} مرت ذكرى الحرب اللبنانية، وملحق شباب غائب عن بيروت بسبب العطلة التي أعلنتها نقابة الصحافة اللبنانية. واستلحاقاً لهذا الغياب ننشر هنا هذه الذكريات والرسائل التي وردت لشابٍ آنذاك وصلته من اهل وأصدقاء حاولوا فيها وصف بعض التفاصيل التي عاشوها لأبنهم الذي غادر لإكمال دراسته. قبل 26 سنة، في 13 نيسان ابريل 1975، انطلقت الشرارة الاولى في الحرب اللبنانية، واصطلح على تسمية تلك الشرارة حادثة "بوسطة عين الرمانة" نسبة الى المكان الذي تعرض فيه باص لإطلاق نار في إحدى ضواحي شرق بيروت. وبعد تلك الحادثة شهدت ضواحٍ اخرى من بيروت توتراً امنياً انحصر فيها، في حين استمرت الحياة شبه عادية في وسط العاصمة وفي بقية انحاء البلد، الى حين. في ايلول سبتمبر من السنة نفسها، كنت اشارك مجموعة من اقراني الطلاب، وكنا في السابعة عشرة، "مخيم قطاف التفاح" في بلدة مشغرة البقاع الغربي. وكانت مديرية الشباب والرياضة الحكومية تنظم هذا المخيم السنوي في مناطق عدة من لبنان لمساعدة مزارعي التفاح. إذ كان هؤلاء المزارعون يتركون فاكهتهم على الاشجار في موسم القطاف لتسقط لاحقاً على الارض من دون الاستفادة منها، لأن نفقات قطافها كانت تتجاوز ضعفي ما يجنونه من بيعها. كان برنامج مديرية الشباب والرياضة يتضمن توزيع المتطوعين فرقاً تتوجه الى بساتين عدة منذ السابعة صباحاً وحتى منتصف النهار لقطف التفاح تطوعاً لمصلحة المزارعين. وبعد القطاف غداء في المخيم ثم فترة ترفيهية تكون احياناً رحلة في المنطقة او مباراة في كرة السلة وغير ذلك. وفي المساء عشاء ثم سهرة نار يتخللها غناء وطرب وتمثيل وترفيه. تلك كانت حالنا طلاباً آنذاك، نرى الحياة من على شجرة تفاح لا نريد لثمارها ان تسقط او لزارعها ان يكف عن الاعتناء بها. كنا مجموعات تنتمي الى كل الطوائف والمناطق التي لم نكن نعرف حدوداً بينها، فننتقل في ايلول من كل سنة بين "مخيمات التفاح" من مشغرة الى بكفيا فحمانا وغيرها. كانت شاحنات للجيش اللبناني تطوعت مثلنا لنقلنا بين بساتين التفاح في مشغرة. وفي نهاية موسم القطاف الاخير في ايلول 1975، بدا الارتباك واضحاًَ على الجندي سائق الشاحنة التي كانت تنقلنا من مشغرة في اتجاه مقر مديرية الشباب والرياضة في شارع بدارو من ضواحي بيروتالشرقية. وكان الجندي لاحظ التوتر في حركة السير لدى وصولنا الى نزلة الحازمية، إحدى مداخل العاصمة. ويبدو انه عَلِم من سائق آخر ان قذائف تنهمر على منطقة المتحف التي تحولت لاحقاً الى احد خطوط التماس التي فصلت شرق بيروت عن غربها. كان ركاب شاحنتنا ينتمون الى كل لبنان، لم نكن نعرف انه في ذلك اليوم برز مصطلح من مصطلحات الحرب الاهلية وهو "بيروتالشرقية" و"بيروت الغربية". وحاول الجندي الذي ادرك الموقف، ان يفصلنا الى مجموعتين لضمان سلامتنا، وان يقود كل مجموعة الى منطقة كان يعتقد بانها آمنة لافرادها. لكنا رفضنا ذلك. امضيت تلك الفترة من الحروب، كما