تبدّلت أمور عدة في الولاياتالمتحدة الأميركية في الداخل كما في العلاقات الخارجية بعد هجوم الحادي عشر من أيلول سبتمبر، وكان لا بد للادارة الأميركية في حربها على أفغانستان والارهاب الدولي من أن تعيد النظر في سياسة عدم التدخل في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. كان عليها أن تعيد النظر على رغم تمنعها عن الاعتراف علناً بأن هناك علاقة بين سياسة الانحياز المطلق لاسرائيل وما تعرضّت له من هجوم صاعق. و هي لا تزال تصّر على القول أنها كانت بدأت تعيد النظر في سياسة عدم التدخل في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي قبل هجوم 11 ايلول لئلا يقال أن هناك علاقة بين ما تعرّضت له واعادة النظر في السياسة المتبعة. المهم، اعترفت أو لم تعترف علناً، بأنها غيّرت سياستها كي تضمن تحالف الدول العربية الصديقة معها في حربها ضد الارهاب وبعدما بدأ الأميركيون يدركون أن اسرائيل تشكّل عبئاً عليهم. ومهما كان، سارعت الدول العربية الصديقة كالعادة في مثل هذه الظروف الى الترحيب بالمبادرة الأميركية الجديدة وأشادت بها معبّرة عن امتنانها لما في هذه المبادرة من عناصر ايجابية جديدة، كالدعوة الى اقامة دولة فلسطينية والمطالبة بتجميد المستوطنات وانهاء الاحتلال بالمفاوضات لا بالعنف ورفض طلب اسرائيل مرور سبعة أيام من الهدوء المطلق قبل الدخول في لعبة ترطيب الأجواء واعادة الثقة المتبادلة وما قد يستدعي ذلك من مفاوضات وتنازلات واتخاذ اجراءات وغير ذلك. ومما رحّبت به الدول العربية الصديقة بشكل خاص ما ورد في خطاب بوش في الأممالمتحدة وخطاب وزير خارجيته باول من لغة شبه جديدة وغير مألوفة. وجاء هذا الترحيب على رغم ما في هذه اللغة من غموض يتقبّل تفسيرات متعددة. وفيما عبّرت عن شكرها للعناصر الايجابية، تجاهلت كلياً العناصر السلبية ومنها ممارسة الضغط على السلطة الفلسطينية في قمع شعبها. في أجواء الحرب على الارهاب وضد أفغانستان وضرورات اعادة النظر بالسياسات السابقة رفض الرئيس بوش الاجتماع بعرفات ومصافحته أثناء غداء ديبلوماسي دعا اليه كوفي انان وعلى رغم تدخل نلسون مانديلا وبعض الديبلوماسيين في سبيل هذه الغاية. وكان أن عُوِّضَ على عرفات باجتماع مع وزير الخارجية كولن باول الذي بدأ يستوعب عمق الغضب العربي والاسلامي، ولكنه على رغم ذلك ما زال في لغته يتوّجه الى شارون بالرجاء أن يتخذ بعض الاجراءات للتخفيف من حدة الأجواء، والى عرفات بالطلب والأمر بوقف العنف والتحريض. هنا نلحظ أنه في الوقت الذي رفض بوش الاجتماع مع عرفات، رفض شارون من ناحية أخرى الاجتماع مع بوش على رغم توجيه الدعوة اليه مراراً لزيارة واشنطن. وهذا ما يجعلنا نتساءل مَنْ الذي يجلس على قمة هرم القوة؟ بوش أم شارون؟ وفي الوقت الذي لم يستجب شارون للترجي الأميركي بل اتهم أميركا بانها تحاول حل مشاكلها على حساب الأمن الاسرائيلي، نجد أن الرئيس عرفات استجاب للطلب الأميركي بتوقيف عدد من المناضلين الفلسطينيين الذين تسميهم اسرائيل وأميركا "ارهابيين". وفعلاً تمّ في جنين في منتصف تشرين الاول نوفمبر توقيف محمود الطوالبي، مما ادى الى حصول تظاهرات صاخبة وصدامات عنيفة ليومين متتالين ضد السلطة، ومما هددّ بتعميق الفجوة بينها وبين شعبها. وتم هذا الاعتقال من دون تقديم أي وعود محدّدة من جانب اسرائيل أو أميركا. مقابل هذا ظل شارون لأسابيع يصرّ على عدم الانسحاب من المدن الفلسطينية على رغم الترجي الأميركي. ويعود العرب الى ما كانوا عليه قبل الانتفاضة من