يحتل الفن التشكيلي في البحرين مكانة مرموقة في الحياة الثقافية والاجتماعية على السواء، وهو نشاط حيوي لا يقتصر على نخبة محدودة من المجتمع، وإنما يحظى بجمهور واسع من المهتمين والمقتنين أيضاً. وتشهد الساحة الثقافية في البحرين عروضاً متواصلة لأعمال الفنانين البحرينيين، والفنانين العرب وغير العرب الذين تستضيفهم القاعات الفنية الرسمية والخاصة. وللفن البحريني موقع متميز ومتقدم بين دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك يعود الى مجموعة من العوامل ومن أهمها البعد الحضاري الذي يميز تاريخ البحرين وهو يلتقي في عمقه بحضارة وادي الرافدين، والحضارة السومرية بالتحديد، وهي حضارة دلمون. كما أن البحرين، بفعل الموقع الجغرافي الذي تحتله، وغنى مياهها البحرية أضحت مطمحاً لحضارات شرقية وغربية تعاقبت عليها في العصور اللاحقة. وهذه بمجملها شكلت أرضية خصبة للفنانين البحرينيين. ومع العصر الحديث وانتشار التعليم وجد الفنانون فرصاً للتعلم في أنحاء شتى من العالم، مما أكسبهم مهارات وخبرات متنوعة. فمنهم من تلقى تعليمه في بعض الأقطار العربية العراق، مصر، سوريا، ومنهم من درس الفن في الغرب الولاياتالمتحدة، بريطانيا، فرنسا، فضلاً عما تجذّر لديهم من وعي بقيمة تاريخهم الحضاري الممتد. فانعكست هذه المصادر المتنوعة على تجارب الفنانين وهيأت أمامهم فرص انتقاء الاسلوب الملائم للتعبير، ويتجلى هذا التنوع في المعارض الجماعية التي تكاد تعكس كثيراً من الاتجاهات والمدارس الفنية بدءاً من الواقعية وانتهاء بالتجريدية وما بعدها. ومن التقاليد التي رست عليها الحركة الفنية التشكيلية في البحرين إقامة معرض سنوي يساهم فيه الفنانون بأعمال منتقاة تعكس طبيعة النشاط الفني ومدى تطور هذه التجارب وتنوعها، وتقدم الطاقات الفنية الجديدة. وفي إمكان المتابعين لهذا النشاط السنوي ملاحظة الخط التصاعدي الذي تميزت به العروض السنوية، وهو أمر ليس بمستغرب فرئيس جمعية الفنانين، الشيخ راشد آل خليفة، هو من خيرة الفنانين العرب، وهو من يشرف شخصياً على انتقاء الاعمال المشاركة. ولعل الجوائز التقديرية والتشجيعية التي تمنح للأعمال الفنية التي تحظى بالفوز في هذه المعارض، والتي تحدد من قبل لجنة تحكيم عربية، ساهمت في خلق روح التنافس والابتكار والإتقان. وتم اخيراً افتتاح المعرض الثامن والعشرين في قاعة متحف البحرين الوطني وتقدّم الحفل رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، وقد قام بتسليم الجوائز الى الفنانين الفائزين. لاشك ان الانطباع الاول الذي تتركه المجموعة المشاركة في المعرض الثامن والعشرين وتضم لوحات زيتية وأعمال حفر وطباعة، وتخطيط وخزف، هو الاعجاب بالمستوى الفني المرموق، وتعدد الاساليب التي تمت بها معالجة المواضيع المطروحة والتي من الممكن ملاحظة المناخ المحلي السائد فيها. وتفاوتت هذه الاساليب ما بين اسلوب واقعي تجلى في تخطيطات أحمد باقر قلم رصاص على ورق بأحجامها الكبيرة، والاساليب التجريدية المختلفة، بما في ذلك التكوينات الحروفية. وبين هذا وذاك تطالعنا أعمال كثيرة يغلب عليها الطابع التعبيري، سواء بأشكالها المحرّفة او ألوانها الحادة الصارخة. وتتفاوت اللوحات بمستوى أدائها، وهذا أمر طبيعي يتكرر ظهوره في المعارض المحلية الجماعية أينما كانت، مما يدفع المتذوق الى ان يتبع في تقويم الاعمال طريق انتقاء التجارب المتكاملة الى حد ما، وهي تتميز بطبيعة أدائها وتوفر الحضور الفني والشخصي فيها. وكان الى جانب الاعمال التي حظيت باهتمام لجنة التحكيم، وفازت بالجوائز، اعمال لافتة للنظر. لعل في طليعتها عملاً ثلاثياً للفنان عبدالرحيم شريف، ولوحتان مميزتان للشيخ راشد آل خليفة، وكلا الفنانين يتصدران الحركة التشكيلية في البحرين، وإذا كان الثاني يضع اعماله دائماً خارج التحكيم، فإن الاول فاز مرتين بالجائزة الكبرى الدانة في سنوات سابقة، كما حصل على الجائزة التقديرية عن عمله المميز في المعرض الحالي. وكانت الجائزة الاولى هذا العام من نصيب الفنان ابراهيم ابو سعد، وهو من الفنانين المتميزين، وهو يعمل بصمت