بعيداً من الهستيريا النسوية بأن كل ما هو ذكر معادٍ للكائنات الحية الأنثوية، وتشديداً على مبدأ تقصي الحقائق من دون انحياز يؤدي إلى الحقيقة، وإمعاناً في إضافة عنصر جديد إلى "خلطبيطة" المرور في شوارع القاهرة، كان لا بد من اجراء تحقيق يعتمد قضية محورية أساسية ألا وهي القيادة النسائية للسيارات. ومثل هذا التحقيق لن يهدف الى عرض نماذج مشرفة لدخول المرأة مضمار سباق السيارات، ولا مناقشة منطق قيادة "الستات" للحافلات، ولا حتى محاورة صاحبات التجارب الرائدة في قيادة سيارات الأجرة. سؤال واحد لا بد من طرحه على الرجال: كيف ترون اسلوب قيادة النساء؟ وآخر على النساء: كيف تجدن رأي الرجال في اسلوب قيادة النساء. وتسهيلاً على القارئ، وبناء على اجابات الرجال وملاحظات "الحياة" المتعمقة في أحوال الشوارع والمرور في القاهرة، أمكن تصنيف مواقف السائقين الرجال من قائدات السيارات إلى ثلاثة أقسام: هجومي، ودفاعي، وأخيراً "ترزيلي" من الرزالة. محمد المصري 43 عاماً سائق باص عام - من تلك الباصات الحمر الشاهقة التي تبخ السموم في هواء القاهرة والرعب في قلوب سكان القاهرة - يقول من خلف السم الذي يبثه من فمه وبفعل سيكارته: "إحنا ناقصين غُلب؟ ألا يكفي آلاف البهوات الذين يترنحون بسياراتهم الملاكي أمامنا طوال النهار والليل؟". ويبتسم ابتسامة واسعة تكشف عن بقايا صفين من الأسنان التي أكلها السوس بعناية: "من الأفضل أن تستثمر أولئك السيدات وقتهن في عمل حلة محشي بدلاً من أن يحشرن أنفسهن هذه الحشرة السوداء". وإذا كان المصري يعبر عن ايديولوجيته الهجومية من خلال الكلمات، فإن حسين السيد سائق سيارة ميكروباظ المعروفة دولياً باسم الميكروباص لا يضيع وقته الثمين في الكلام. وفي الوقت الذي يجد صعوبة في الاقتناع أن مركبته غير مزودة بأجنحة تتيح له تخطي تلك الكائنات المتراصة بسياراتها أمامه، يلمح إحدى السيدات التي استغلت وقوف السيارات امام إشارة حمراء لا يتوقع لها أن تخضر امام المستقبل القريب، فأخذت تجفف حبات العرق التي تجمعت على وجهها مستعينة بالمرآة الموضوعة في حاجز الشمس أمامها. وكانت النتيجة أن بذل السيد جهوداً خارقة أفقدته بضع مئات من السعرات الحرارية لتتزحلق سيارته، وبعد عدد من الطلبات الآمرة له أن ""يأخذ يمينه بعض الشيء"، كي يجنح إلى الشمال، نجح في أن يزنق "الميكروباظ" على يمين السيدة ذات العرق، وأطل من النافذة، وشوّح لها بيده قائلاً: "هل هذا وقت تجميل؟ أنتن هكذا، لا تفلحن إلا في تعطيل خلق الله". تامر أدهم 22 عاماًَ شاب "روش"، أهداه والده سيارة بونتو حمراء حين حقق أمل العائلة وتخرج في كلية التجارة بتقدير "مقبول". أدهم يؤكد أنه "ليبرالي متحرر". ومبدأه في الحياة: "حدودي هي السماء" أما في الأرض، فمبدأه: "حدودي هي عمود النور أو الشجرة"، وذلك بحكم قيادته سيارته بأسلوب متحرر من أدنى قواعد المرور، ناهيك باللياقة. يقول: "نادراً ما أجد سيدة أو فتاة تتقن "الغرز"، و"المقصات" فهن دائماً مذعورات يمسكن عجلة القيادة بكلتا اليدين، ويجذبن مقعد القيادة إلى الأمام وكأنهن على وشك الجلوس على التابلوه". ويقهقه إعجاباً بالتشبيه الجميل الذي تفتق عنه ذهنه، ويمضي قائداً سيارته البونتو الحمراء، "مدلدلاً" يده من النافذة بلا مبالاة، دلالة ثقة وقدرة. واتباعاً للمثل القائل "ابعد عن الشر وغنِّ له" ينتمي خالد مصطفى 40 عاماً إلى الفئة الدفاعية. وبحكم دراسته العلمية وعمله كطبيب يقول: "الفارق الرئيسي بين الرجل والمرأة في القيادة عضوي، فالمرأة في حكم تكوينها البيولوجي أبطأ من الرجل في التعامل مع المواقف الصعبة الفجائية، مثل انحراف سيارة تجاهها اثناء القيادة أو مرور شخص أمامها". ويعمد أثناء قيادته المتأنية إلى تجنب وجود سيارة تقودها سيدة وراءه وذلك خوفاً من "الفرملة" الفجائية، ومن ثم ارتطامها به، أو تجاوز