذا الأثر يزكي المقولة الزاعمة: إنّ السرعة في استقراء النتائج واطلاقها اطلاقاً نهائياً مفسدة تترتب عليها عواقب وخيمة. والحديث عن أضراب هذين المثلين يطول الى حدّ الإملال، لا سيما حين نتذكر أسماء لامعة عملت في روسية منذ قرن ونصف من الزمان في حقل التدريس الأكاديمي، كسليم نوفل الطرابلسي 1828-1902 واللواء جرجس مرقص الدمشقي 1846-1912 وميخائيل يوسف عطايا الدمشقي أيضاً 1852-1924 وأنطون خشاب اللبناني 1874-1919 وفضل الله صرّوف الدمشقي 1826-1903 وبندلي الجوزي المقدسي 1871-1942 وتوفيق قزما اللبناني 1882-1958 وكلثوم نصر عودة الناصرية 1892-؟ وغيرهم... فإنّ استقصاءً دقيقاً لنشاطات هؤلاء الذين لم تفصح الدراسات حولهم عن أيّ شيء سوى التدريس ووضع التآليف المدرسية العربية للدارسين الروس، سيفضي حتماً الى ما لا نتوقعه في مجال النقل الى العربية" ولسوف تتغيّر الصورة التي ألفنا النظر اليها، وتعكس فكرة تعرُّفِنا الى الأدب الروسي في وقتٍ متأخر من القرن العشرين من طريق الفرنسية والانكليزية. صحيح أنَّ حركة ترجمة الروائع الروسية الى العربية هي اليوم أسيرة اللغة الانكليزية في الدرجة الأولى، واللغة الفرنسية في الدرجة الثانية، وأنه ليس للغة الروسية من الحضور والتأثير أو النفوذ ما للانكليزية والفرنسية اللتين ارتبطتا بالحضور الاستعماري والمؤثرات الثقافية المصاحبة له" ولكنَّ صحة هذا الرأي اليوم لا ينبغي ان تتنكر لجهود طيبة بذلت في هذا السبيل، وأن تقفز في الزمان قفزاً يُلغي مرحلة تاريخية كاملة استوت فيها الروسية والنقل عنها استواءَها مع الفرنسية والانكليزية. فإلى جانب هوغو ولامرتين ودوماس... وشكسبير وديكنز وبعض الألمان كنيتشه وليسنغ، كان هناك حضور واضح لتولستوي وبوشكين وبتروشفسكي... الخ وعُنيَ بتأكيد هذا الحضور جماعة من متخرجي مدارس الجمعية الامبراطورية الارثوذكسية الفلسطينية تذكرهم المصادر العائدة الى تلك الفترة بكثير من الاختزال والتسرع، كسليمان بولس وابراهيم جابر وعبدالكريم سمعان ولطف الله الخوري صراف وكلثوم عودة وفارس نقولا مدور ونعمة صباغ... وتذكر لهم نقولاً قصصية متنوعة عن الروسية نقلاً مباشراً لجمهور من الكتاب الروس، تضمنتها صفحات النفائس العصرية التي تنقل صدورها بين حيفا 1908 والقدس حين توقفت عن الصدور عام 1924. وليس ثمة ريب في أنّ شيخ هذه الكوكبة من النقلة كان خليل بيدس 1875-1949 صاحب المجلة الآنفة الذكر، ورائد القصة العربية في فلسطين. وحفلت حياة بيدس أوان إصدار مجلته بشواغل الترجمة، فنقل عن الروسية عشرة كتب، منها كتاب لا يتصل بالقصة بأية صلة وهو "الروضة المؤنسة في وصف الأرض المقدسة"، 1899 و"هنري الرابع" للكاتبة الألمانية. ف. ملباخ 1920. أما الكتب الأخرى فتمثلت في "ابنة القبطان" و"الطبيب الحاذق" و"القوقازيّ الولهان" و"شقاء الملوك" و"أهوال الاستبداد" و"الحسناء المتنكرة" و"العرش والحبّ" و"الوارث". وبعض هذه القصص طائر الشهرة كاتباً وموضوعاً، كأهوال الاستبداد وأنّا كارنينا لتولستوي، وابنة القبطان لبوشكين... ويلي خليل بيدس في الأهمية سليم قبعين الناصري 1870-1951 الذي اضطره جور الأتراك الى مغادرة فلسطين شطر مصر، فأنشأ في القاهرة على مدى أربع وعشرين سنة 1900 - 1924 خمس جرائد ومجلات، ربما كانت "سلسلة الروايات" أكثرها احتفاءً بنشر القصص موضوعةً ومترجمة. وأسهم كثيراً في اذاعة فلسفة تولستوي ومبادئه، وعَّرف قراء العربية في أرض النيل بكبار الكتبة الروس؟ ومن نقوله الشهيرة في مصر: "انجيل تولستوي وديانته" و"انشودة الحب" لتورجنيف و"مملكة جهنم" و"حِكمُ النبيّ محمد" و"مذهب تولستوي" لتولستوي، و"نخب الأدب" من مبتكرات مكسيم غوركي... الخ وأمّا ثالث القمرين في فضاء النقل عن الروسية بعد بيدس وقبعين، فنجاتي صدقي المقدسي 1905 - 1979 خريج جامعة موسكو في الاقتصاد السياسي، اذ أمدّ الدوريات العربية بفيضٍ من الترجمات لقصص تورجنيف وبوشكين وتولستوي وغوركي وتشيخوف. وتكفي الاشارة الى كتابيه: "بوشكين" 1945 و"تشيخوف" 1947 للتدليل على سعة معرفته للأدب الروسي، ومقدار اسهامه في تعريف القارئ العربي به" واثار الكتابان بعد صدورهما حجاجاً بين بعض الدارسين الذين، اعتبرتهما طائفةٌ منهم، أقرب الى النقل عن الروسية منه تأليفاً بالعربية. فإن صحَّ رأيهم، على وهنهِ واضطراب أسبابه، جاز لنا القول: إنّ سلسلة النقل عن الروسية مباشرةً ظلّتْ متصلة الحلقات حتى الخمسينات من القرن العشرين، وإن الانكليزية والفرنسية لم تتدخّلا في استكمالها إلاّ بعد حين. * كاتب لبناني.