"المعرض السنوي" للفنون التشكيلية في البحرين تقليد ثقافي وفني يحافظ عليه المتحف الوطني سنوياً وبات يحتل مساحة اساسية من المواسم التشكيلية. وتتبدّل لجنة تحكيم جوائزه مع كل دورة. وهي تشكّلت هذا العام من الفنانين: الشيخ راشد خليفة آل خليفة ونذير نبعه وعادل السيوي وكاتب هذه السطور. واستقر الرأي على أن تكون الجائزة الكبرى الدانة هذا العام من نصيب ناصر اليوسف. أما الجوائز التقديرية الأربعة فتوزعها كل من بلقيس فخرو وعدنان الأحمد، منيرة الجلاهمة وعلي مبارك. والجائزة تخص تحديداً عملاً فنياً بعينه وليس صاحبه. ولكن العين تميل لأن تسترق النظر الى بقية أعمال المرشح كنوع من الضمان الإضافي، ومن أجل تلمّس خصائص وحدته. ولهذا السبب اضطرت اللجنة أن ترفع واحدة من لوحات عدنان الأحمد لما كانت تمارسه من تشويش على اللوحة المختارة. وألمح بيان اللجنة الى أن هذه الاختيارات لا تمثل انتقاصاً من التجارب الأخرى، بل هي احتفاء بما جهد به الفنان كي ينضج بحثه ضمن مقياسه الخاص، ومن دون اية مقارنة مع موازين الآخرين. وقد يستبعد مرشح متين بسبب ثبات أو جمود مسيرته ويكرّم آخر متوسط لسبب إجادته القصوى في خط تطوره. كان الإجماع - وفق هذا الأساس - حاسماً في ما يخص ترشيح ناصر اليوسف لما بلغته تكويناته من بلاغة اختزال، ونماء ذاكرته البصيرية المتصلة بالخيال الجمعي، المعاش واليومي. وحاولنا جاهدين ان نتناسى محنته البصرية توخياً للحياد. وكنت أطلعت الناقد العالمي جيرار اغسيروغيرا أثناء رئاسته لجنة تحكيم بينالي القاهرة قبل عامين، على كراس أعماله من دون أن أخبره أنه ضرير وكان إعجابه بأعماله أكبر مما توقعت. ولكن ما سر هذا الرائد الذي ينضح بروح نفاذه؟ يستعيد الفنان بتواضع أدواته وذاكرة أصابعه محيطه البيئي متلمّساً بحساسية حلمية تكوينات مدهشة الإحكام والتوقيع الموسيقي. إنه يبدو مثالاً نموذجياً للفكر النهضوي الذي سيطر على عقد رواد نصف القرن، باعتبار ان الآخر الفن الغربي لا يمكن تمثله إلا من خلال الذات الثقافية. لنتذكر كيف كانوا يخصّصون يوم الجمعة من أجل تصوير القرى المتاخمة للمنامة. وبدت تجربتهم منذ حبواتها الأولى ملاصقة لذاكرة المكان والبيئة وأهزوجة الصيد واللؤلؤ وصفق البحر والريح. ويشتمل المعرض على أعمال معاصرة راشد العريفي ذي الرهافة الدلمونية أو بالأحرى الأثرية الفخارية. تملك لوحته الثلاثية حضوراً لا يمكن تجاوزه، بتغضنات إشاراتها الدلمونية. وتستمد خصائصها الروحية من الجغرافية المسكونة بالأسطورة والحلم. وأسس هؤلاء تقاليد تلاقح سلالات الفنون: الدلمونية - الرافدية - الخليجية - العربية - الإسلامية مع مضمون الفن المعاصر الغربي، تماماً مثل ارتباط "الطاوية" بالفن الصيني والبوذية بالطباعة اليابانية، و"الفشنية" برسوم بعض معابد الهند. ولكن لماذا تتفوق فنون السلف صناعات دلمون على الخلف المعاصر؟ يتحدد هذا السؤال على مساحة الإبداع العربي. ولا نعثر في المعرض على نسغ متمفصل مع هذه التقاليد، سوى محاولات معزولة أقرب الى الإتباع بما يخص الأختام اكثر من الإبداع، ابتداء من العريفي نفسه وانتهاء ببثينة فخرو، مروراً بسردية الزباري ومحرق. حاول عبدالله المحرقي في لوحته المركزية الخروج عن عقيدته السردية، ولكن تكوينه البالغ الإحكام والتجديد تورط في مناخات "العلوم التخيلية". وهو حافظ على تمايزه الأسلوبي على عكس عبدالكريم بوسطة الذي تراجعت حبكاته البنائية الملفزة وكان عودنا عليها، وقد يكون غير موفق في اختيار مجموعته لأنها متضاربة الأساليب. أما حساسية مختار المختار، وعلى رغم سوى تقديمها من ناحية القياس والتأطير والتقنية فبدت حميمية الضوء والمكان خصوصاً في لوحة