2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    القوات البحرية تدشن عروضها في شاطئ الفناتير بالجبيل    رئاسة اللجان المتخصصة تخلو من «سيدات الشورى»    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    الاتحاد السعودي للهجن يقيم فعاليات عدة في اليوم الوطني السعودي    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    رياض محرز: أنا مريض بالتهاب في الشعب الهوائية وأحتاج إلى الراحة قليلاً    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    النصر يستعيد عافيته ويتغلّب على الاتفاق بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    وزارة الداخلية تحتفي باليوم الوطني ال (94) للمملكة بفعاليات وعروض عسكرية في مناطق المملكة    السعودية تشارك في اجتماع لجنة الأمم المتحدة للنطاق العريض والتنمية المستدامة    هزة أرضية جنوب مدينة الشقيق قدرها 2.5 درجة على مقياس ريختر    رئيس جمهورية غامبيا يزور المسجد النبوي    أمانة القصيم توقع عقداً لمشروع نظافة مدينة بريدة    ضبط مواطن بمحافظة طريف لترويجه أقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    برعاية وزير النقل انطلاق المؤتمر السعودي البحري اللوجستي 2024    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    أمين الشرقية يدشن مجسم ميدان ذاكرة الخبر في الواجهة البحرية    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    نائب الشرقية يتفقد مركز القيادة الميداني للاحتفالات اليوم الوطني    جيش إسرائيل يؤكد مقتل الرجل الثاني في حزب الله اللبناني إبراهيم عقيل    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    بعد فشل جهودها.. واشنطن: لا هدنة في غزة قبل انتهاء ولاية بايدن    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    على حساب الوحدة والفتح.. العروبة والخلود يتذوقان طعم الفوز    قصيدة بعصيدة    قراءة في الخطاب الملكي    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجتمع المدني بعضاً من دائرة علانية عامة وبورجوازية ... عناصره واستواؤه مثالاً تاريخياً . إتصال الرأي العام بالجمهور والنشر والمصالح المشتركة 1 من 2
نشر في الحياة يوم 06 - 04 - 2001

وَسَم يورغين هابرماز، الألماني، أول كتبه ونواتها على ما ظهر من بعد، "دائرة العلانية العامة" على ما اقترح، عوض "الحيز العام" أو "الفسحة العامة"، وأرجو تسويغ الاقتراح فيما يلي، بعنوان فرعي هو "أثريات العلانية ]أو الإعلان على معنى اللفظة الحرفي[ بما هي ركن ]أو بُعد منشئ[ للمجتمع البورجوازي". ويذهب الكاتب، في 1962، الى أن كتابه وتناوله يجمعان الاجتماعيات، أو علم الاجتماع الذي أولته كتبه اللاحقة منزلة الصدارة من عمله الفلسفي المنهجي واللغوي، والاقتصاديات الى السياسيات والحق العام والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار. وهو يتوسل بآلات المعرفة هذه إلى وصف التلازم بين "دائرة العلانية العامة البورجوازية" وبين زمن أو وقت بعينه أخرج "المجتمع المدني" من رحم العصر الوسيط ومدنيته وعمرانه، ونصبه أنموذجاً ومثالاً عاماً وكلياً تدخل تحته، وفي بابه، وقائع متفرقة وكثيرة.
فدائرة العلانية العامة، البورجوازية، هي بنت العصر البورجوازي. وورثت من الاجتماع الإقطاعي والملكي الوسيط حزمة علاقات وروابط وهيئات كانت المدن إطارها الأول، وكان بعض أصحاب الأرض والتجار والصناع الميسورون والمدرسون والكتبة المدوِّنون أهلها. وتمتعت المدن هذه، داخلاً وأرباضَ وضواحي أو ظواهر وطرق مواصلات، بامتيازات مالية ضريبية وتمثيلية واشتراعية نأت بها من سلطة صاحب الإقطاع، وهو الجامع في يد واحدة أمور الحرب والسياسة والأحوال الشخصية والزرع، والمقيد بمراتب الكنيسة وبأقرانه وأمثاله. فكانت المدن، وكان أهاليها حداً يحد سلطان اصحاب الإقطاعات المستقلين بإقطاعاتهم وبحكم أهلها من الزُّرّاع، وقيداً على تصريف أحول أهل إقطاعاتهم.
