} استضافت مدينة تطاوين في أقصى جنوبتونس الدورة السنوية لمهرجان "القصور" الصحراوي في الأيام الأخيرة من شهر آذار مارس الماضي بمشاركة آلاف السياح الباحثين عن المناخ العابق بعوالم الصحراء وسباقات الخيول العربية وعراك الجمال وفنون النسيج والتطريز والأطعمة القبلية. عبارة "القصور" مقتبسة من البيوت البربرية القديمة التي حافظت عليها القبائل العربية بعدما استوطنت الصحراء التونسية والليبية، فهي مساكن ذات طوابق سقوفها نصف دائرية يحمي ارتفاعها العالي مخزون الأسرة المؤلف من القمح والزيوت من غارات الصعاليك واللصوص أو القبائل المعادية. وميزة المهرجان انه يجمع بين التقاليد والعادات الاحتفالية والاجتماعية في المناطق المتاخمة للصحراء وقدمها للسائح الغربي في ثوب حديث يعطيه صورة حية عن نمط الحياة في القرى الصحراوية وتجمعات القبائل. مشغولات... ورقص حربي وتضمن المهرجان استعراضاً ضخماً حكى تاريخ المنطقة وصراع أهلها الطبيعة القاسية فيما ارتدى الرجال والنسوة اجمل الأزياء الصحراوية، ثم أتى الدور على الفرسان الذين اهدوا الجمهور الأوروبي لوحات متناسقة من المبارزات والسباقات التي يتواطأ الفارس والفرس فيها دائماً لتقديم عروض ساحرة. ومن رقصات الحرب الشهيرة التي يقدمها فرسان القبائل في المهرجان رقصتا "الميز" و"الزقارة" اللتان تعتمدان على إظهار البراعة باستخدام السيف من خلال ألعاب بهلوانية جميلة يؤديها فارسان أو أربعة فرسان. وختم الاستعراض الضخم بجمل يتهادى وعلى سنامه هودج يسميه أهل المنطقة "الجحفة" وفيه تجلس العروس مرتدية الزي التقليدي المحلي، وهو مشهد يشد عادة اهتمام السياح ويتابعونه في شغف. الى ذلك، تضمن المهرجان معرضاً عكس الحياة اليومية لأبناء القبائل الصحراوية الذين يظهرون أنهم ليسوا فرسان حرب فقط وانما هم ايضاً صناع حضارة وفنانون مبدعون، فالمعرض تضمن مشغولات تقليدية أصيلة صنعتها أصابع رفيعة في مقدمها الأزياء الرجالية والنسائية والسجاد الذي يعتبر من أقدم الصناعات في المنطقة. وهناك مصنوعات خاصة بالمنطقة بينها "الفليج" الذي تصنع منه الخيمة و"الغرارة" التي يحفظ فيها القمح و"الوسادة"، وكذلك "الحولي" و"الوزرة" وهما نوعان من المعاطف الرجالية و"الحتفية" و"البرنس" للسيدات. وتأتي المشغولات من محيط مدينة تطاوين، وكذلك من قرى عتيقة مثل غمراسن وشنني وقرماسة حيث حافظت القبائل على تقاليدها البربرية وتفننت في اعمال التطريز مستخدمة اشكالاً بسيطة وألواناً زاهية، ليس فقط في الألبسة وانما في السجاد الذي تصنع المنطقة صنفين شهيرين منه هما "الكليم" و"المرقوم". وتمتد حلقات الابداع اليدوي الى ازياء العريس والعروس مثل "الكتفية" و"الخرواطة" وحتى الى التنورة البيضاء التي يرتديها أفراد الفرقة الموسيقية وتسمى "جلوالي". قصائد وأغاني وعكاظيات لا تتوقف فصول المهرجان ليلاً، فمع غروب الشمس تبدأ حلقة جديدة تجتذب مزيداً من السياح بمن فيهم الأوروبيون الذين لا يفهمون اللهجة المحلية الا ان هذا لا يمنعم من الانجذاب الى عالم القبائل والاندماج فيه، فتنطلق عقيرة الشعراء الشعبيين بالشعر الموزون المقفى، ثم يأتي الدور على "الغنائين" الذين ينشدون أغاني الصحراء بأصواتهم الجميلة فيطربون الحضور ويرقصونهم تحت ضوء النار المشتعلة على رؤوس الخيام الفسيحة. ويطلق على السهرة الشعرية اسم "الموقف" ربما لأن الجميع يبقون وقوفاً حتى يتفاعلوا سريعاً مع الشاعر أو صاحب الموال. ويعكس الشعر البدوي صفحات من حياة القبيلة، فهناك "النجع" الذي يتغنى بالحياة في الصحراء و"المرحول" اي الشعر البدوي و"القوت" اي براعات الفارس و"الغزل" لذكر محاسن الحبيبة و"الهزل" للشعر المرح ونقيضه "الأحرش". وتتخلل قراءات الشعر لوحات من الموسيقى الفولكلورية التي تعتمد على الطبل والمزمار لكنها تحكي ايضاً قصصاً أخرى من حياة البدو. ألف ليلة وليلة وعندما يستيقظ السياح في اليوم الثاني ويشاهدون طابور الفرسان في الساحة الكبيرة وهم يتهيأون لألعاب بهلوانية جديدة وفي ايديهم البنادق يحتارون هل هم في يقظة أم ما زالوا يعيشون أحلام ألف ليلة وليلة. وقبل ان يهتدوا الى الجواب ينطلق الفرسان ليمثلوا أدوار المهاجمين والمدافعين فيقفون حيناً على الركاب ويوجهون السلاح "للعدو" ثم يختفون أحياناً اخرى على احد جانبي الفرس لتفادي الطلقات قبل النهوض مجدداً. إلا ان أكثر مشهد شد اهتمام الحضور هو مشهد الصبية منيار غرس الله 13 عاماً التي أجادت ركوب الخيل وأثبتت انها مهاجمة متمرسة ومدافعة حاذقة الى درجة ايهام "العدو" بكونها قتلت، فهي أبقت على ساقها معلقة في الركاب وتركت الفرس يجرجرها وبعدما نجحت الخدعة نهضت مجدداً ووقفت على ظهر الفرس الراكض لتصوب البندقية الى صدر العدو. وعكست تجربة منيار القدرة على ادماج الرياضات الحديثة في التقاليد البدوية المنتشرة في منطقتها "دوز" وتقديم لوحات فولكلورية أذهلت السياح الأوروبيين. وكذلك شكلت زيارة القصور الصحراوية وبينها "قصر حدادة" و"قصر غيلان" و"قصر أولاد سلطان" فرصة للعودة الى صفحات عتيقة من التاريخ الصحراوي حيث كانت تعيش القبائل جنوب مدينة تطاوين، وحيث أتيح للسياح تلقي دروساً حية في الحياة البدوية. وعلى رغم التأخير المسجل في انطلاق بعض فصول المهرجان وكثرة الزوار الذين تجاوزت اعدادهم طاقة الاستيعاب السياحية في تطاوين فإن مهرجان القصور أثبت امكان استثمار التراث والتاريخ لاستقطاب فئات جديدة من السياح تختلف عن جماعات السياح الباحثين عن البحر والشمس، فهناك فئات مولعة بالحضارة ومتعطشة لاكتشاف نمط حياة المجتمعات الاخرى، وهذا الفضول يشكل معيناً لا ينضب وهو يحفز على تطوير البنية الفندقية المحلية والتخطيط لاستقبال السياح على مدار ثلاثة فصول الخريف والشتاء والربيع وليس فقط في فترة المهرجان.