في 13 آذار مارس 1912 صدر العدد الأول من صحيفة "أبو شادوف" التي: تصدر كلما هبّ الهوا / أو كلما كلب عوى على حد ما ورد في الترويسة التي ورد فيها ايضاً ان أبا شادوف "لا يقبل الاشتراكات ولكنه يباع بالعدد وبمتليك". ولم تكن الافتتاحية أو "مقدمة أبو شادوف" أقل سخرية، حيث يتساءل وهبه تماري في مطلعها: "أبو شادوف يريد ان يكون صحافياً"؟ ويسارع الى الاجابة: "نعم يريد أبو شادوف ان يكون صحافياً، والسبب في ذلك ما رآه من اقبال الناس، حتى المبعوثان انفسهم على هذه المهنة بعد اغلاق المجلس". ويضرب صاحب الجريدة ورئيس تحريرها مثلاً النائب شكري بك العسلي مبعوث دمشق الذي رأى ان يكون صحافياً بعد ان وجد ان الأمل ضعيف في انتخابه لدورة ثانية "فلو لم تكن الصحافة مهنة شريفة لما أقدم عليها مثل شكري العسلي. أفرأيت إذاً أيها القارئ الكريم لماذا يريد أبو شادوف ان يكون صحافياً دفعة واحدة"؟ طبعاً هناك سببان وراء عدم رغبة صاحبنا في التمهيد لممارسة السلطة الرابعة بدخول البرلمان أو مجلس المبعوثان: "أولاً لأنه يحبّ الاختصار... وثانياً، لأنه لا يريد ان يدخل في سلك المأموريات الرسمية وينتظر الأفلاك وسعد الطالع ويستميل هذا ويتزلف الى ذاك، ويوسّط فلاناً ويبقى محسوباً على فلان ليحافظ على وظيفته أو ينال أرفع منها". ويذكر ان شكري العسلي الذي تولّى منصب قائمقام في فلسطين قبل ان يصبح نائباً، شاهد على الأرض احدى مراحل الاستيطان اليهودي، مما دفعه الى شنّ حملات نيابية في اسطنبول ضد المشروع. ويرجح ان تكون السبب الرئيسي في شنقه من قِبل أحمد جمال باشا الملقب بالسفاح في السادس من أيار مايو عام 1914. ذلك ان الذين انقلبوا على السلطان عبدالحميد في صيف 1908 كانوا أكثر منه تعاطفاً مع الاستيطان اليهودي، ولو كانوا أقل منه معارضة له ظاهرياً وبالقرارات المكتوبة فقط. "غلاء المعيشة وخطاب أبو شادوف" احتلاّ باقي الصفحة الأولى ونصف العمود الأول من الصفحة الثانية. وباعتبار ان جريدة تماري تختلف عن بقية الدوريات الفلسطينية بسبب أسلوبها الساخر، فإن خطابه مختلف أيضاً لأنه شعر من ألفه الى يائه، في حين تمحورت سائر الخطب على النثر، وان تزيّن بعضها بأبيات قليلة من الشعر. يقول أبو شادوف في القسم الأول من "خطابه": قد أصبح العيش صعباً في مدينتنا / والفقر يزداد بين اليوم والثاني حاجاتنا ارتفعت أسعارها فغدا / يئن كل فقير الحال غلبان وكيف يرجو لذيذ العيش صانعنا / وكسبه بِشْلك ان زاد فاثنان واللحم والسمن هذا عزّ مطلبه / وذاك لا يشتريه غير بطران أما الطحين فيكفي ان يكون له / منه الكفاء ليبقى غير جوعان ناهيك حاجاته الأخرى إذا عرضت / من مثل لبس ومشروب ودخان. نشر وهبه تماري في الصفحة الثانية اعلاناً عن "شركة الطباعة العربية" ورد فيه ان الشركة "مستعدة لطبع كل ما يطلب منها بأحرف جميلة، غاية في الاتقان، مما لا يمسّ الصوالح الصهيونية في فلسطين". ثم ذيّل الإعلان بالتعليق الساخر الآتي: "نرجو للشركة نجاحاً عظيماً جداً قدر رأسمالها، وللمساهمين أرباحاً جسيمة قدر سذاجتهم، وتسليمهم عن طيب قلب، وللوطن والآداب رحمة واسعة". وبعنوان "حقائق تاريخية" قال أبو شادوف بمناسبة اعتداء ايطاليا على ليبيا: "يقولون ان الايطاليين قوم من اللصوص وقطّاع الطرق وانهم أولاد زنى. ولا يثبتون هذا القول إلا باعتداء ايطاليا على طرابلس الغرب. ولكن أبا شادوف يعزز ذلك ببراهين تاريخية تؤيد صحة هذه النسبة اليهم، فخذ منه ما أعطاك". ثم أعطى معلومة، هي أقرب الى الرواية التاريخية منها الى التاريخ الحقيقي، من أجل تقديم برهان آخر على مثالب الطليان. أما تلغرافات العدد المنشورة في الصفحة الثالثة، فقد ورد في أحدها ان أبا شادوف ينوي "ترشيح نفسه للنيابة عن ولاية هربيا في قضاء غزة، وأهم ما جاء في بروغرامه انه سيبذل جهده في تحسين زراعة البندورة". وورد في تلغراف آخر ان "لجنة التفتيش اتخذت في يافا كل الاحتياطات الصحية لحصر الترشيح خوفاً من امتداده"، باعتبار ان الترشيح للنيابة مرض كالرشح، بنظر المحرر المصاب به. وخصص وهبه تماري الصفحة الرابعة للأخبار المحلية، وقد استهلها بمجلس بلدية يافا الذي "أرسل وفداً الى اللد لمشترى ثلاثة حمير". وعلى ذكر الحمير، فإن الخبر التالي أفاد ان البلدية لا تجازي "الحمير التي تسير عرض الشارع، لأن بين أعضائها من يدافع عنهم". "صوت الصهيونية" هو عنوان خبر ثالث تمحور على الطبيب والكاتب اليهودي مويال الذي "أسس لوجاً ماسونياً في يافا" ويؤسس جريدة يدعوها "صوت العثمانية" حتى اذا رأى الإقبال عليها، أطلق عليها اسم "صوت الصهيونية". أما صحيفة "النفير" التي أضأنا عليها في حلقة سابقة، فقد تضمن الخبر الخاص بها، ما يلي: "نسمع من حين الى آخر ان جريدة النفير ستتوقف أسبوعاً أو أسبوعين عن صدورها لزيادة التحسين فيها تبعاً لناموس النشوء والارتقاء. فنراها بعد ذلك تصدر أسبوعاً بحجم كبير، وأسبوعاً بحجم صغير، ومرة ثلاث مرات في الأسبوع، ومراراً مرة واحدة، وأحياناً كثيرة لا تصدر. فلو صحّ ناموس النشوء والارتقاء وصدق ناموس بقاء الأنسب، لوجب على جريدة النفير ان تموت". والطريف، ان السّحر قد انقلب على السّاحر، إذ ان "النفير" استمرت بالصدور حتى الثلاثينات، ولو بشكل متقطع، في حين توقفت "أبو شادوف" نهائياً بعد وقت قصير من صدورها. يبقى ان وهبه تماري بعث برسالة الى مؤرخ الصحافة العربية فيليب طرازي حدّد فيها خطة جريدته بثلاثة مبادئ: "أولاً، خدمة ما يعود بالنفع لأمتي المسكينة والضرب على أيدي الذين أبى ابليس الا ان يظهر في قلوبهم... ثانياً، أبو شادوف يخدم الحق لأن الظلم ضعيف وان كثر أنصاره، والحق قوي وان قلّ رجاله... ثالثاً، خدمة أبناء ملتي الأرثوذكسية التي تطالب بحقوقها من الرهبنة اليونانية بالقدس". والواقع ان المبدأ الثالث تخطى الملة الأرثوذكسية في القدس وعموم فلسطين ليشمل كل الفلسطينيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. ذلك ان هيمنة الإكليروس اليوناني على الأديرة الأرثوذكسية، خصوصاً في القدس، أفاد المشروع الاستيطاني الصهيوني. لذلك، قاوم الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية مساعي الوطنيين الأرثوذكس لاستعادة نفوذهم على تلك الأديرة. والصراع المرير الذي بدأ بين الاكليروس اليوناني والفلسطيني قبل صدور "أبو شادوف"، كان له الكثير من الجولات، لعل آخرها تلك التي جرت منذ أشهر، وقد تمحورت على دير وأرض في القدس اشتراهما الصهاينة من البطرك أو المطران اليوناني. * كاتب لبناني.