والحد والقيد هذان نصت عليهما مواثيق وعهود وكتب، وترتبت عليهما وقائع ورسوم اجتماعية ومادية مثل الحق في بناء أسوار المدن والحصون، وإغلاق الأبواب، وتجنيد حرس بلدي مسلح، وانتخاب مجالس بلدية تتداول الرأي في الجباية والمبادلات التجارية وإقامة الأسواق ومكاتبة مدن اخرى وتوفيد الوفود الى ممالك بعيدة أو قريبة، ومثل الإنفاق على جامعات أو مدارس والتنسيق في الأمر مع أساقفة المدينة...
فالمجتمع المدني الذي خرج من الاجتماع الإقطاعي والملكي والكنسي الوسيط، وتصوَّر في رحم علاقاته ومراتبه وجماعته، هو مجتمع هؤلاء الناس الذين احتموا بالمدن وبامتيازاتها وهيئاتها وتشريعاتها وأموالها وأعمالها من سطوة سلطان أهل الحرب والأمر، وهم المتسلطون على أهل الزرع وأهل الأسواق القلائل. والتاريخ أي جملة الحوادث الجارية على صورة متماسكة على أنموذج ومثال عام، التاريخ هذا تحدرت منه دائرة العلانية العامة إنما هو تاريخ البورجوازية، أو التاريخ البورجوازي أولاً وأصلاً. وهو اشتمل في أثناء تكوينه على أثنينية لم ينفك منها ولم يطوها في مراحل نضوجه اللاحقة.
فالعقود والعهود والمواثيق قسمت السلطة على المتعاقدين والمتعاهدين ولو قسمةً غير متكافئة. وشفعت القسمة هذه بآلات وهيئات ورسوم تنظيمات أمكنت المدن وأهلها وبعض أصحاب الأرض المستقلين، أهل المجتمع المدني، من المحاماة عن معاقلهم. ولم تتستر العهود والمواثيق على الإثنينية العميقة، ولا على إضمارها، بل إعلانها منازعة عامة بين أهل الإقطاعات وبين أهل المدن على كل الأمور والشؤون تقريباً: على أسباب المعاش وتحصيله، وعلى المراتب والتفويض والتدبير والمواضع ومصادر السيطرة والطاعة... ولم تحل قوة أهل الإقطاعات، وغلبتهم في "أول" الأمر، دون دوام القسمة والإثنينية هاتين وإن على منازعة لم تهدأ.
ولكن المجتمع المدني، البورجوازي، لم يفض من تلقاء نفسه إذا جازت العبارة إلى دائرة العلانية العامة البورجوازية. وليست دائرة العلانية هذه، على زعم هابرماز، اسمَ الطور الثاني، وقتاً، من أطوار المجتمع المدني البورجوازي. فدائرة العلانية العامة نشأت عن دخول عامل ثان، أو هيئة ثانية على المجتمع البورجوازي ورسومه هي "الرأي العام". ويؤرخ هابرماز ظهورَ الرأي العام - وهو عام لأنه يعم أنحاء كثيرة من مجتمع ناسٍ متماسك ومتصل، ولأن اصحابه ينشرونه على الملأ، ويناقشونه ويدعون الى مناقشته والاشتراك معهم فيه - بأواخر القرن السابع عشر الإنكليزي وبأواسط القرن الثامن عشر الفرنسي.
ويتصل "العام"، من عبارة "الرأي العام" بالجمهور، وهو العام في بعض اللغات الأوروبية والعامة في العربية، ولكن من غير مقابلتها بالخاصة. ويتصل بالعلن أو العلانية، على الضد من السر والطوية، وعلى الضد من الخاص البيتي أو العائلي والأسري والبلدي. ويتصل، ثالثاً، بالنشر والإذاعة على معانيهما المختلفة: من إفشاء وطباعة وتناقل وجواز معارضة ومناقشة. وعلى خلاف نسبة العام الى السلطات العامة واضطلاعها بالمصالح المشتركة التي تعم المواطنين، أو نسبته الى ما لا تمييز في استعماله ومباشرته مثل الساحات العامة، وعلى خلاف العرض العلني على نحو الأمر في الدعوات العامة أو الاستقبال التهنئة أو التعزية أو الاحتفال العام أو حتى "أخبار المجتمع" - يتربع الجمهور "صاحباً" للرأي العام البورجوازي من غير تمييز بين طبقاته على رغم كلام هابرماز على "دائرة علانية عامية"، مخالفة لدائرة العلانية البورجوازية، في مقدمة عمله، ترك تقصي هذه الدائرة في متن العمل، وفي أعماله التالية إذا لم يخطئني الظن.
