في المعرض السنوي الأخير للفنانين البحرينيين في قاعة متحف البحرين الوطني كان لمنيرة الجلاهمة حضور لافت للنظر، وذلك بتقديمها عماين تركيبيين انشائيين installation قائمين على أجزاء مجردة من سعف النخل، عملين ينمان عن حساسية عالية في استخدام المادة الخام. لم تكن المواد التي استخدمتها منيرة الجلاهمة في عمليها المذكورين تزيد في أحد العملين عن الكرب 0وهو الجزء العريض من سعف النخل إذا يبس، والسعف المجرد من أوراقه في العمل الآخر. توسط العملان أرض القاعة الواسعة للمتحف وأثاراً تساؤل الزوار واستغرابهم بقدر ما أثار اهتمام المختصين لا سيما لجنة التحكيم التي قررت منحها جائزة تقديرية. هذان العملان أول مشاركة للفنانة منيرة تساهم بها في المعرض التشكيلي السنوي للفنانين البحرينيين إذ لم يعرف عن نشاطها الفني مثل هذا التوجه الخلاق. بل طالما عرفت في مجالات فنية أخرى ذات طابع حرفي محض. وكان من البديهي أمام تجربة جديدة ومبتكرة التساؤل عن مدى جدية هذين العملين الفنيين، وعما اذا كانا نابعين من تجربة متواصلة أم أنهما نتيجة الصدفة؟ غير ان ما عرضته الجلاهمة في المعرض المشترك الذي اقيم في مركز الفنون البحريني أخيراً من أعمال قائمة على خامات مستلة من البيئة البحرينية، حمل الى المشاهدين رداً وافياً عن التساؤل. فقد أظهرت غالبية هذه الأعمالة من الابتكار ووحدة الموضوع وجمال الطرح ما يجعلها جديرة بالتأمل، لكونها ظاهرة فنية لافتة، كما أكد الحديث مع الفنانة أصالة تجربتها، وجاء دليلاً قاطعاً على توحدها الفريد مع مادتها وأشك"الها البسيطة والمعقدة معاً. كان لتجارب بيكاسو في النحت المفتوح وما توصل اليه من نتائج فنية خلاقة من خلال اعتماده على مواد جاهزة كان يتلقطها بمحض الصدفة، تأثيرها الكبير على الفنانين للانطلاق بحرية نحو استخدام المواد الخام، واعطاء أهمية كبرى للابتكار وأعمال الخيال. كما أن هذا الوجه تضمن دعوة الى تأمل المحيط لتفحص البيئة تفحصاً دقيقاً والاهتمام بالعناصر التي تبدو للوهلة الأولى هامشية. تشير السيرة للفنانة منيرة الجلاهمة أنها حاصلة على الدبلوم العالي من معهد المعلمات في التربية الفنية، وأنها شاركت في معرض واحد هو معرض مركز التراث الذي اقيم تحت عنوان: "اعادة تصنيع مواد البيئة"، والمعرض الشخصي الوحيد الذي اقامته قبل معرضتها هذا كان في مركز الحرف عام 1996م. ومن يقرأ هذه السيرة ثم يشاهد معرضها الحالي يتأكد من أن المعلم الأول لمنيرة هو عشقها الفطري للبيئة، وتعلقها الحميم بمفردات الطبيعة. هو فأعمالها قائمة على مواد طبيعية تستخروجها بيديها من البيذة البحرينية، ليف النخل وسعفه، وما تخزن أعماق البحر، وما يترسب في تلك الأعماق من أدوات صيد عتيقة، أو مخلفات القوارب والرجلات في البحر. فما تقوم به الفنانة، بوعي أو بغير وعي، هو نبش لذاكرة المكان من خلال هذه المفردات البسيطة ذات الدلالة العميقة. لم تأت علاقة الفنانة مع البيئة من فراغ، ولم تكن وليدة تأثير خارجي، بل هي علاقة نشأت معها ورافقتها منذ طفولتها تقول أن لهو الطفولة لديها بدأ باللعب بالرمال والجلوب ساعات لفرز حبات الرمل وتصنيفها بحسب ألوانها، ثم جمعها في زجاجات منفصلة تتجاوز في تدرج لوبي. ولم يقتصر ولعها بالطبيعة على الرمل فقط، وانما شمل كل ما تلقاه على الشاطئ مما يتركه البحر في مده وجزره. ولأن باطن البحر كان أكثر إغراء للفنانة، اعتادت الغوص الى تلك الأعماق، وإطالة البقاء قدر ما تتحمل أنفاسها، لتستخرج أشكالاً من كسر الفخار، قديمة وحديثة، وخشب قوارب احتجزته صخرة أو أعاقه حاجز عن الظهور الى سطح الماء. ودأبها جمع هذه المواد وخزنها في زجاجات تقول انها تملأ عدداً من غرف الدار. معظم الأعمال الفنية في هذا المعرض جاءت على شكل قطع مجسمة ومركبة وقائمة على الأرض، أو قطع من أنسجة متداخلة وبارزة تعلق على الجدران. ولا تكاد هذه الأعمال تخفي ما وراءها من مجهود سواء في طبيعة تركيبها أو اختيار موادها. ولاهتمام الفنانتة بالمادة نفسها، فإنها لا تخفي طبيعتها وراء ألوان أو زخرفة، لذلك فإنها، في معظم الأعماتل، تحرص على التمسك بوحدة الألوان الطبيعية البني ومشتقاته، ما عدا قلة لونتها بألوان مختلفة. أكد هذا قيمة المادة وكشف عن احساسها العالي بالتعامل مع الخامة، لا بل في اضفاء طابع الغموض على شيء في غاية الوضوح والبساطة. فعلى سبيل المثال هناك عمل عُلق داخل القاعة على شكل قلادة ضخمة مكونة من قطع فخارية ومعدنية صغير ةذات اشكال مختلفة، ربطت بنهايات حبال لشبكة الصيد، ولدى تفحص هذه القطع بألوانها التي ساهمت العوامل الطبيعية في ايجاد درجاتها اللونية، يتبين ان القطع المدورة منها مصنوعة من فخار كان الصيادون يستخدمونه ضمن طرقهم البدائية لربط أطراف الشبك. ومع هذه القطع المدورة كسر فخارية مثلثة الشكل من الطين الأحمر، قالت الفنانة انه ربما يكون اثراً من اثر الحضارات القديمة، ومن ديلمون على وجه التحديد، أو ما تركت الحضارات العابرة الأخرى من رواسب في القاع العريق. تبدو منيرة الجلاهمة كما لو انها تشعر بكونها امتداداً حياً لتاريخ هذا المكان فهي تحاول ان تمسك بذاكرة الأرضو والبحر لايجاد عمل حديث يوحي بتواصل الزمن والحضارات. وهذا ما يلمس في اعمال اخرى معلقة على الحائط، اذ استخدمت الفنانة الليف وورق السعف وأعواده لنسج أعمال بارزة بروزاً متدرجاً ينم عن ذوق رفيع في تركيب العناصر وتكوين شكل جميل يمس وجدان المشاهدين بما تشيعه المادة المحلية من احساس بتلاحم العناصر وانتمائها الى بعضها بعضاً.