} نتابع في ما يلي نشر فصول من كتاب جديد عنوانه "حركة القوميين العرب: نشأتها وتطورها عبر وثائقها، الجزء الأول 1951 - 1961"، يصدر قريباً عن "مؤسسة الأبحاث العربية" في بيروت بتحرير هاني الهندي وعبدالاله نصراوي. تُنشر الفصول في ست حلقات أيام الاثنين والخميس والسبت، وهنا الحلقة الرابعة. اعتادت "جمعية العروة الوثقى" ان يقوم اعضاؤها بانتخاب الهيئة الإدارية الجديدة في نهاية العام الدراسي، وتحديداً في شهر أيار مايو قبل بدء العطلة الصيفية، حيث يتاح للمجموعة الإدارية الجديدة ادارة شؤون الجمعية مع بداية العام الدراسي القادم. وفي أيار 1950 جرت انتخابات ادارة الجمعية ورئاسة الهيئة العامة لتقود "العروة الوثقى" للسنة الدراسية 1950 - 1951. كانت هناك ثلاث لوائح انتخابية دخلت في منافسة شديدة. كانت الأولى تمثل التيار القومي العربي. والثانية ضمت الشيوعيين وأصدقاءهم، في حين حملت الثالثة اسم "قائمة الحياديين" وتألفت من عناصر مستقلة وبتوجهات سياسية مختلفة. وكان يوماً طويلاً. وفازت قائمة التيار القومي العربي بكامل أعضائها وحازت على أكثرية مطلقة من أصوات المقترعين. تألفت القائمة الناجحة من أحمد الخطيب - رئيساً، وعبدالمحسن قطان - نائباً للرئيس، وسلامة عبيد - أميناً للسر، وصالح شبل - أميناً للصندوق، والاعضاء وديع حداد وحامد الجبوري ومصطفى غندور وفهيمة الحكيم. وكان هؤلاء أعضاء الهيئة الإدارية. وفاز جورج حبش برئاسة الهيئة العامة للعروة، وظبية الشواف، بأمانة السر. ما ان بدأت الهيئة الإدارية الجديدة اعمالها مع مطلع السنة الدراسية حتى طغت أخبار ضرب السلطة في سورية ل"جمعية كتائب الفداء العربي"، السرية، بعد ان فشل بعض أعضائها في محاولتهم لاغتيال العقيد اديب الشيشكلي في دمشق، والقاء السلطات العسكرية القبض على عدد من أعضاء هذه الجمعية، وكانوا شباباً عرباً من أكثر من قطر وُجدوا في سورية. وظهر في الصحف في منتصف تشرين الأول 1950 أكتوبر 1950 ان اثنين من نشطاء العروة الوثقى كانا مشاركين في تأسيس تنظيم قومي سري يسعى الى تحقيق الوحدة العربية وتحرير الوطن العربي من الاستعمار والقضاء على الدولة الصهيونية. تركت أخبار انكشاف أمر "كتائب الفداء العربي" أصداءٌ واسعة وعميقة في الأوساط السياسية وبين الطلاب في سورية ولبنان بشكل خاص. وبقيت الصحف تتحدث عن هذه المجموعة الطالبية لشهور عدة بسبب محاكمة اعضائها وما كان هؤلاء يطرحونه امام القضاء العسكري، وارتفعت حرارة النشاط الطالبي السياسي وازداد الشباب حماسة واندفاعاً. وكانت الأحزاب والصحف تعيش، يومها، في سورية ولبنان بخاصة، أجواء من الحريات العامة والخاصة الرائعة والنادرة أيضاً. كان جورج حبش في السنة الأخيرة من سنوات دراسته في كلية الطب، ومع ان أجهزة الأمن العسكري السورية كانت تتعقبه وتسعى للقبض عليه ونقله الى دمشق، الا ان ذلك لم يحل دون نشاطه الواسع في الجامعة وبقي عنصراً اساسياً وفاعلاً في اجتماعات العروة الوثقى وهيئاتها ولجانها حيث كان يطرح الأسئلة والاقتراحات ويناقش، داعياً الى العمل القومي. وكان قد اكتسب وضعاً متميزاً في الوسط الطالبي بعد ان ورد اسمه في قرار الاتهام الذي اصدره قاضي