دؤوب، درس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، وحاز في السنوات السابقة على جوائز تقديرية عدة، من بينها جائزة السعفة الذهبية في معرض دول مجلس التعاون الذي أقيم في قطر. وينزع أسلوبه نحو تعبيرية تشخيصية يشكل فيها الانسان، بهيئته المموهة، جزءاً رئيسياً في التكوين. وتظهر المرأة في لوحاته الزيتية محوراً تدور حوله الاعمال الثلاثة المشاركة في هذا المعرض. وبوسع متابع اعمال ابو سعد ان يلمس الحس المأساوي الذي يشيع في لوحاته على الرغم من إشراقة اللون، وتغلغل الضوء في فضاء سطوحها الممتدة. ومنحت الجوائز التقديرية أيضاً لفانين عدة، فكانت إحداها من نصيب الفنان جمال عبدالرحيم، عن تكويناته التجريدية المحفورة على الزنك. وللفنان تجربة مهمة في فن الحفر والطباعة غرافيك في البحرين، وله مجموعة اعمال تتناول نصوصاً شعرية عربية، كان آخرها كتاباً مشتركاً مع الشاعر شربل داغر. فهو يحترف فن الحفر، ويكرس جهده لإنتاج اعمال مطبوعة. أما الجائزة التقديرية الاخرى فقد منحت للفنان سلمان التيتون عن اعماله النحتية الخزفية، وقد اعتمد في تكويناته على بناء أسطواني تشتبك الخطوط على سطحه اشتباكاً متداخلاً وبارزاً من الاسفل والاعلى ويتوسطهما سطح أملس. وللإمعان في إظهار طبيعة المادة التي شكل الفنان منها موضوعه، فقد اكتسبت مجموعة اعماله ألواناً أرضية متداخلة من البني والأوكر بدرجاتهما المختلفة. وتحتل المرأة مكانة بارزة في الفن البحريني، فهي تشارك سنوياً في معارض جمعية البحرين للفنون الجميلة، وتأتي تجربة الفنانة بلقيس فخرو التي فازت بالجائزة الكبرى في العام الماضي، في الصدارة، فهي فنانة محترفة، تخصصت بالفنون الجميلة وتاريخ الفن من خلال دراستها في الولاياتالمتحدة، وتسعى باستمرار لتطوير تجربتها، والخروج برؤيتها التي تستقي موضوعها من البيئة البحرينية نحو آفاق أرحب. غير ان تجربة الفنانة الشابة هلا آل خليفة، التي أنهت دراستها الفنية في الولاياتالمتحدة قبل عام واحد بكالوريوس، تتميز بجرأة التعبير وطراوته مع حرية الطرح. وعلى الرغم من حداثة تجربتها، فقد استطاعت ان تحظى بإحدى الجوائز التقديرية عن أعمالها الثلاثة التي جاءت تحت عنوان "ورق". وتحاول هلا من خلال صياغتها التجريدية ان تتخذ من اللون لغة تعبير ملموسة محسوسة معاً، فهي تمعن في جعل ألوانها المتنافرة حيناً والمتناغمة حيناً آخر تسيل بحرية، وتختلط بدرجاتها المختلفة لتنهمر كالشلال مع النور المنبثق من أعماق بعيدة في التكوين. وثمة أسماء أخرى جديرة بالتنويه في هذا المعرض، لعل أبرزها تجربة الفنان ناصر اليوسف، وهو فنان حفّار فقد بصره منذ سنوات، ولكنه ما يزال يقيم معارضه الشخصية، ويساهم في المعارض البحرينية المشتركة، وتتميز أعماله بتصوير المشاهد المحلية، ولا سيما حياة البحر، وينفذها بالأبيض والأسود الى جانب استخدامه للون بحدود بسيطة. ومن الفنانين الذين جعلوا من الفن نمط حياة، وهدفاً نبيلاً لا يتوخى غير الوصول بالحركة الفنية في البحرين الى أفضل المستويات، هما الفنانان عباس يوسف وعبدالجبار الغضبان، وكلا الاسمين متلازمين، وكلاهما متخصص بفن الحفر، يمارسانه بمثابرة وجدية، وقد كان لهما إسهامهما البارز في هذا المعرض، حيث طالعنا اليوسف بتكوينات حروفية جميلة، وقدم عبدالجبار الغضبان مشهداً متلاحماً ينم عن أجزاء بشرية متشابكة، داخل إطار من زخارف وإشارات متنوعة. ومن الاعمال اللافتة للنظر أيضاً أعمال الفنان عبدالله يوسف الذي يمتلك حساً مرهفاً، والفنان عمر الراشد بلوحاته المبهجة، وخالد الطهمازي الذي بدا إنتاجه في هذا المعرض دون قدراته التي طالعنا بها في أعماله السابقة. ومن الطاقات الجديدة اللافتة لوحتان تجريديتان للفنان الشاب جعفر العريي، تميزتا بالحس التصميمي العالي، والأداء الرفيع. حين يقف المشاهد امام هذه المجموعة المنتقاة من الاعمال، متدرجاً من التجارب المعروفة المستقرة، حتى التجارب الشابة الجديدة، بوسعه ان يلمس خط التطور المتصاعد بدءاً من الاسماء الرائدة وانتهاء بأعمال الشباب، ليرى حركة تمضي وتتوالد وتزدهر في مسافة زمنية قصيرة نسبياً لا تتجاوز العقود الثلاثة الأخيرة.