مع مرور فسحة من الزمن على مؤتمر القمة العربية في عمان ربما أصبحنا أكثر قدرة على النظر إلى النتائج التي توصّلت إليها بموضوعية وفي سياقها الأعم، وإلى الربط بينها وبين أحداث الشهر الماضي. كثر الحديث عن فشل القمة، كما لو كنا نتوقعّ منها أن تقدّم حلولاً لمشكلات مستعصية متراكمة. ولكن القمة عُقدت فعلاً لا من أجل وضع حلول لمشكلات أكبر من طاقاتها بل للنظر في إمكان وكيفية الحد ّ من تفاقمها في وقت يتعرّض الحكام العرب على الأقل لنوعين متناقضين من الضغوط: ضغوط شعوبهم التي ملّت الانتظار وتعمّقت مخاوفها بشأن المصير العربي بكل أبعاده فأخذت تتململ وتُجهر بآرائها، والضغوط الأميركية وأصحاب المصالح الخاصة. ونتيجة الإحساس العميق بهذه الضغوط المتناقضة، عكست قرارات القمة في مظاهرها الخارجية رغبة في القيام بمحاولة لإرضاء ما تسميه الشارع العربي وإلهائه وتبديد غضبه. أما في ما تقوم عليه هذه القرارات من فرضيات خفية فليس من جديد. هناك إستمرار في لعبة القيام بمحاولات لإحتواء المشكلات والتخفيف من حدتها بدلاً من وضع العلاجات الضرورية لها. دان القادة العرب العدوان الاسرائيلي ورأوا في الممارسات الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وعبروا عن استيائهم البالغ من استخدام أميركا حق النقض في مجلس الأمن ضد مشروع قرار الدعوة الى حماية الشعب الفلسطيني، ووعدوا بتقديم الأموال للسلطة الفلسطينية كي لا تنهار كلياً، كما حيّوا الانتفاضة، وأعلنوا استمرار تمسكهم بالسلام الشامل. وكان ان اعتبرت الإدارة الاميركية قرارات القمة "متطرفة". ونذكر هنا ان نائب الرئيس الأميركي ريتشارد تشيني قال في 1996، حين كان رئيساً لشركة ذات مصالح نفطية: "يبدو أن لدينا فرضية بأننا نعرف ما هو الأفضل لكل بلد آخر، وأننا سنستعمل قوتنا الإقتصادية لنجعل الآخرين يعيشون كما نفضّل نحن لهم". أما الآن، وبعدما أصبح نائباً للرئيس، عاد ليمارس من هذا الموقع السياسة نفسها متناسياً انتقاداته السابقة. فشلت القمة العربية في تحقيق التضامن العربي وتقديم حلول لمأساة الشعب العراقي، كما فشلت المساعي العربية قبل عام 1990 بحل الخلافات العراقية- الكويتية مما أدى إلى حرب الخليج الثانية. وبين أسباب فشل العرب في حلّ خلافاتهم أنهم يتكلمون لغة المساومة والديبلوماسية والسلم مع أميركا وأوروبا وغيرها من الدول الأخرى من موقع الإحساس بالضعف، بينما على العكس تماماً يتبادلون لغة العنف في التعامل مع بعضهم بعضاً. ويبدو أن قمة عمان توقّعت خيراً من زيارة الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله إلى أميركا خصوصاً من حيث المطالبة بعودة الإدارة الأميركية إلى ممارسة دورها في التوسط بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، متجاهلة كلياً مسألة التحيّز الأميركي الكلي لإسرائيل، حتى ان الاعلام الاميركي تمكن من إبراز ما أسماه "العنف الفلسطيني" وتحويل النظر عن تاريخ شارون الإجرامي وعن الاحتلال والحصار الخانق على القرى والمدن الفلسطينية. إتهمت الإدارة الأميركية الفلسطينيين شعباً وسلطة، تماماً كما فعلت الإدارة الاسرائيلية وبلغتها، باللجوء إلى العنف. يُقال مثل هذا الكلام لعرفات ولا يقال لشارون الذئب الذي يُجيد تعكير المياه من ينابيعها. وأكثر ما يُطلب من هذا الذئب البشري من جانب الإدارة الأميركية أن يمارس "ضبط النفس". هناك لغة قاسية شرسة متعالية تستعمل مع الفلسطينيين، ولغة مهذبة ناعمة إيحائياً تستخدم مع الإسرائيليين. وهذا