امضاها غيري، بمراراتها ورعبها ووحشيتها الى ان تخرجت، وسط القصف والخطف والقنص والاجتياح، من كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية العام 1983. انتقلت في السنة التالية الى بريطانيا لمتابعة الدراسة، كان يوم مغادرتي المدينة التي احببتها بشطريها اصعب من كل الحروب، لاني تركتها والنار مشتعلة فيها. لكن لهيب نار الحرب وشظايا قذائفها كان يصلني عبر رسائل من بعض الاصدقاء، وكنت احتفظ بها على رغم انه لا يمكن ان يكون في الاوراق القديمة للحرب الاهلية اللبنانية، او اي حرب اخرى، ذكريات حلوة. كما كنت في الماضي اجمع في مكتبتي في بيروت معظم ما يتعلق بهذه الحرب. ربما اعتقدت بانها ستكون مفيدة لاحقاً، لكن الحرب طالت وكثُرت معها اوراقها التي كنت ارمي اكثرها كل سنة. وهنا بعض ما جاء في تلك الرسائل بين العام 1984 والعام 1990، كما وردت مع توضيح بعض العبارات ضمن هلالين، وحذفت اسماء من كتبها وبعض الامور الشخصية الواردة فيها. 7 آذار مارس 1984 عزيزي، ... في لوزان السويسرية حيث عقد زعماء لبنانيون مؤتمراً للوفاق الوطني اليوم مجموعة من المومياءات والببغاوات قُدّر لها ان تمسك بمصير شعب بين ايديها. زعماء، قياديون، مستشارون، رؤساء، مراقبون... 3 شباط فبراير 1985 صديقي العزيز، ... الوضع لم يتغير كثيراً منذ مغادرتك بيروت، لكن سعر الدولار ارتفع اليوم الى 14 ليرة ومتوقع ان يواصل ارتفاعه… لكن رئيس الوزراء طمأننا بتصريح متفائل قال فيه ان لبنان لا يزال لديه المقومات التي تساعده على تخطي الازمة الاقتصادية ... كأننا ننام على بئر نفط او جبل من اليورانيوم. 13 شباط 1985 تحية اليك من بيروت، ... في الجو السياسي بشائر خير، الجيش الاسرائيلي وقوات لحد الميليشيات التابعة لاسرائيل انسحبوا من صيدا والدرك اللبناني يتولى حالياً الامن في المدينة الى ان تصدر أوامر للجيش في منطقة الرميلة جنوببيروت بالتحرك. ... تصور، وحدات الهندسة الاسرائيلية بدأت فك المنشآت التابعة لها في البقاع الغربي اليوم، يعني بدأت الخطة الثانية قبل ان تنتهي الفترة اللازمة لانهاء الانسحاب الاول بخمسة ايام... ... اللجنة الامنية للشمال اتفقت على فتح طريق بيروت - المدفون في الشمال بعد موافقة الكتائب على ازالة حاجز البربارة التابع للقوات اللبنانية الجيش وفرق "اوجيه" تولوا تنظيف وسط بيروت التجاري من آثار الحرب. أزالوا قسماً كبيراً من السواتر في محيط مجلس النواب تمهيداً لعقد الجلسات في المقر الاساسي… قائد القوات اللبنانية صرّح اليوم ان أهل جزين المسيحيين لن ينتقلوا الى مرجعيون كي يكونوا حراساً لاسرائيل وان السيادة في الجنوب يجب ان تكون للدولة فقط... اليوم وللمرة الاولى منذ فترة طويلة رأينا قلب صيدا في صور تلفزيونية ولوقت غير قصير. القلعة لا تزال هناك وكذلك الصيادون والناس مبسوطون مسرورون... انا لا اصدق ما أراه، معقول ان حرب السنوات العشر اقتربت من نهايتها؟ أم هذا وهم؟ خائفة ان افتح عيوني عند الصباح غداً او في اي صباح آخر وأرى العودة الى الحرب. صار فينا مثل قصة الراعي والذئب، ولم نعد نعرف الصحيح من الخطأ بسبب كثرة الصدمات... الجمعة 2 اذار 1985 أما بعد ... ... تأخرت في الكتابة اليك لأننا شهدنا خلال الاسبوعين الماضيين احداثاً مزعجة جداً، وكنت خائفة ان تنعكس هذه الاحداث في رسالتي اليك. اذ عندما كنت افتح التلفزيون لاستمع الى الاخبار كنت أصاب بوجع قاتل في معدتي يزيد حسب سوء الاحداث. اعتقد انك سمعت عن سياسة "القبضة الحديد" الاسرائيلية وعن مجزرة بلدة معركة الاخيرة في الجنوب وان سعر الدولار في بيروت وصل الى ال 20 ليرة قبل ان يقفل على 18.75 ليرة. الاحد 10 اذار 1985 تحياتي الحارة، ... قررت ان اتمهل في كتابتي اليك حتى اطمئن انا اولاً، فأطمئنك انت، ما اعنيه هو المجزرة التي حصلت يوم الجمعة في بئر العبد في ضاحية بيروتالجنوبية، فبعدما انتهيت من اشغال اليوم قررت ان اكتب اليك ليل الجمعة 8/3/1985 ولكن الانفجار المروع الذي حصل مساءً نحو الساعة الخامسة جعلني اتوقف لأني كنت خائفة. تفاصيل الحادث هي اننا سمعنا صوت انفجار قوي عرفنا فوراً انه عبوة ناسفة وليس قذيفة . خرجت واختي ... الى شرفة غرفة الجلوس فرأينا دخاناً اسود كثيفاً يتصاعد من المنطقة. فصار قلبي يدق بقوة وخفت لأن غالبية اصدقائنا وبعض اقاربنا يعيشون هناك. علمت لاحقاً ان العبوة انفجرت قرب سينما سندريلا في بئر العبد وكانت وضعت في سيارة تركها صاحبها بحجة انه يريد اصلاح احدى عجلاتها، ووزن العبوة كان 200 كيلوغرام من المتفجرات ما أدى الى مقتل 75 شخصاً وجرح 256 آخرين. تضررت بنايتا بدير والفاميلي سنتر بشكل مريع واصيبت ايضاً حوالى 20 بناية اخرى. ويبدو ان مكتب السيد محمد حسين فضل الله كان مقصوداً في الحادث. الصور في التلفزيون كانت مخيفة، جنين خرج من بطن امه وهو محروق تماماً. لم يُعرف من القتلى سوى عشرة أشخاص في حين شوّه الحريق بقية الجثث فوضعوا في لائحة مجهولي الهوية. 16 آذار 1985 الدولار في هذه الاوضاع المتوترة ارتفع سعره حتى وصل الى 18.75 ليرة، لكنه عاد وهبط امس واليوم بسبب زيارة عبدالحليم خدام نائب الرئيس السوري ووصل سعره الى 16 ليرة. ... اليوم أطلّ خدام و وليد جنبلاط و نبيه بري و رشيد كرامي على شاشة التلفزيون. وكانوا جميعاً متفائلين بلقاء "المصارحة والمصادقة" بين المعارضة وامين الجميل. وبحثوا في فتح المعابر وامن العاصمة والسيطرة الشرعية على المرافق العامة. لم يتقرر شيء رسمياً، لكن المهم ان خدام اكد انه لن يغادر لبنان قبل الوصول الى حل شامل! 12 تموز يوليو 1985 ... وعن اوضاعنا الامنية، ... في حرب المخيمات بقينا اسبوعاً بكامله في الملجأ، لا نستطيع الخروج، وانت تعرف موقع بيتنا بالنسبة الى المخيم ... 