انتظار حلّ يأتي أو لا يأتي من أميركا فيؤكدون أن لا حلّ من دون التدخُّل الأميركي. في هذا الوقت لا يزال النقاش محتدماً في الادارة الأميركية بين من يقولون بضرورات التدخل في هذا الوقت العصيب ومن يقولون بمراقبة النزيف الفلسطيني الى أن يضطروا للاستسلام. وعلى رغم ما جاء في خطاب كولن باول من عناصر ايجابية ومن لغة جديدة تنمّ عن بدايات استيعاب للمأساة الفلسطينية، الا أن الانتظار العربي قد يطول فنصاب بخيبة أمل أخرى قبل أن ندرك أن ما سمعناه لم يكن سوى خطابية فارغة empty oratory كما ورد في تعليقات اعلامية، وهذا ما استدعى بعض الدول العربية الصديقة لتحذير واشنطن بالقول أن سمعتها في العالم العربي والاسلامي متدنية لأنها تتردّد في التوسط لحل المشكلة التي كلّفت الفلسطينيين مئات الضحايا خلال السنة الأخيرة ولم تعد في الأذهان صورٌ أكثر رسوخاً من تشييع قتلاها من شباب وأطفال. المطلوب ليس خطابة بل اقتراحات محدّدة وجدول زمني ورسم حدود وفرض حلول عادلة لمسائل مستعصية كمشاكل القدس واللاجئين وقيام دولة قابلة للحياة. ما أثبتته أميركا مراراً أنها لن تمارس الضغط على اسرائيل، واذا ما تعمّقنا في التأمل بلغة الخطابة الأميركية على لسان بوش وباول نجد أنها لغة تضع المسؤولية النهائية في حلّ المشكلة على أكتاف الأطراف المتنازعة وليس على عاتق أميركا. ثم اننا نسأل لماذا جاء الخطاب على لسان وزير الخارجية وليس على لسان الرئيس بوش نفسه؟ هل كانت تلك محاولة لعدم احراج الرئيس الذي بدأ يعدّ لاعادة انتخابه بعد أقل من ثلاث سنوات وهو الذي كغيره يعرف مدى تأثير اليهود في الانتخابات؟ ترى أرادت الادارة الأميركية أن تجنّب الرئيس الاحراج في حال عدم تجاوب شارون مع مطالبها وهو الذي يصرّ على مطالب غير معقولة ومقبولة؟ وسيقودنا التعمق في خطاب باول الى أنه وضع مسؤولية فشل الدخول في مفاوضات جدية عل عاتق السلطة الفلسطينية لا على عاتق اسرائيل أو أميركا. طالب الفلسطينيين بالاعتراف باسرائيل كدولة يهودية مما يعني أن أميركا لا تدعم فكرة حق عودة اللاجئين. وقال باول ان الاستيطان يجب أن يتوقّف، فسرّ الاسرائيلون أنه لم يقل "الآن" كما أوضح أحد مستشاري شارون نيويورك تايمز في 20/11/01. ليس من الغريب أن يصاب العرب من أصدقاء أميركا بالخيبة فقد يكتشفون بأسرع مما يتوقعون أن لأميركا حساباتها التي تنسجم مع الارادة الاسرائيلية وليس مع التمنيات العربية. وهنا أشير الى بادرتين قام بهما الرئيس بوش أثناء احتفالات عيد الشكر في أميركا، وهو عيد يُجمع عليه الأميركيون وتجتمع فيه العائلات في منازلها لتشارك في وليمة تناول وجبة الحبش وتقديم الشكر لله على الرزق الذي أنعم به عليهم. ومن تقاليد الرئاسة في البيت الأبيض أن يتم العفو عن ديك من الحبش رمزاً، كما يقال، لطقوس تتعلق بالمثل الأميركية العليا ومنها لعبة الانصاف في التعامل. ولكن أي انصاف هذا وأي عفو حين لا يخطر للأميركي أن يتساءل ما الجريمة التي ارتكبها ديك الحبش كي يقال أنهم أعفوا عنه؟ ومن الملفت للنظر في هذه المناسبة ظهور بوش أمام عدسات التصوير يربّت على ظهر ديك الحبش في محاولة رمزية لتطمينه بأنه لن يذبح وسيعلن العفو عنه. العفو؟ أية جريمة ارتكب ديك الحبش هذا؟ كيف تصبح الضحية بحاجة للعفو من قبل القاتل؟ بل كيف يعتبر القاتل نفسه منصفاً؟ كيف يُقال أنه تمّ العفو عن الضحية؟ هذه أسئلة لا تطرح كي تتمّ الاجابة عليها. وفي هذه الحالة كان ديك الحبش مضطرباً على رغم محاولات التطمين فما أن ربّت بوش على رأسه حتى نقده الديك كما لو انه يحتج على العفو الرمزي. وأي جرم ارتكبه كي يُقال أنه تمّ العفو عنه؟ هنا أشير الى خبر عابر ورد في وسائل الأعلام الأميركية عن أن بعض الأميركيين أصبح يحب التعرف الى ضحيتهم من طيور الحبش قبل ذبحها والتهامها. في هذا الوقت بالذات ألقى كولن باول خطابه الذي أوضح فيه أنه حذّر عرفات مذكراً اياه بوجوب اعتقال الفلسطينيين الذين يقومون بأعمال ارهابية ضد اسرائيل ومعاقبتهم، كما أخبر الاسرائيليين في الوقت ذاته بأن بناء المستوطنات في المناطق الفلسطينية يجب أن يتوقف لأنه يُشلّ فرص السلم والأمن. كذلك حذّر باول القيادات العربية بأنه من واجبهم أن يصرّحوا بوضوح ومن دون لبس في تصرفاتهم بأنهم يقبلون اسرائيل ويلتزمون تسوية يتم التوصل اليها بالمفاوضات. وكانت المبادرة الثانية من جانب الرئيس بوش في اليوم نفسه أنه دعا ممثلين عن الجالية المسلمة للافطار في البيت الأبيض والقى عليهم خطاباً تطمينياً وربّت على أكتاف بعضهم منهم كما لو انه يعلن العفو عنهم ويستثنيهم من بقية المسلمين "الارهابيين". وقَبِل المدعوون العفو بترحاب، ولم يحاول أحد منهم أن ينقر الرئيس بوش كما فعل ديك الحبش. قبلوا العفو عنهم تكفيراً عن ذنوب لم يرتكبوها، ورحّبوا بقرار الادارة الأميركية ارسال الجنرال زيني وسيطاً الى الشرق الأوسط بهدف التوصل الى هدنة بين الاسرائيليين والفلسطينيين تمهيداً لمفاوضات قد تقنع اسرائيل بتنازلات لا تمسّ بأمنها المقدس. في هذا الخصوص، قال الوسيط السابق دينس روس أن غاية التوسط الأميركي في هذا الوقت هو "اعادة الثقة الى النفوس بالتعايش السلمي قبل التمكن من التركيز على التوصل الى حلول للمشكلة". واشنطن بوست في 20/11/01 في ذلك الوقت، أي بعدما القى باول خطابه وبدأ يُعدّ لارسال وسطائه، استمر الاعتداء على الفلسطينيين وظلّ يحدث بين موت وموت، موت فلسطيني آخر. ولا يزال الاسرائيليون على استعداد دائم لقتل أية تهمة قد توجّه اليهم قبل ولادتها كما حدث حين انتشر خبر مقتل خمسة أطفال فلسطينيين. من هذا المنطلق كتب وسيط سابق آخر هو مارتن اندك أن الادارة الأميركية يجب أن تضغط على الدول العربية الصديقة للاعتراف باسرائيل مقابل الاعتراف بدولة فلسطينية، ولدعوة شارون لزيارة عواصم عربية مقابل دعوة عرفات الى البيت الأبيض. وطالب اندك اضافة الى ذلك أن تمتنع الدول العربية الصديقة من التحريض ضد اسرائيل. بل يكون على هذه الدول العربية أن تعلن مسبقاً دعمها "تنازلات اسرائيلية معقولة خصوصاً بالنسبة الى اكثر القضايا حساسية، أي قضايا القدس واللاجئين". واشنطن بوست في 26/11/01 ومن هذا المنطلق أيضاً، توصل الرسميون الاسرائيليون الى أنه لا حلّ بوجود عرفات على رأس السلطة الفلسطينية، كما توصّل الفلسطينيون الى أنه لا حلّ بوجود شارون الذي يقول أنه مستعد للقيام ببعض التنازلات ولكنه لن يتنازل عما يمس الأمن الاسرائيلي، ولذلك كان أول ما قام به لدى استقبال الوسيط الأميركي أن أخذه برحلة مروحية كي يُظهر له أن اسرائيل بحاجة الى الاحتفاظ بالأرض لضمان أمنها. والى أن يأتي حلّ من أميركا، وهو لن يأتي، يكون على العرب أن ينتظروا علّ رئيساً أميركياً ما في عيد شكر آخر يعفو عنهم ويسمح لهم بالاستمرار في العيش الرغيد. واذا تبين خطأ توقعاتي، وهذا ما أتمناه، فهذا لا يعود ليس الى التدخل الأميركي فحسب، بل وقبل كل شيء الى حصول قناعة لدى اسرائيل بأن الفلسطينيين لن يستسلموا مهما كان الثمن ومهما بلغت التضحيات. * كاتب واستاذ في جامعة جورجتاون، واشنطن.