العنزات وبقايا الهيكل العظمي للمراكب. إذا حفظت النهضة الخمسينية فضل المستشرقين في حمل صيغة "لوحة الحامل" فهي حفظت أيضاً لعنة السياحة الفولكلورية ومشتريات العابرين منها. ويعاني المحترف من بصماتها حتى اليوم. نعثر لدى مواهب كبيرة على لعثمات اللوحة الفندقية وما تتطلبه من تسرّع وتبرّج زخرفي. لنتصوّر صعوبة تطهير هؤلاء من العادات التشكيلية السهلة. ونماذجها في المعرض لا حاجة لذكرها. وإذا سجّل المعرض الراهن انخفاضاً نسبياً في الضغط الإبداعي، فإن الحركة البحرينية تعاني في مختبرات معظم المحترفين من مخاض وتحول مؤجل النتائج والثمرات. قفز عبدالرحيم شريف مباشرة من البارافان التجريدي الى التعبيرية المحدثة برؤوسها المحبطة وإشاراتها الشمولية. ولو امتلك ابراهيم بوسعد جنون زميله لعرض أعماله الأخيرة المخبأة في أسرار محترفه، ولكان نازع ناصر اليوسف جائزة الدانة من جديد. ولكن هذه الملاحظة لا تنال من متانة أعماله وطهرانيتها بما تشع به من وثوقية روحية، وهي وثوقية لا تخلو أحياناً من الأسلبة. إنها اللوحات نفسها التي استحق عليها بجدارة جائزة العام السابق. كنا بانتظار إخراجه للوحاته الجديدة. أما زميلتهم بلقيس فخرو فحافظت على بنيان نوطتها التجريدية المنحوتة في مدرجات المدينة المشرقية. ترسخت لديها حساسية لمسية تزرع الضوء الكابي بعشق انثوي خاص. نالت قبل دورتين الجائزة الكبرى على المستوى نفسه ونالت هذا العام جائزة تقديرية لحسن اختيارها للوحتين، على عكس قريبتها لبنى الأمين التي بدت اختياراتها متعارضة المناحي، متماهية القرابة، متناقضة مع ما عرفناه من تمايز شخصيتها في معارضها الأخيرة، أو في ذخائر محترفها. يظن البعض أن منهج قص الأشكال المهندسة لدى عدنان الأحمد لا يخلو من السهولة. يرجع هذا الوهم الى صعوبة حساسيته "الديكارتية". فهو ينهل من معين عدد من التيارات البنائية الفرنسية مثل "النسبة الذهبية" و"المربع والدائرة" والأورفية"، ولكن أصالته تقع في تمايزه الرهيف عن هذه المصادر. وأبلغ أمثلة على ذلك لوحته الفائزة التي تمثل مائدة يتحلق حولها عرائس وهي أشبه بحال "العشاء الأخير". ولا تسمح سخريته السادية لأدنى فرصة من التطريب والإغراء البصري وذلك على رغم تدرجاته الرهيفة الباردة والحارة. ويكشف ركن أحمد باقر عمق المخاض العام. فهو تحول بدوره من المواضيع الوجودية الى ارتباطها بخصائص البيئة الاجتماعية. ويتبدى نكوصه الشجاع في لوحة المرأة التي تقرأ، غارقة في ضوء سخي يفد من السلم الدرج والمشربية. عالم داخلي محاك بتهشيرات الضوء ونقيضة الرمادي المشع، يستعيد عذوبة هذه الحياكة التي تبني الظل والظليل فوق خمائل النور على النور. وتتصف حساسية هذا الفنان بالحبيرة الضوئية الأصيلة التي تجعل من السطح رفيفاً دؤوباً مثل حركة برادة المغناطيس. يعربد الضوء ويتماجن فلا يثبت على حال مثل مراجعته الدائمة للخط بالقلم والممحاة. ولا يمكن تجاوز التقدم الكبير في تجربة شفيقة الهرمي وبديع بوبشيت. الأولى بسبب مواصفاتها النصبية وإحكامها البنائي في مصادفات اللون والثاني بسبب تعاضد الخطوط مع المساحات والحفاظ على النور الداخلي في اللوحة. تبدو نماذج الحفر والطباعة متميزة مثل كل عام. وحصلت محفورات ناصر اليوسف على "اللينوليوم" الجائزة الكبرى ونالت محفورات علي ابراهيم مبارك الجائزة التقديرية. وذلك لسبب خصائص أداءاته ذات القرار الحاسم، معتمداً على وحدة المناخ اللوني المزروعة فيه مفردات توقيعية وأخرى حركية. ويحافظ جبار الغضبان على موقعه المتميز في فن الحفر محاولاً وزميله عباس يوسف امتحان الشرائح المجهرية التربيعية الصغيرة كجزء من الأعمال السابقة. تبدو في هذه العملية