سيارة نسائية بسرعة تجنباً لإصابة قائدتها بالخضة. إبراهيم عبدالعال 47 عاماً سائق سيارة أجرة، ومعلم للقيادة في أوقات الفراغ، ومعظم تلميذاته من النساء. وهو يعمل في مجال القيادة منذ العام 1980، يقول: "الدرس الأول الذي أعطيه لتلميذاتي هو لا تتعصبي على الدركسيون". والسبب في ذلك - كما يشرح عبدالعال - هو أن "معظم النساء يعمدن إلى إحكام قبضتهن بكلتا اليدين على عجلة القيادة، وكأنه سيسقط من تابلوه السيارة". ويؤكد أن المقياس في القيادة الجيدة ليس جنس السائق، بل قدرته أو قدرتها على "تخليص نفسها". ويبرهن على ذلك بقوله: "أرى سيدات يقدن سياراتهن بمنتهى السرعة ويراوغن، ويهربن من الأزمات المرورية بحنكة شديدة". وعلى رغم ذلك، فإن عبد العال في حال وجود سيارته بالقرب من سيارة تقودها امرأة يلاحظ ويحلل ويدقق، فإذا ثبت أنها من فئة المذعورات المضطربات يبتعد عن المنطقة. أما إذا كانت من المغوارات المراوغات فلا يغير خط سيره. القسم الثالث من السائقين الرجال، والمنتمين إلى النوعية "الترزيلية" اعتمدت "الحياة" على ملاحظتهم ميدانياً، وذلك لعدم اعتراف أي من الرجال بميوله الترزيلية. وأولئك إما يتحرشون بالقائدة بغرض الاستظراف والمعاكسة، وذلك بتضييق الخناق عليها، وإجبارها على السير في منطقة محددة، بينما يقوم هو بمهمة تلعيب الحاجبين، أو تسبيل العينين، أو تبسيم الشفتين. وهناك نوعية أخرى من أولئك الرجال - وهم كثيرون - يستفزهم وجود امرأة وراء عجلة القيادة، فإذا كان يسير ببطء، وطلبت منه السيارة الخلفية السرعة أو التنحية، وكانت قائدتها سيدة، نالها من نظرات الاحتقار والاستهزاء نصيب عادل وربما راح السائق يلوح بيده للدلالة على مشاعره. ومنهم من يتعمد إخافتها، فيأتي مسرعاً، ويتعمد الالتصاق بسيارتها، ثم ينطلق أمامها، لا لشيء إلا لمتعته الشخصية، وإذا اختلت عجلة القيادة في يديها بادرها بالجملة المشهورة "سواقة ستات صحيح". لبنى الشافعي 35 عاماً تضطر إلى قيادة سيارتها من ضاحية مصر الجديدة إلى الجيزة، حيث عملها، مرتين يومياً. تقول: "هناك تحيز واضح ضد المرأة التي تقود سيارة. فحين ينتبه بقية السائقين من الرجال أن السيارة المجاورة تقودها أنثى، تبدأ المشاعر في الاستنفار، ويعلو أزيز المحركات لإثبات أن الرجل هو الأقوى والأسرع". وتضيف: "أسعد أو أمتع أيام في قيادتي للسيارة كانت حين استبدلت زجاجها الشفاف بآخر داكن اللون لا يظهر جنس السائق". ليلي الخضري 55 عاماً، لديها سيارة "سيات" صغيرة تصدر اصواتاً تغني عن الأبواق والاضواء، تقول وهي تبتسم: "الجميع يتحاشى السير وراء سيارة سيات، فهي بطيئة، فما بالك لو كانت تقودها سيدة ومتقدمة في العمر؟". وتشير الى انها تستمتع بالقيادة جداً، فالجميع يبذل جهوداً مضنية لتفاديها، وبالتالي لا تتعرض لمشكلات تذكر، وتقول: "أشعر أني ملكة في مملكتي "السيات" الصغيرة". أمل القفاص 30 عاماً تقود سيارتها وبشهادة الجميع بحنكة وكفاية، وتتمتع بشخصية قوية ومباشرة. وهي إذا ضايقها أحد اثناء القيادة لا تتركه إلى حال سبيله، بل تتعقبه وتتوعده. وتفسر "التمييز ضد المرأة التي تقود سيارة" في ضوء نظرية التمييز الكبرى، قائلة: "الرجل لا يطيق أن تتجاوزه امرأة في القيادة، أو أن تقود امرأة السيارة التي تتقدم سيارته، تبعاً لطبيعة الرجل الذي يحب دائماً أن يكون في المقدمة". تقول شفيق: "وإذا كان السائقون من الرجال لا يتوانون عن توزيع عبارات الشجب والتنديد بقيادة المرأة، فأنا أفعل الشيء نفسه وقت اللزوم، فإذا أخطأ أحدهم أو تطاول عليّ، أفتح زجاج النافذة، وأصرخ في وجهه "سواقة رجال صحيح". هذه هي آراء سائقي السيارات، وسائقاتها وهذا هو الوضع في الشارع المصري. وبعيداً من الانحياز والتمييز سواء مع المرأة أو ضدها، فإن ما يزيد على 95 في المئة من حوادث المرور أبطالها من الرجال فهل يدل هذا على شيء؟