تابع كثيرون مسار انعقاد القمة في العاصمة الأردنية عمان، وخرج البعض بانطباعات مختلفة، كما قرأوا النتائج من زوايا متباينة، بل تكاد تكون متناقضة. وقد كنت - مثلي مثل آخرين - أراقب مسار القمة وما يصدر عنها من تصريحات أو تلميحات، حتى تجمعت لدي كمراقب ملاحظات أسوقها في هذه السطور: لاحظت الإشادة المتكررة من الجميع تقريباً في خطابات الافتتاح بالفعل الحضاري، الذي تمثل في اتفاق دولتي البحرين وقطر حول النزاع الحدودي السابق بينهما، وهي إشادة في محلها، واعتقد جازماً ان كل من ثمّن هذه الخطوة كان مخلصاً في ما يقول. ولكن أريد أن أشير الى ان تلك الخطوة التي لفتت انتباه القادة، وأفردوا لها مكاناً في كلماتهم بالتهنئة والتبريك الحار، يعود نجاحها - جزئياً - الى أنها كانت نتاج الإلتجاء الى مؤسسة دولية، هي محكمة العدل الدولية، كما يعود - جزئياً ايضاً - الى قدرة "الحمَدَين" التاريخية والحضارية على القبول الإيجابي لما توصلت اليه تلك المحكمة، وبالتالي التمكن من طي صفحة قديمة لتبدأ صفحة سياسية واقتصادية جديدة مرجوة، تعمل لمصلحة الشعبين. ولا أعرف اذا كان خطر في فكر المهنئين المتعاقبين ان المؤسسات الدولية في عصرنا هي التي تمتلك الفاعلية في جزء كبير من القضايا الدولية العالقة، خصوصاً تلك القضايا والمشكلات البينية بين الدول. واننا جميعاً - أعراباً وأعاجم - ننتمي في هذا العصر سريع النبض الى مرجعية اكبر من مرجعياتنا الاقليمية، خصوصاً في القضايا الشائكة والمعقدة، وهي المرجعيات الدولية، بل ان هذه المرجعيات الدولية تتحدث اليوم عن التدخل ليس في المشكلات البينية العالقة بين دول واخرى، بل التدخل في المشكلات الداخلية متى استعصت وتفاقمت تداعياتها وتعقدت سبل حلها. وأمامنا أمثلة عدة لا تخطئها العين، في يوغوسلافيا السابقة، وهايتي واندونيسيا وغيرها من مناطق التفجر. فاذا كان بعض المتحدثين قد طاف بذهنهم ذلك الربط بين الدولي والاقليمي، فإن هؤلاء يكونون قد أوقعوا أنفسهم في دائرة التناقض، عندما يطالبون - أو يطالب بعضهم - بسحب بعض القضايا الشائكة، مثل الملف العراقي أو الحالة العراقية المعقدة، من الساحة الدولية، بقرار "عربي"، وقصر بحثها والسعي الى ايجاد حلول لها على الآليات العربية وحدها، وهي عملية غير واردة مهما صفت النيات، اذ لا يمكن للدول العربية ان تغلق الملف وتنهي المشكل العراقي بمجرد سحبه من الساحة الدولية الى الاقليمية. فالموضوع الذي بين أيدينا هو موضوع دولي قبل ان يكون اقليمياً، أو محلياً، وهو يظهر التناقض بين موقف العرب تجاهه وموقفهم من موضوع آخر موازٍ له ومتزامن معه. ففي الوقت الذي يحاول بعضنا جاهداً ان يسحب الملف العراقي من التداول الدولي، يناضل اخوتنا في السلطة الفلسطينية ويتوسلون، ولهم الحق، ليبقى الملف الفلسطيني قابعاً في المرجعية الدولية، بدليل الإصرار الكبير على ايجاد قوة دولية لحماية الفلسطينيين من بطش الجنود الاسرائىليين، وهو