وتصوُّر عامٍ وعلانية على هذه الصورة المعقدة، والمؤتلفة من فروق كثيرة - الفرق بين عامة جمهور وبين خاصة مرتبية وثقافية سابقة، والفرق بين عام العلن وبين خاص الضمير أو خاص الأهل، والفرق بين عموم التداول والمناقشة وبين الاقتصار على دائرة أهل العلم أو دوائرهم...- لابس التصور هذا حوادثَ كثيرة انعقدت على سياقات متشابكة. وأدى انعقادها الى استقرار ما يوصف، على سبيل المثال والأنموذج المجرد، بدائرة العلانية العامة.
ولا ينبغي أن يُفهم بالاستقرار تحول الهيئة، مجتمعاً مدنياً أو رأياً عاماً أو دائرة علانية عامة مجتمعة من الاثنين، الى عضو أو وظيفة مستقلة عن مباشرة أصحابها العلاقات والمعاني التي يباشرونها من طريق اكتساب ثقافي أو تأدب بآداب عمل أي تربية عليها، على ما ذهب هابرماز إليه في أعمال العقد التاسع. فهذه الهيئات كلها انتقلت من طور الى طور، وتغير دورها من حال الى حال. ولا يصح اختصارها لا في دور ثابت ولا في وظيفة عضوية. فالدور النقدي الذي اضطلعت به دائرة العلانية العامة بإزاء المراتب والتقليد والتراث والسلطان والتجزيء والقسر، هذا الدور انحط في أوقات كثيرة الى مماشاة وتسليم من غير روية، وإلى مجانسة معيارية أفضت الى قسر ثقيل الوطأة واستدخلت احكام الذوق ومسالك العبارة عن النفس.
ازدواج العام والخاص
والسياقات التي انعقدت عليها الهيئات المختلفة ملتوية النشأة ومتعرجة. فعمومها نشأ في معظم الأحيان عن الخاص وانفصاله من عام السلطان وأصحابه. وعلى حين كانت الاحتفالات بالأعياد، الى أوائل القرن السادس عشر، تجري في الساحات العامة والمختلطة، على ما يرى في المسرح الإليزابيثي الإنكليزي وفي اللوحات الكوميدية الإيطالية، انكفأ الاحتفال في العهد الملكي الأول، قبل الدور المطلق، الى حدائق القصور وحجراتها. واحتمى المحتفلون، من أشراف ومتشرّفين متكاثرين، من العوام بالبلاطات ومرافقها. وفي البيت البورجوازي جرت المآدب وراء أبواب مغلقة وموصدة، واختلط الاستقبال، والمكان الموقوف عليه، بالإقامة والسكن.
ومضت الدولة الملكية المطلقة على استبعاد الخاص، ومعانيه المتفرقة، من الدولة وعملها وإداراتها ومبانيها وأموالها. وحُمل العام والعلن على الدولة وحدها. فالناس "العامون" هم أهل الوظائف والمراتب والدوائر الإدارية. والشؤون التي يتداولون الرأي فيها أو البت والإجراء هي وحدها الشؤون العامة. وأخرجت ميزانية الملك أو الأمير صاحب الأمر عقداً وحلاً من المال العام وخزانته و"بيته". واستقلت البيروقراطية العدلية والمالية والإدارية الاقتصادية، شأن الجيش والقضاء، عن البلاط. وقامت طوائف الحرف بنفسها، وانفكت من الاستعانة بالقوة المسلحة التي كان بعض كبار أشراف البلاط يجيزون لها استعمالها. ومع حركة الإصلاح الديني، وهي عمت أوروبا ولم تعدم التأثير العميق في الكنيسة الكاثوليكية المتحولة تدريجاً كنائس وطنية "انغليكانية"، غدا الإيمان شأناً خاصاً وفردياً حِماه ضمير المؤمن وقلبه وعقله.