الاختصارية الميخماليزم روح التجدد الدائم. هي التي سمحت لخامات الحفر الطباعي ان يستقل بجماليته عن ذاكرة الموضوع. علينا ان ننتظر التوليف الذي سيعقب هذه التجربة. أما جمال عبدالرحيم فقام بمغامرة معاكسة استرجع فيها بانورامية الموضوع بعد أن وصل في تقسيمة الى "المخماليزم" التجريدي أيضاً. يطبق جمال المثل الفرنسي: "خطوة الى الوراء من أجل القفز خطوتين الى الأمام"، وعلى رغم ان تجربته لم تتملك بعدها التشكيلي فهي كانت تصحيحاً أصيلاً شجاعاً للخروج من الطريق المسدود الذي وصلته نجاحاته السابقة. وأثارت تكوينات محمد المحميد الإعجاب لشدة اختزال التكوين وخصوصاً لوحته الطباعية الزرقاء التي حذف منها نظام الظل والنور، واقتصر على الأبيض والأزرق والشبكة الحروفية المتوسطة مستخدماً تهشيرات الحروف على أساس أنها خامة تعبيرية من دون أدنى ركون الى سلطتها الدلالية. يسيطر في شكل عام على عروض هذا الصالون التعبير بالسطح، سواء كان لوحة أم مطبوعة. ويبدو التعبير بالحجم نحت، سيراميك، أو إنشاءات غائباً، وحتى في حال حضوره فهو يبدو أقرب الى الهوية والزخرفة منه الى التعبير الجمالي. خرجت الدورة الراهنة من هذا الخمول المزمن. وتجسد ذلك من خلال محاولة الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة للمرة الأولى الخروج من السطح الإقليدي والتصوير على مكورات اهليلجية بما تحمله من تورية حسية وفلكية. حصل هذا الانعطاف في الوقت الذي وصل تأثير تجريداته المشرقية الأصيلة فنانين بعيدين. من مستوى زمان جاسم في السعودية. لم يقنع طموحه بالحدود التي ترسمها اللوحة، بل إن مسؤولية الإنشاء بلغت أيضاً الحاضنة الفراغية في العرض. نصل في هذه التجربة الى ذروة التحول المضمر في المحترف البحريني. وبرزت في مجال النحت تجربتان ثريتان، ترجع الأولى الى منيرة الجلاهمة، وهي ابتدعت تشكيلات مثيرة ابتداء من عناصر البيئة الطبيعية على غرار سعف النخيل وسواها، محررة سحرية الطبيعة ومداها "الإيكولوجي". واستحقت الجائزة التقديرية. أما منافسها الأصيل فكان علي محمد عبدالله، وقد حسم الجدل لمصلحة الأولى بسبب تبعثر عناصره المعدنية وتهجين بعض اكسسوارات الموسيقيين، ولكن آلته الموسيقية المفردة تكاد تكون من اجمل روائع المعرض. وشارك الاثنان للمرة الأولى في سد هذه الثغرة النحتية التي بقيت آثارها في العروض المحجمة الأخرى. ولعل من الضروري توضيح عدم التزام اللجنة بنوع إنتاج صاحب الجائزة. فقد يحتكر الجوائز نوع من دون آخر وهو ما كان يحصل في الدورات السابقة. فالتوازن بين هذه الأنواع من مسؤولية الحركة الفنية نفسها. ولا شك أن الورشات المكلفة للإنشاءات و"البرفورمانس" والأوابد الضخمة في حاجة الى دعم الدولة. وهنا يبدو انقطاع الفنان انس الشيخ عن العرض مؤسفاً. فهو أحد أبرز الفنانين العرب في ميدان الإنشاءات. وكذلك فإن البحرين لم تستثمر خبرة فيصل سمرة في هذا الميدان، ناهيك بغياب خالد الطهمازي الذي نال الجائزة الكبرى قبل ثلاث دورات. وقد يكون غياب هؤلاء أيضاً جزءاً من ظاهرة المخاض وتحريض الوعي بالتحول. وقد يكون من أبرز علامات هذا المخاض ما يمثله التألق النقدي التشكيلي الذي بلغه الشاعر قاسم حداد، وخصوصاً في اكتشافه لبنى أمين. واحتل منهجه فراغاً لم يشغله أي أديب قبله، وحين أحيا سهرة تكريمية في منزله المتواضع احتفاء بالفنانين الضيوف انقلبت المناسبة لتكريمه هو ومبايعته من جميع الفنانين الحاضرين كصاحب أول منهج نقدي يفد من مساحة الإبداع الأدبي. ولعل ظاهرة قاسم حداد تعيد الى المحترف البحريني ما ينقصه من حوار داخلي على مستوى وعي الفن التشكيلي من داخله، وليس من أشباح الكتب والتغريبات المتثاقفة.