المطلب الذي فشل اقراره دولياً في اليوم نفسه الذي انعقدت فيه القمة الأخيرة. هذه هي النقطة الجوهرية التي يبدو معها أننا، في زحمة الخبراء أو نتيجة لميلنا العربي المشهور الى استخدام المفردات، والتعبير من دون انتباه جيد لما تعنيه المفردة أو الكلمة، قد نسينا طرح السؤال الاهم وهو: هل نريد ان يكون للمرجعية الدولية دور في قضايانا مثل المحكمة الدولية وايضاً مجلس الأمن، أم نريد ان ننفرد نحن فقط من دون غطاء دولي بنصرة قضايانا العديدة؟ وان قررنا الخطوة الأخيرة يبقى السؤال: هل يمكنّا ان نفعل شيئاً حقيقياً، في هذا العالم المتشابك الأطراف، يكون له معنى، اللهم الا الخداع الموقت للجماهير، لأننا لا نملك في ضوء التفسىرات المتناقضة لمفردات القضايا المطروحة أمامنا. وتلك واحدة من المسائل التي شغلتني في الليلة اللاحقة لانفضاض القمة العتيدة، وأحسب أنها شغلت غيري. ولاحظت ايضاً في أيام انعقاد القمة، ربما كما لاحظ الآخرون، ان العراق الشقيق قد تبرع للانتفا ضة الفلسطينية بمبلغ بليون يورو، وهو اعلان نامت بعده شريحة واسعة من العرب والفلسطينيين على أمل جميل، ولكن هذا التبرع السخي مرتبط ارتباطاً آلياً تقريباً بقرارات دولية لن تفعل الموافقة العربية حياله شيئاً يذكر. ويعرف الفلسطينيون قبل غيرهم ان "يورو" واحداً لن يصل الى خزينتهم الخاوية الا من أمل بالله وبقوتهم الذاتية. أما الاعلان نفسه فقد أراد النظام العراقي من خلاله اثارة الدعاية، وربما الإحراج للآخرين، لأن العراق في وضعه الحالي، وحتى قبل ذلك، لم يكن يوماً بهذا السخاء الذي ظهر فجأة !، كما انه يعرف قبل غيره استحالة تنفيذ هذا الاقتراح بالتبرع. والسؤال: تُرى هل أصبح الشارع العربي ساذجاً الى هذا الحد حتى تنطلي عليه مثل هذه الشعارات، أم ان النظام العراقي لا يزال يفترض ان السذاجة تسود هذا الشارع كما تهيمن على عقول المراقبين له، حتى انه يتصور ان أريحيته المفتعلة ستقود الجميع الى التصديق بتنفيذ المواعيد، وبالتالي سيتعين على الجماهير ان تضغط بما أوتيت من قوة للاسراع في اخراج العراق من المأزق الذي أوصل نفسه اليه، من أجل ان يصل البليون يورو الى الخزينة الفلسطينية. تُرى أي عقلية تقف وراء مثل هذه المناورة غير عقلية المغامرة؟ ولا أجد كلمة تسعفني لوصفها بغير ذلك. واحد فقط من الأهداف التي يرغب في ان يحققها النظام العراقي بهذه الأريحية الاعلانية هو الإصرار على ان تصدر من مجلس القمة قرارات تساند دعواه، ولو على الورق، وهي محاولة - من جهة اخرى - لتأكيد الربط غير المؤكد بين القضية الأولى التي يؤمن بها الشارع العربي على امتداده، ويحتشد لنصرتها وهي قضية الحقوق المشروعة لشعب فلسطين، وبين القضية العراقية، وهي ملف آخر، له علاقة بخرق ميثاق الجامعة العربية، والاعتداء على جارة عربية مسالمة، وتهديد الأمن القومي، كما ان لها علاقة ايضاً بحقوق الشعب العراقي. هذا الربط الذي وافقت عليه القمة