التحقيق العسكري بحق "كتائب الفداء العربي" فتشكل انطباع حوله انه رجل جاد. كان تعامل حبش وتفاعله السياسي والفكري مع أعضاء الهيئة الإدارية للعروة مفيداً وعميقاً ومؤثراً، اذ كان هؤلاء يلتقون ويتحاورون ويتساءلون عن العمل المطلوب بعد ان وقعت كارثة فلسطين وما ظهر من ضعف وعجز، بل وانهيار عام أمام التحدي الصهيوني، وضرورة مواجهة ذلك. ونتيجة تلك الحوارات وتلك التفاعلات العميقة والجادة قام تفاهم وانسجام بينه وبين أحمد الخطيب الكويت ووديع حداد فلسطين وصالح شبل فلسطين وحامد الجبوري العراق، وكانوا من أعضاء الهيئة الإدارية للعروة الوثقى. من هذه المجموعة الطالبية تشكلت نواة لبداية عمل قومي جديد. ولكن، هل كانت هناك منطلقات فكرية متبلورة أو موقف نظري يقوم على فلسفة واضحة تحدد الأهداف بدقة وترسم المسارات ومراحلها لدى هذا الفريق الطالبي من شباب الجامعة؟ كان المفتاح: رفض الواقع ورفض الهزيمة بعمق وتصميم. وبالتالي الإيمان بوجوب العمل وكراهية الوقوف على الشاطئ متفرجين على ما جرى في فلسطين وما يجري فيها ومن حولها. أما بعد ذلك وخصوصاً عن "كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ ومتى؟" فلم تكن عندهم لها اجابات واضحة. ومما زاد في تصميمهم وقوّى ارادتهم انتشار اقتناع لدى قطاعات واسعة من المثقفين ان المعارضة للأنظمة لم تكن في وضع سياسي ونضالي أفضل، إذ عرف عن احزابها العجز الواضح والفشل في تقديم بدائل، اضافة الى الغرق في الشؤون المحلية والشوق الشديد لتصل الى السلطة وبأي ثمن. كان عند هذه المجموعة الطالبية حماسة وشعور عميق، بل واندفاع حار للعمل. العمل لتوحيد الأمة لتحمي نفسها وبقاءها. وان تحقيق الوحدة لا يتم ويتحقق من غير عمل وجهد وسعي حثيث ومتواصل. كانت هناك رغبة صادقة بوجوب العمل لتحقيق اهدافنا. وكان هناك شوق شديد لزيادة معارفنا وثقافتنا القومية والسياسية لأن النجاح يتطلب الوعي والإدراك والفهم. ومن هنا كان الاتفاق على لقاء ثقافي اسبوعي، حيث يكلف الواحد بدراسة كتاب أو مرجع يتناول القومية أو تجارب نضالية لشعوب أخرى، ويقدم المكلف تلخيصاً يطرح للحوار والمناقشة. وكان الموعد يوم السبت بعد الظهر. وعرف هذا الاجتماع الأسبوعي "بالحلقة الثقافية". وبدأت الحلقة بخمسة أعضاء ثم ازداد العدد بشكل تدريجي ومتأن. ولم تكن الكتب كلها قومية مثل كتب ساطع الحصري وقسطنين وزريق وعبدالله العلايلي وعبداللطيف شرارة، بل كان لبعض المفكرين من ألوان أخرى مكان مثل كتابي خالد محمد خالد "من هنا نبدأ" و"كي لا نحرث في البحر". ولكتّاب تقدميين مثل سلامة موسى وغيره. كان اقتناع الشباب ان الصهيونية تمثل خطراً حقيقياً متزايداً على الأمة العربية ومستقبلها، ولم ينظر الى هذه الحركة العنصرية العدوانية أبداً انها خطر عابر وقابل للتعامل معه. وكان كتاب "معنى النكبة" لزريق مصدراً مهماً للتفكير العميق والتأمل المتأني. كانت هناك نقاشات مستمرة مع العناصر الحزبية على اختلاف الوانها في الجامعة الاميركية وخارجها. وكان هناك تباين وخلاف حول حقيقة ما جرى في فلسطين وحول تقويم المشروع الصهيوني وأخطاره المباشرة والبعيدة على المنطقة العربية. لكن الخلاف الأعمق