انسجام مع الذات في تاريخ السياسة الأميركية، فالإزدواجية في التعامل تشمل جميع جوانب المشكلة، وعلى أساسها تمّت الموافقة مع إسرائيل وشارون بالذات أن "لا مفاوضات مع الفلسطينيين قبل ان يوقفوا العنف". وبذلك حوّل الإعلام الأميركي النظر عن الإحتلال الاسرائيلي، الذي هو مصدر المشكلة في أساسها إلى إدانة مقاومة الشعب الفلسطيني الاحتلال، فأصبح الفلسطينيون حسب هذا المفهوم مسؤولين في النظرة الأميركية كما في النظرة الاسرائيلية عن نكباتهم وقتل أطفالهم واستشهاد شبابهم. أصبحت مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في عرف أميركا كما في عرف إسرائيل عنفاً، وتمّ السكوت عن الاحتلال والقتل الجماعي وتدمير الحياة والحصار الخانق. إنها محاولة فجة لقتل إرادة الفلسطينيين المحتجزين في مدنهم وقراهم. ويتم ذلك على رغم أن الفلسطينيين قبلوا مسبقاً في اتفاق أوسلو الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على 78 في المئة من أرض فلسطين التاريخية على أمل أن يقيموا دولة فوق 22 في المئة المتبقية من فلسطين. ومع هذا لم ترضَ إسرائيل حكومة وشعباً، وهي قادرة على الرفض لسبب أساسي هو أنها تحظى بالدعم الأميركي غير المشروط. على هذه الخلفية تمّت دعوة شارون إلى البيت الأبيض والكونغرس الأميركي، فانصبّ الإهتمام ليس على كيفية تحقيق السلم، بل على تقديم المساعدات الدفاعية لاسرائيل "نيويورك تايمز" في 21/3/2001. ولم تكتفِ أميركا بذلك، بل حرصت على استعمال الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار حماية الفلسطينيين. في هذا الوقت واظبت إسرائيل على إعتداءاتها الشرسة، فتبكي مقتل طفلين إسرائيليين وهذا حق فلا يجوز قتل أي طفل أو أي إنسان، ولكنها تتجاهل مقابل ذلك قتل 140 طفلاً فلسطينياً بين الأربعمئة قتيل فلسطيني وآلاف المصابين. وصرح المسؤول الأمني محمد دحلان، الذي يجيد التكلم بالعبرية ولم تفته فرصة لتبادل الزيارات مع جميع الرسميين الإسرائيليين: "مللنا ثماني سنوات من المفاوضات" غير المجدية "فلم يعد بامكان أية سلطة أن تسيطر على الجماهير الغاضبة"، وأن مَنْ لا يستطيع الحصول على السلاح سيسلك "الطريق التي سلكها خليل أبي علبة". وكان ردّ فعل وزير الدفاع الاسرائيلي بنيامين بن اليعيزر أن "تتخلّى إسرائيل عن سياسة ضبط النفس". ثم تطلب تل أبيب بوقاحة من الحكام العرب "تثقيف" شعوبهم ومنعهم من القيام بحملات تشهير باسرائيل في الوقت الذي تدعم الحكومة الإسرائيلية المستوطنين المتشدّدين المسلحين الذين يرفعون شعارات "الموت للعرب" و"ترحيل الفلسطينيين" إلى الخارج وتهديم منازلهم وقتل أطفالهم ومنعهم من الدخول إلى منازلهم. إن هدف اسرائيل، في سياستها الاستراتيجية، قتل ارادة الفلسطينيين وإحساسهم بكرامتهم ووعيهم لحقوقهم. وكان ديفيد بن غوريون قال عام 1936: "لا شك انه من المستحيل التوصّل الى إتفاقية شاملة مع العرب إلا بعد ان يحل اليأس التام بهم. ويتم هذا اليأس نتيجة لفشل محاولات الإضطراب والتمرد، ولكن أيضاً لنمونا في هذا البلد. عندئذ فقط يمكن للعرب ان يسلّموا بالدولة اليهودية". ما أرادته إسرائيل في السابق وما تريده الآن هو التسليم لا السلام. أمام الإزدواجية الأميركية والتحيز الكلي لإسرائيل التي تسعى الى الحصول على استسلام العرب لا السلام معهم، لم يتمكّن الحكام العرب من أن يُجمعوا على رأي، وحين يبدو أنهم فعلوا ذلك يكون ذلك لمجرد الظهور أمام شعوبهم بمظهر المتفقين، وما أن يأتي وقت الفعل حتى يتخلّوا