وعلى هذا، نزع العام الى التبلور في نصاب منفصل بإزاء الخاص. وانقسم ما كان صرحاً "للعام"، ونَصباً له، قسمين مختلفين. فازدوج "الأمير" وهو طبقة من الناس خاصاً وعاماً، ونأت الدولة وأجهزتها عن الالتحاق بالأشخاص والجماعات، وبمصالح هذه وأولئك وبقيمهم. وتملصت الدولة المطلقة من طغيان الجماعات وأهل المراتب والطبقات عليها، ومن سعيها في تقاسم السلطة والحقوق. فخرجت سلطة الدولة من "ديوان الخاص"، على حسب المصطلح العثماني، وانفكت من علاقة المِلك والحيازة، ولو على وجه تمثيل المصالح والمنافع. ودخلها عام ومشترك من ضرب جديد ائتلف من روافد كثيرة تعصى الجمع البسيط أو التركيب الحسابي.
وبإزاء هذا السلطان، وعمومه، وبإزاء الإدارة والجيش، جرى تعريف الأشخاص الأفراد تعريفاً سالباً. فهم مطَّرحون من الأعمال الرسمية والعامة ومنفيون من المشاركة في السلطان العام. فهذا وحده، وهو كان بدوره تخلَّص من ملابسة البلاط والمراتب والطبقات والحواشي، يتولى أعمال جهاز، أو أجهزة متصلة، ويحتكر الإنفاذ القانوني ل"إرادات" و"خطوط" بحسب المصطلح العثماني المحدث في عهد التنظيمات ليس لها "صاحب" معين أو أصحاب أعيان - وهم على صفة الأعيان والأشخاص -. و"الدولة" التي وحَّد لويس الرابع عشر نفسه بها، شأن الردع النووي الذي وحد فرنسوا ميتران نفسه به في أعقاب عقد وثلاثة قرون، هي هيئة العام المؤتلف من روافد التمثيل والتوكيل والتوسيط المتكاثرة وليست الدولة، وليس الردع، على هذا، "أنا" الهوى المستبد والميل المرسل بل هما نقيض هذه الأنا.
وفي سياق مختلف، ومتصل في حلقاته الأولى، كانت الأسواق التجارية الدورية، في المدن المنتشرة على طرق التبادل وعقدها، تميل الى الثبات. ومدينة آنفِرس هي مدينة السوق التجارية الثابتة الأولى، في 1531. وسبق الثباتَ هذا اضطلاعُ البريد التجاري بين الأسواق والمدن، وهي مراكز معلومات وأخبار، بدور الوصْلة المأمونة والمنتظمة. وظهرت البورصات والصحافة، الى البريد، مع استقرار الأسواق وتنوع مبادلاتها. فنقلت الصحافة اخبار الأعمال التجارية والمالية، وأذاعت الأسعار والصفقات في الناس كلهم، وعلى رؤوس الأشهاد. فكانت هذه الأخبار، إلى أخبار "السياسة" وأهل الحكم و"الأحزاب" على معنى الغرضيات والكتل، بمتناول الناس عامة. وعلى النحو نفسه كان البريد التجاري نقلاً منتظماً وأميناً. وبعض المتراسلين كانوا يقرأون الرسائل الواردة، والصادرة في أحيان أخرى، على جمهور من الأصحاب يضيق أو يتسع بحسب الأحوال والمكانات.
ونشأت الشركات المساهمة عن الشركات التجارية الكبيرة، وعن تعاظم الاستثمارات في أعمال متباعدة، وأقاليم مختلفة، عظَّم تباعدها واختلافها المخاطر. ودعا الأمران الى تقسيم المخاطر هذه وتوزيعها على المساهمين. وضمنت الدول، وقوتها العسكرية وديبلوماسيتها، الأسواق الخارجية، وضلعت فيها. ونجمت السياسة المركنتيلية، وهي قامت على مشاركة الدولة الأفرادَ في استغلال مرافق عامة لقاء امتيازات وحماية من المنافسة، نجمت عن احتياجات الدولة المالية المتزايدة، وعن توسع بيروقراطيتها ومصروفات الأعمال العسكرية والقوات النظامية والمحترفة. واضطرت السلطة الملكية، في غير بلد أوروبي، الى كسر احتكار الحرف وطوائفها الوصاية على الإنتاج والمنتجين.
فتولت السلطة منح امتيازات الاستثمار والإنتاج والعمل الى أشخاص بعينهم، لا يتوارثونها وليسوا أعضاء في هيئات تتوارثها. وأطلق هذا يدَ أصحاب الامتيازات في إخراج أعمال الإنتاج من الرسوم الثابتة والمتوارثة التي عُرفت طوائف الحرف بها. فأدرج اصحابُ الامتيازات طرائق الإنتاج في أطر رأسمالية تقدِّم التبادل - ومبادلة الخامات بالمنتوجات المصنَّعة أو نصف المصنَّعة جزء منه - على تلبية الطلب المعروف والمخصوص.
وقام أهل الصناعات والتجارات والأموال "الجدد" نظير الدولة، ووُجاهها. فهم ركيزة من ركائز سياستها، ولكنهم مستقلون عنها، ومصالحهم المستقلة، إلى طرائق عملهم ومعاييرهم، أو مجتمعهم المدني، تجعهلم يدورون في دوائر من غير شكل دائرة الدولة أو السلطة. وغدا الاقتصاد الخاص بؤرة حياة وسعي ورابطة عائلية ضيقة تقوم على طرف يقابل الدائرة أو البؤرة السياسية العامة، وتنفصل عنها، وتتممها في آن. فمع نازع هذا الاقتصاد إلى الخصوص الفردي والعائلي نزعت شرائط الإنتاج والتبادل العامة الى الانفصال عن الاقتصاد المنزلي والبيتي، وصار مناطها "مصلحة عامة" يتصل تدبيرها بآلات السلطان اتصالاً قوياً ووثيقاً، شأن اتصال الدائرة الخاصة بالدولة.
وعلى جذع المجتمع المدني هذا نشأت الصحافة، قبيل منتصف القرن السابع عشر. وكانت في ابتداء امرها أسبوعية. وتسمّت باسم "اليوميات" السياسية، على مثال فن اليوميات الشخصية وتدوين الأخبار والانفعالات. وغلبت عليها السخرية أو الانتقاد. ولم يلبث نشرها أن أصبح يومياً منذ منتصف القرن نفسه. وآذن النشر اليومي بتحول الخبر الى سلعة ثمنها من ثمن الصحيفة. فإذا زاد توزيع الصحيفة المطبوعة زاد ثمن الخبر. وترجحت الصحف عند صدورها في 1631، في فرنسا، وفي 1643 في انكلترا بين دورين: دور الوكالة الرسمية للأنباء، وذلك من طريق سيطرة الدول على المكاتب الإعلانية ونشر البيانات عن "الشرطة" الحسبة الصحية والاقتصادية والإدارية والأسعار والتعرفات والرسوم، ودور منبر الآراء والمناقشات والملاحظات المختلفة المصادر. ولم يتبلور الدور الثاني إلا في أواخر القرن السابع عشر، في انكلترا، وفي غضون الثامن عشر في فرنسا.
واجتمع جمهور القراء من مصادر اجتماعية جديدة كذلك. ونواة هذا الجمهور موظفو عمّال الإدارة الملكية. وهم جماعات. وأولهم "فقهاء" القانون، أو موظفو القضاء ومتولو صياغة العقود في الحقول الكثيرة التي امتدت إليها سلطة الدولة ومراقبتها، ومتعهدو إنفاذ هذه العقود - وذلك على مثال صياغة ومراقبة وتعهد شكلي وصوري انفردت به الدول الأوروبية الإقليمية، وكانت البيروقراطية جسمه جسم المثال المتعاظم التعقيد والتشابك. وإلى هؤلاء الموظفين اجتمعت جماعات الأطباء والضباط والأساتذة والرهبان و"المتعلمين" من مدرسي المدارس الدينية والخاصة الى الورّاقين - أهل الطباعة والمكتبات - والنسّاخ والعرضحالجية.
وفي الأثناء تردت مكانة البورجوازيين الأوائل والأصليين من أهل الحرف وأصحاب الحانوت. وتخطى كبار التجار أطر المدن وحدودها الى الدولة الإقليمية والوطنية. فعقدوا العقود المالية والتجارية التموينية مع الدولة الكبير الواحدة أو مع "جوق" الدول المتحالفة أو المتحاربة. ودخل "الرأسماليون"، من تجار ومصرفيين وأصحاب المعامل والمصانع في البورجوازية، وهم ليسوا أصلاً منها. فالبورجوازية، على المعنى التقليدي، متصلة بالإقامة في "البلد"، وبالعمل فيه أو فيها. فهي بلدية، على خلاف كبار أهل التجارات والأموال والمصانع المتخففين من الروابط المحلية والبلدية، شأن المتعلمين وجمعياتهم ومراسلاتهم و"أحزابهم".
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.