كان مع الشيوعيين الذين وقفوا وحدهم يؤيدون قرار تقسيم فلسطين وإقامة دولة اسرائيل، فيما تميزت مواقف الاحزاب العربية والهيئات والشخصيات السياسية بعدائها الواضح والقاطع للصهيونية ورفض وجود الدولة الغاصبة. في أواخر أيار مايو 1951، وبعد ان أفرج عن هاني الهندي من سجن المزة العسكري، التقى جورج حبش في بيروت، فحدثه الأخير عن المشروع القومي السري الجديد مع مجموعة من شباب "العروة الوثقى"، الذين بدأوا معاً عملاً قومياً جديداً يختلف عن "كتائب الفداء العربي" وأسلوبها. وانضم هاني الهندي لهذه المجموعة. وفي هذه الفترة لم يقتصر نشاط جورج حبش وزملائه من اعضاء الهيئة الادارية في جمعية "العروة الوثقى" على الجانب الفكري والتنظيمي، بل كانت لهم انجازات ذات طابع ثقافي واجتماعي مثل تبنيهم الناجح ل"مشروع العروة الوثقى" التعليم المجاني لطلاب متفوقين. وقد وضعت خطة لجمع مبلغ عشرة آلاف ليرة لبنانية خلال عامين، لكن المبلغ جمع في وقت قصير وأعطيت المساعدة المالية المطلوبة بالفعل لطالبين عربيين. والى جانب ذلك نجحت اتصالات الشباب في تنظيم تظاهرة كبيرة انطلقت من الجامعة الاميركية وشارك فيها طلاب من مدارس عديدة في بيروت في 6/3/1951 انتصاراً للشعب المراكشي المضطهد، واحتجاجاً على تصرفات المقيم الفرنسي - المارشال جوان - وأعوانه. وقد وصلت مجموعات طالبية الى النصب التذكاري الذي أقامه الفرنسيون تخليداً لاحتلالهم لبنان وسورية، وقام الطلاب بتحطيم ذلك النصب، ونقلوا "الخوذة النحاسية العسكرية الكبيرة" ووضعوها في غرفة اجتماعات جمعية "العروة الوثقى". الا ان قوات من الدرك اقتحمت المكان في ما بعد، ونقلت تلك "الخوذة النحاسية". في هذه الفترة 1951 و1952 أقام الشباب علاقات واتصالات مع العديد من المثقفين الذين عرفوا بآرائهم القومية ومواقفهم الوطنية، وتبادلوا الآراء معهم وتفاعلوا. وكانت هذه اللقاءات نافعة ومفيدة. لكن، لم تكن هذه العلاقات مع المثقفين وحدها التي قام بها أولئك الشباب. بل كان لهم علاقات من نوع آخر في عام 1951، اذ تعرفوا على مجموعة من المناضلين الميدانيين ممن ساهموا في معارك فلسطين. وكان أبرز هؤلاء أحد ابطال الدفاع عن القدس في معاركها عام 1948 "ابراهيم أبو دية" - قائد منطقة القطمون احد القادة الشعبيين في "الجهاد المقدس" الذي قاده الشهيد عبدالقادر الحسيني. كان ابراهيم أبو دية وصل الى بيروت بعد ان اصابه الشلل اثر رصاصة خرقت عموده الفقري إبان معارك المدينة المقدسة. وقد حمله الى بيروت قيادي معروف في الحزب الشيوعي الفلسطيني هو محمد نمر عودة الذي لم يلتزم سياسة حزبه بشأن الكفاح المسلح، اذ شارك في ذلك الكفاح خلال ثورة 1936 وفي معارك 1948. وقد اتصل عودة بعناصر الشباب من طلاب كلية الطب حبش وحداد والخطيب فقدموا لذلك المناضل أبو دية كل الخدمات الطبية المتوافرة في مستشفى الجامعة، ولكن الأهم ان هذه المجموعة استمعت لتجارب "أبو دية" و"عودة" وخبراتهما في فلسطين وما توفر عندهما من أذخار كفاحية كانت مهمة ونافعة لأولئك الشباب الذين كانوا في نهاية دراستهم الجامعية. اما داخل الجامعة فقد نشطت المجموعة فتمكنت من تنظيم عدد من الطلاب في حلقات وخلايا، كما