لعلها مصادفة جميلة حقاً: أن يكون للشاعر الأميركي الكبير عزرا باوند ابن يدعى عمر، وأن يكون شاعراً بدوره، وأن يكتب عن الانتفاضة الفلسطينية قصائد تحت عنوان "الأرض المقدسة". ولئن عرف عزرا باوند 1885 - 1972 بنزعته "اللاسامية" التي قادته الى معاداة "الحلفاء" في الحرب العالمية الثانية والى الهجرة الى ايطاليا الفاشية هرباً من روزفلت و"مستشاريه" اليهود أصحاب المصارف كما يسمّيهم فإن عمر باوند يجاهر بنزعته "الفلسطينية" متبنياً قضية "الانتفاضة"، ومعبّراً عنها من خلال "ذاكرة" المنتفضين وعيونهم. ومثلما انحاز والده الى اللغات الشرقية سعياً منه الى تأسيس "حضارة جديدة" كما يقول، انحاز عمر الى اللغات الشرقية، خصوصاً الفارسية والعربية والى الحضارة الاسلامية وآدابها. وكان انكب على درس هاتين اللغتين في لندن ومونتريال إبان تحصيله الجامعي، ولم يتوان منذ ذلك الحين عن ترجمة عيون الشعر العربي والفارسي الى الانكليزية، معرّفاً القراء الاميركيين بالشعراء العرب والفرس. قصائد "الأرض المقدسة" التي كتبها عمر باوند في أوج احتدام الانتفاضة، حصل عليها الباحث الأكاديمي اللبناني المقيم في نيوجرسي منصور عجمي، فسرعان ما نقلها الى العربية وأصدرها بالعربية والانكليزية عن دار "الحركة الشعرية". وهي المرة الأولى التي تصدر فيها قصائد معرّبة للشاعر عمر باوند. وان كان الشاعر الأميركي أمضى ثلاث سنوات في طنجة رئيساً للمدرسة الأميركية وشارك ثلاث مرات في مهرجان "المربد" في العراق، فهو ظل مجهولاً في العالم العربي ولم يسع المترجمون العرب الى تعريب أشعاره. إلا أن عمر باوند كما يبدو، يتحاشى الشهرة في الولاياتالمتحدة والعالم الانغلوساكسوني، على خلاف والده الذي فرض نفسه كشاعر رائد على رغم "تخوين" السلطة الأميركية له وسجنها إياه خلال الحرب العالمية الثانية. ربما دفع عمر باوند ثمن شهرة والده وريادته الشعرية، اذ يصعب فعلاً أن يضاهي الابن أباً شاعراً في منزلة عزرا باوند. وعمر الذي يناهز الخامسة والسبعين الآن ولد في باريس عام 1926، وكانت العاصمة الفرنسية آنذاك أحد المنافي التي أمضى عزرا باوند حياته متنقلاً بينها. أما والدته فرسامة بريطانية تدعى دوروثي شكسبير. وأشرف عمر أخيراً على جمع الرسائل المتبادلة بين والده وأمه، وأصدرها في كتاب لقي رواجاً كبيراً في أميركا. تحمل قصائد عمر باوند "الأرض المقدسة" عنواناً ثانياً هو "دورة شعرية" بالأحرى متوالية شعرية. فهي ذات نَفَس واحد متوالٍ ومتقطع في آن. وإذ حملت كل قصيدة عنواناً خاصاً بها، فهذا لا يعني استقلال القصيدة عن الأخرى. فالقصائد تكمل واحدتها الأخرى لتنصهر في هذه "الدورة" الشعرية التي تستوحي قضية الانتفاضة. واللافت ان الشاعر يكتب عن انتفاضة الأطفال والنساء في فلسطين من خلال عيونهم وعبر أحاسيسهم ووجدانهم. ولغته بسيطة وأليفة وشبه يومية، بعيدة عن التعابير النضالية. فالقصائد تحاول أن تصف المأساة وصفاً تصويرياً ملتقطة تفاصيل المواجهة بين الجنود والمنتفضين. إنهم الجنود الذين "يقلبون آنية الزهور" و"يسرقون الملح" و"يقتحمون المنازل" و"ينتزعون الحلوى" من يدي الطفلة التي "ستكره ما فعلوه/ لستّين سنة تالية". إنهم الجنود الذين يجرفون البيوت ويطلقون النار على الصبي الذي رمى الدبابة بالحجارة، وينزعون أحشاء الطفل الذي صوّب نحوهم "دميته". في قصيدة أخرى عنوانها "أسباب الكراهية" يسترجع "الراوي" الفلسطيني صورة خالته العجوز التي كانت تذكّره دوماً بأن الأتراك كانوا أقل قسوة من الاسرائيليين. أما القصيدة الرابعة في هذه "المتوالية" فتستحضر جندياً أميركياً - يهودياً يدعى عاموس، دمج "الدين بالسياسة" والتحق بالحرب ضد الأطفال ثم عاد خائباً مكتئباً كالابن الضال كما يسميه الشاعر الى نيويورك. وهو رفض أن "يكرّموه" لقتله الأطفال الذين رشقوا الدبابة بالحجارة. قد لا تكتسب هذه القصائد الخمس أهميتها إلا من كونها شهادة شاعر أميركي على الانتفاضة. فهي إذ تشهد على سقوط الأطفال والنسوة، تسعى الى ادانة الجنود الذين يقتلون بلا رحمة. ولعل في هذا الوصف السردي القائم على التقاط تفاصيل المشهد، ما يمنح تلك القصائد طابع الألفة والفرادة، ويبعدها عن الخطابية والمنبرية والانفعال. أما المفاجأة التي حملتها هذه القصائد فهي تعريف القرّاء العرب بهذا الشاعر العربي والشرقي النزعة، الذي لم يتوان عن خدمة الشعر العربي عبر ترجمته الى الانكليزية. ويكفي ان يدرك القراء أن عمر باوند هو ابن الشاعر الأميركي "المنشق" عزرا باوند، الذي كان له أثر في شعراء الحداثة العربية ذوي الثقافة الانغلوساكسونية.