شكلاً - هو في تصوري - جاء من باب سد الذرائع، وهو نهج مشهور في ثقافتنا العربية، وليس من باب الاقناع والاقتناع بجديته أو إمكان تحقيقه. التناقض هنا بيّن، ففي كلمة الرئيس ياسر عرفات الرسمية نراه يدعو الى "احترام القرارات الدولية" وله كل الحق في ذلك، ثم يأتي العراق ليطلب ان يضرب الجميع بقرارات الاممالمتحدة - التي من الواجب ان تحترم - عرض الحائط. ويبرز تناقض آخر صارخ، وهو الفرق بين الدعوات الى السلام وشعارات الحرب. فخطاب السلام الذي تبنته القمم العربية الأخيرة هو الخطاب الذي أُقر من الجميع حتى الآن، لايجاد مخرج مشرف في الصراع الدائر بين العرب واسرائيل، باعتبار السلام هدفاً استراتيجياً للعرب وهو مقرّ ومعلن. ويأتي من الناحية الأخرى خطاب تقليدي كلاسيكي معاكس تقول به بغداد في كلمتها الرسمية أمام القمة: "فوالله سوف نأتيهم بجيش آخره في بغداد وأوله يهز فرائص المحتلين لو أردتم ذلك وقررتم عليه"! وكأن القضية هي قضية عدد لا عدة، وقضية كم لا كيف، أو كلمات رنانة يطرب اليها السامع غير الفطن، بينما الفعل عنها بعيد ! وهو خطاب تهديدي فارغ من المحتوى الحقيقي وخارج عن سياق مخاطبة العقول الواعية، معتقداً انه يخاطب العامة ويثير شهوتهم، وكأنه لا يعرف ان الشعوب العربية شبت عن الطوق بعدما مر بها من التجارب، واصبح الجميع يعرفون ان تنفيذ مقتضيات ذلك الخطاب ليس في امكان بغداد، وايضاً ليس من أولوياتها القيام به، لا في الزمن الماضي ولا في اللاحق، كما أنها ليست بقادرة عليه، لأن أولى خطوات المواجهة التي تعلمناها هي ان تكون الشعوب متحررة من القيود مالكة لقرارها، وشعب العراق ليس كذلك اليوم. لا أميل الى وصف القمة الأخيرة بالفشل أو النجاح، لأن الموازين هنا غير دقيقة، كما لا أميل الى اعتبار "الحالة العراقية" هي المؤشر الذي يقيس الفشل أو النجاح. ولكني أميل الى القول ان الأكثرية العربية باتت تعرف ان الصراخ من الحناجر لا يؤدي الى نتائج في العمل السياسي، لأنه سريع التبخر، ولا أعتقد ان القمة العربية وصلت الى مرحلة ناضجة من العمل السياسي المراد من مثلها، فهي حتى الآن تغلب عليها صور المجاملة، واعطاء كل مُطالب شيئاً مما يطلب على الورق بما يلزم للاستخدام الاعلامي وربما السياسي. ولن يكون هناك نجاح بالمعنى المطلوب - ولو جزئياً - في مثل هذه المؤسسة الا عندما تقتنع اللجان التي تطبخ القرارات وتقرر انه من الأوفى المصارحة والتعاضد في الممكن، والبحث عن جوانب الاتفاق وتعزيزها، وليس المطالبة بكل شيء في وقت معاً، بصرف النظر عن القدرة على تنفيذ هذه المطالب، أو حتى متابعتها. يترجل الرجل الكريم الدكتور عصمت عبدالمجيد عن كرسي الأمانة العامة وهو يردد ما قاله علناً، أكثر من مرة، "ان قرارات القمم العربية هي حبر على ورق"، وستظل كذلك مهما تراخت العبارة أو تشددت. وهو قول مفيد - برغم قساوته - فمن لا يعرف ان الحقيقة تنقصه لن يسعى الى معرفتها. * كاتب كويتي.