عما اتفقوا عليه مهما كان جزئياً، ويسلك كل حاكم طريقه، وما أكثر الطرق التي يسلكونها. وهي طرق لا تلتقي ولا تصل إلى أي هدف عام ينسجم مع الأماني والتطلعات العربية. جاء الرئيس حسني مبارك والملك عبدالله إلى العاصمة الأميركية وفي جعبتيهما مهمة وأولوية. المهمة اقناع أميركا بالتدخل في الخلافات الفلسطينية - الاسرائيلية، فقد أصبح من الضروري أن تلعب واشنطن دوراً في تثبيت الاستقرار، فيرد جورج بوش جواباً على هذا الطلب وبحضورهما: "مهمتنا تسهيل عملية السلام لا فرضها"، وطلب منهما بالمقابل أن يقنعا عرفات بإدانة العنف "باللغة التي يفهمها الفلسطينيون". أما الأولوية التي جاءا من أجلها فعلاً فهي الحصول على مساعدات إقتصادية والتوصّل إلى اتفاقات تجارية. لذلك، نزداد قناعة ليس فقط بفشل معظم الحكام العرب بل بكونهم سبباً رئيسياً في تدهور الحياة العربية جملة وتفصيلاً. لم ينجحوا في العقد الأخير على الأقل في التصدي لأية مهمة تاريخيهة، وفي صميم فشلهم أنهم سحقوا المجتمع الذي هو مصدر قوتهم وعطّلوا قدراته وموارده، وأبعدوا الشعب عن ممارسة حقوقه بمختلف أشكالها، فأغلقوا الباب على إحتمال إجراء أي إصلاح في بنية الواقع العربي الهزيل. وبعدما منعوا شعوبهم من المشاركة الفاعلة في تغيير الواقع والتوصُل إلى حلول للأزمات المتراكمة نشأت فجوة عميقة بين الحاكم والمحكوم أدت بدورها الى قيام ظاهرتين أساسيتين: تتجلّى الظاهرة الأولى في أنه بقدر ما يبدو الحاكم العربي جباراً في سحق شعبه وعنيفاً ومخيفاً وسلطوياً ومستبداً، يتبين أنه ضعيف في تعامله مع القوى الخارجية فلا تأثير له في الأحداث العالمية لكونه يحتاج الى حماية ومعونة وتأمينٍ على استمراريته. أصبح بعض أصدقاء أميركا من الحكام العرب أكثر حاجة إليها مما هي بحاجة اليهم، ولا يستطيعون التأثير عليها من حيث تخفيف سياستها العدائية للعرب. وإذ لا تشعر واشنطن أنها مضطرة لتلبية بعض المطالب الوطنية لهؤلاء الحكام كالمساهمة في حلّ مشكلة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية فانها تكتفي بتقديم الحماية والمساعدات الاقتصادية. أما الظاهرة الثانية، فهي ان الشعوب العربية لم تعد تثق بحكامها ولا ترى فائدة في إسداء النصح لهم. قبل أعوام قال سعد الدين إبراهيم بنظرية "التجسير"، أي إقامة جسور بين المفكرين العرب وحكامهم، ولكنه لا بد ّ أنه إقتنع من خلال خبرته الأخيرة أن الحاكم العربي لا يتوقّع نصحاً من مفكريه بل ولاء وطاعة وتعاون بشروطه هو ومن موقعه المتعالي. هنا أذكر، لمجرد تقديم مثل حي، ان صحيفة "الرأي" الأردنية طلبت من عدد من المفكرين العرب ان يوجّهوا رسالة إلى الحكام العرب قبل انعقاد القمة في عمان. وطلب إليّ شخصياً ان أوّجه رسالة من هذا النوع، وقبلت هذه المهمة على رغم شكوكي بفائدتها. ولكن ما أن بدأت بكتابتها حتى أدركت أنني أخدع نفسي وأخدع القراء والقارئات بالظن أن هناك جسوراً وحواراً وأخذاً وعطاءً في التعامل مع الحكام العرب، فكان أن إمتنعت. هذا هو زمن الحزن العربي. حزن يختلط بالغضب فنسأل مما يُولد الحزن والغضب. إنهما يُولدان من رحم تلك التجارب والأوضاع التي يعيشها الشعب الفلسطينيّ بعد أكثر من نصف قرن من التشرد والتعرض للإحتلال. كما يُولد الحزن والغضب أيضاً مما وصلت اليه الأحوال و الأوضاع في الجزائر والسودان والعراق ولبنان وغيرها من البلدان العربية التي وصلت الى حافة الانهيار وشاهدت الجحيم. * كاتب واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن