كان بإمكان اللبناني نجيب نصار أن يصدر في بيروت جريدة باسم بلدته "عين عنوب" أو باسم أية مدينة أو دسكرة لبنانية، فقد ذاق طعم السلطة الرابعة، يوم كان طالباً في الجامعة الأميركية البيروتية في مطلع القرن العشرين، وهو طعم حلو مهما بلغت درجة مرارته. ولكن نصّار الذي وعى مخاطر الحركة الصهيونية باكراً، صمّم على محاربتها في عقر الدار التي قطعت شوطاً في استيطانها. وهكذا، ما إن تخرّج من الجامعة حتى ودّع الأهل في لبنان، لينتقل الى فلسطين، ويصدر باكورة دوريات مدينة حيفا في غرة العام 1909. وإذا كانت "الكرمل" أولى الدوريات الحيفاوية في القياس الزمني، فهي أيضاً وأولاً باكورة جرائد ومجلات فلسطين التي التزمت الدفاع عن عروبة فلسطين عبر فضح خطة الاستيطان اليهودي ومحاربته. لم تتوافر أعداد السنوات الأولى من "الكرمل" في "مركز الدراسات الفلسطينية" ولا في أي مكتبة عامة أخرى كالجامعة الأميركية. ولكن الكراس المعنون "الصهيونية" والمطبوع "في مطبعة الكرمل بشارع دير الروم، حيفا، سنة 1911" يؤكد أن نجيب الخوري نصّار قد ركب ذلك المركب الخشن منذ العدد الأول من صحيفته، بدليل ما ورد في مستهل الكراس. قال الكاتب في الأسطر الأولى من كراسته: "دلتنا الأبحاث التي دارت في مجلس الأمة حول المسألة الصهيونية ان حقيقتها ما زالت مجهولة. وأن الذين يديرون دفّة السياسة في الآستانة ليس لهم وقوف تام على أهمية حركة الصهيونيين رغم كل ما كتبناه نحن وغيرنا عنها. فبينما نحن نتوقع من مجلس الأمة أن يعيّن لجنة خصوصية يكل إليها درس تاريخ الصهيونيين والبحث عن غرضهم وسبر غور أهمية حركتهم وعلاقتها بحياة الدولة والأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذا بالصدر الأعظم حقي باشا يقول على منبر الأمة: ليست الصهيونية سوى رواية، وما القائمون بها إلا أفراد متهوسون. فراعنا هذا الاقتناع". طبعاً، لم يؤثر رأي رئيس وزراء السلطنة العثمانية التي كانت فلسطين تابعة لها، برأي نصّار، بدليل متابعته في "الكرمل" الرد على الصهاينة والمتعاونين معهم أو الذين لم يعوا خطرهم. في العدد 422 الصادر في 17 نيسان ابريل 1914، يؤكّد "صاحب الكرمل ومحررها ومديرها المسؤول" في مستهلّ الافتتاحية ان "الصهيونية خطر عظيم على فلسطين وأهلها، بل على الأمة العربية والدولة العثمانية، إذا بقي الفلسطينيون خصوصاً والعرب عموماً جامدين نائمين لا يعملون على حفظ كيانهم ودفع الخطر الذي ينازعهم بقاءهم في سلب وطنهم، لأن الصهيونية تبقى تمتد وتنتشر بلا ممانع، وكلما كثر عدد المستعمرات الصهيونية قلّ عدد الأهلين في الداخلية، فلا يبقى وطن ولا رزق للأهلين فيغادرون". يضيف في العمود الرابع من الافتتاحية التي احتلت الصفحة الأولى كاملة: "بهذه المناسبة أقول للكتبة المموّهين الذين يكذبون على الحقيقة ويقولون إن الصهيونيين قرروا ان يتفقوا مع العرب ليعيشوا معهم باتفاق، كيف توفقون بين أقوالكم التمويهية وأعمالكم؟ أي مزرعة اشتريتم وأبقيتم على واحد من أهلها العرب فيها؟ وهل تدلّونا على قومكم الذين يدخلون مخازن الوطنيين ويشترون منها كما نفعل نحن مع تجاركم؟ إني أعتب على جريدة كبيرة معتبرة كالمقطم كيف تقبل على نفسها نشر هذه التمويهات التي لا نشك أنها لا تنطلي على العالمين الكبيرين والوطنيين العظيمين نمر وصروف". ويذكر ان الدكتورين فارس نمر ويعقوب صروف وشريكهما شاهين مكاريوس وافقوا على نشر مقالات نسيم ملّول وغيره من الكتّاب الصهاينة. ولكن اللّوم يقع في الدرجة الأولى على فارس نمر الذي كان رئيس تحرير "المقطم" ففي حين تفرّغ صروف لمجلة "المقتطف" ومكاريوس للمجلة الماسونية "اللطائف المصورة" إضافة الى مشاركته في تحرير الجريدة. كان نصّار معجباً بالفيلسوف الاجتماعي الدكتور شبلي شميّل. ومع ذلك، فهو لم يتردد في توجيه نقد لاذع له بسبب مقال نشره في "الأهرام" وندد فيه بخصوم الصهيونية الذين اتهمهم بالرومنسية، وبرّر استيطان اليهود لفلسطين انطلاقاً من نظرية "الأرض ميراث المجتهد". قال نصار لشميّل في سياق ردّه: "قلت إنك تكتب ما تكتبه انتصاراً للأرض. فإن كنت أيها الفيلسوف شغوفاً بهذا المقدار على الجماد، أليس الأحرى بك أن تشفق على أخيك وابن أمتك وتسعى بنفسك لعمران وطنه". أضاف متوقفاً أمام المنحى الاشتراكي الإنساني الذي كان شميّل من دعاته إذ اتهم في ضوئه خصوم الصهيونية بالقومية الشوفينية: "متى رفعت الفوارق من بين البشر وأبطلت القوميات والعصبيات وجمعت الناس تحت راية واحدة، يمكنك حينئذ ان تلوم خصوم الصهيونية إذا انتصروا لقومهم ووطنهم. ولكن ما دام العصر عصر قوميات فمن الخطل لوم عنصر مدافع خدمة لآخر مهاجم". ولم يكن رد نصّار على نجيب سرسق أقل ضراوة من الرد على شميّل، بسبب بيعه 11 قرية في مرج ابن عامر للصهيونيين. قال الناقد: "كنا نتوقع من بعد الاحتلال أن يتمثل سرسق وغيره من اغنيائنا المحترمين بأغنياء اليهود ويناصروا الوطنية والوطنيين كما يناصر زعماء اليهود الصهيونية. كنا نتوقع أن يشرع سرسق من بعد الاحتلال بعمليات زراعية فنية في مزارعه، وأن يفتح لها مدرسة زراعية ليرقي الفلاح فناً ومادة ويستفيد هو فوائد كبرى من زراعته، وإذا به يهتم بكل قواه ليبيع هذه القرايا للذين ينازعون قومه البقاء في وطنهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً". وانتقد نصار في العدد نفسه الصادر في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1920 صحيفة "التايمز" البريطانية بسبب مطالبتها فرنسا تعديل الحدود بين لبنانوفلسطين لأن "الحد الذي يلائم الفرنساويين يحرم فلسطين من الوصول الى مياه الليطاني ويجعل شواطئ بحيرة طبريا الشرقية تابعة لسوريا". ولم يخل الرد من السخرية حيث استدل الناقد من لهجة الصحيفة البريطانية "أنها مخلصة كل الإخلاص للقضية الصهيونية، وأنها تتطلب كل شيء صالح لها بقطع النظر عن مصالح الغير". يبقى نجيب عازوري الذي كان يقيم في القاهرة ويترأس تحرير "جورنال دي كير" الفرنسية اللغة. فقد أعاد نصّار في 6 حزيران يونيو 1914 نشر رد عازوري على رفيق العظم الذي دعا الى عقد مؤتمر سلام بين العرب والصهيونيين، وتساءل في سياقه: "كيف نتفق مع قوم يقررون في مؤتمراتهم أنهم يعملون لإيجاد وطن يهودي في فلسطين؟ وكيف يمكن الاتفاق معهم وهم لا يريدون ان يتحولوا عن امتلاك فلسطين؟ إن اتفاق العرب والصهيونيين مستحيل". وكان عازوري الذي كشف الخطر الصهيوني عام 1905، احتل افتتاحية "الكرمل" في 10 نيسان 1914، رد فيها مداورة على الباب العالي لمؤازرته الاستيطان اليهودي لفلسطين، حيث قال: "يا قومي: الجامعة الصهيونية هي التي رفعت شأن العلم الصهيوني من العدم. فلماذا قومية العرب لا تعلي العلم الوطني العثماني في وطنها، ولماذا يترك العرب مجالاً لقومية غريبة في بلادهم؟ لا أقول هذا لاعتقادي أن قومي مجردون من كل مزية. حاشا. فإني أعترف بوجود قوات عظيمة كامنة في أمتي ولكنها محتاجة الى تكوين وتنظيم. وأنا لا أطلب إلا إيقاظ هذه القوى... لذلك اقترحت مراراً عقد مؤتمر لا صهيوني في مدينة نابلس يبحث أولاً في إيجاد الجامعة العربية على العموم والفلسطينية على الخصوص". وكان عازوري قد نوّه في مستهل الافتتاحية بمرضه الذي منعه الأطباء بسببه "عن المطالعة والكتابة". والظاهر أنه كان مصاباً بمرض خطير، بدليل أنه توفي بعد أقل من عامين وهو في عنفوان شبابه. * كاتب لبناني.