23 تموز 1985 ... خطر ببالي ليل امس ان ابتعد عن الروتين اليومي من انقطاع المياه والكهرباء وغيرها. ذهبت الى سهرة في الميري لاند مطعم وملهى ليلي، ويقولون ان لبنان يئن. الجميع كانوا يلبسون اقنعة مطلية بالمساحيق. لا أحد يسمع المطربة بسبب الآلات الناشزة. لا أحد يسمع غيره بسبب الضجة، والكل لا يرى الا عيوب غيره وما أكثرها، لكن أحداً لا ينظر الى نفسه. 8 آب اغسطس 1985 تحية طيبة، ... اعتذر لتأخري في الردّ على رسالتك والسبب هو وفاة اخي محمد اذا كنت تتذكره، أصغرنا في العائلة، وذلك عندما سقطت قذيفة قرب بيت اهلي فاستشهد مع طفلين كانا يلعبان معه في موقف السيارات هناك. 29 آب 1986 ... حالياً، يسود الهدوء النسبي بيروت وأرجو ألا تتجدد حوادث المنطقة الشرقية التي تنعكس سلباً علينا أيضاً... الهم الرئيسي اليوم غير الوضع الأمني هو الدولار الذي نزل سعره من 45 ليرة الى 38 ليرة ثم عاد وارتفع الى 43 ليرة، مسبباً الكثير من السكتات القلبية. 15 آب 1987 صديقي العزيز... ... عندنا كل شيء على حاله. نسير بخطى سريعة نحو الهاوية وليس هناك في المدى المنظور أفق لهذه المعمعة التي نعيش فيها... جوع واضطراب نفسي وضياع. تماماً كالبعير الاهوج نعيش ليومنا فقط... وهكذا يا عزيزي كل دقيقة تمر علينا نعيش في مزيد من العتمة تطبق على انفاسنا، لا ملامح لمستقبل... لا طموح... وأقصى ما نطمح اليه هذه الأيام الصعبة منقوشة زعتر من عند بربر مطعم معجنات في بيروت ... 20 كانون الاول ديسمبر 1988 العزيز يوسف، ... الطقس في الخارج ممطر وبارد، والكهرباء مقطوعة والغاز مفقود من الاسواق منذ اسبوع، يعني اننا نستخدم الحطب والفحم للتدفئة وطبخ الطعام... ... طبعاً انت تعرف ان المعابر مقفلة والطحين لا يصل الى منطقتنا ونستهلك حالياً الاحتياط الذي بقي في المخابز. 2 آب 1989 ... بعدما تحدثت اليك هاتفياً في المرة الأخيرة، خرجنا الى منزل جدك فوجدنا العائلة في حال متوترة بعدما سقطت قذيفة على المنزل المجاور ودمرت سيارة خالك ومحتها من الوجود ... لكن الجميع بخير فهم محظوظون لأنهم كانوا داخل المنزل وهو كما تعلم محصن كالملجأ... وعندما عدنا الى منزلنا كانت سبقتنا قذيفة سقطت في موقف السيارات القريب ودمرت زجاج المنزل، وأكتب هذه الرسالة بين الغرف الآمنة نسبياً، وبدأنا نفتش عن منزل ملائم خارج بيروت ... 15 تشرين الثاني نوفمبر 1989 ... ليس في جعبتي ما هو جديد باستثناء اننا نعيش فترة اللاحرب واللاسلم ... نكون على موعد مع حل قريب، وفجأة نسمع عن عصي وضعت في الدواليب. 14 كانون الثاني يناير 1990 ... في الحقيقة لم اكتب لك منذ فترة طويلة لأننا مررنا بمرحلة جهنمية في لبنان. ستة اشهر من القصف والدمار، والحمدلله ما ازال بخير، حتى لحظة كتابة هذه الرسالة. كنت على وشك السفر الى اميركا بعدما حصلت على منحة دراسية لمتابعة الدكتوراه، ولكن بسبب الاحداث الاخيرة واقفال المطار طارت الفرصة. وفي الوقت الحاضر افكر بصراحة بالهجرة ربما الى كندا أو السويد. السبب هو الحال الامنية فقط لا غير.