بدأ هؤلاء نشاطات في صفوف الطلاب في المعاهد اللبنانية المختلفة. ولم تكن عناصر الهيئة الادارية ل"العروة الوثقى" وحدها التي نشطت في الجامعة الاميركية بتوجه قومي عربي، فقد أسس عدد من طلاب "الثانوية العامة" التابعة للجامعة منظمة سرية في أوائل عام 1950، وذلك "كرد فعل لسيطرة جماعة السوريين القوميين على اجواء المدرسة الثانوية في الجامعة". ويقول ثابت المهايني في رسالة له لزميل سابق في تلك المجموعة: "ان الاجتماع التأسيسي قد تم في مكتب الكشاف في الثانوية بحضور خليل مكاوي وفاروق فاخوري ومعن كرامي وعلي فخرو وماجد الجشي وفاروق بربير وأديب قعوار وأسامة عانوتي ومأمون الدندنشي وثابت المهايني". وفي ذلك الاجتماع تقرر تأسيس منظمة سرية تدعو للقومية العربية وينحصر نشاطها في الثانوية العامة ولا تستهدف ان تكون حزباً، وبالتالي ترفض ان يكون بين اعضائها من ينتسب الى اي حزب من الاحزاب. وواضح انه لم يكن لهذه المجموعة اي دستوري او برنامج مكتوب، كما لم يلتزم اعضاؤها باجتماعات منتظمة. فقد كانت المنظمة تنشط في مناسبات سياسية معينة وكرد فعل لنشاطات الآخرين. إذاً، كانت في الجامعة الاميركية مجموعة طالبية في سنواتها الدراسية الاخيرة في أوائل عام 1950، انتمى بعضهم الى "كتائب الفداء العربي"، وفي أواخر ذلك العام وبداية العام التالي بدأ جورج حبش ينشط لتشكيل مجموعة قومية سرية. وكانت في السنة ذاتها 1950 مجموعة من طلاب المرحلة الثانوية تؤسس منظمة سرية باسم "منظمة العروبة". كان التوجه القومي العربي هو المنطلق الفكري للمجموعتين من دون ان يكون هناك تواصل بينهما. وكان من بين عناصر "التنظيم الثانوي" عدد قليل انتسب سراً لحزب البعث العربي ولم يعلنوا حقيقة انتمائهم. وفي هذا المجال يذكر احمد الخطيب "انه كانت تساورنا فكرة الانضمام لحزب البعث قبل ان نتفاهم مع جورج حبش في اوائل عام 1951. وحدث ان وجه جمال الشاعر - مسؤول الحزب وطالب بكلية الطب - دعوة للخطيب وحبش ولعدد كبير من طلاب الجامعة بينهم كثيرون من طلاب الثانوية العامة للقاء في احد مقاهي منطقة الروشة. وتكلم جمال الشاعر - كما قال أحمد الخطيب - امام ذلك العدد الكبير من الطلاب عن حزب البعث ومزاياه، وهاجم التجمعات القومية الأخرى بحدة، واختتم خطابه بقوله: "هذا هو حزبنا العظيم ومبادئه. وعلى من يريد الاشتراك معنا في انقاذ الأمة من محنتها، فليتفضل بالانتساب الينا... ومن لم يرد فإلى جهنم وبئس المصير". وكان خطابه عنيفاً وقاسياً وقاطعاً الطريق على أي حوار ونقاش. وما ان انتهى من خطابه حتى كان معظم الحاضرين قد انسحبوا من ذلك الاجتماع، وكان اغلبهم من طلاب الثانوية العامة. بعد هذا الاجتماع الفاشل جاء رد الفعل عنيفاً من جانب الطلاب الثانويين، فقد اجتمعوا وقررت اكثريتهم المطلقة "فصل البعثيين وكل من يؤازرهم من المنظمة" - كما يقول المهايني - وأعاد هؤلاء ترتيب عضوية "منظمة العروبة"، وقد ضمت 35 - 40 طالباً من بينهم ثابت المهايني وعدنان فرج ومصطفى بيضون وسامي صنبر وطارق الشواف ومعن كرامي ورمزي دلول وسمير صنبر وفيصل خضراء وموريس تابري وعادل الصغير وإيلي بوري وخليل مكاوي وفاروق فاخوري وفهد السديري وأديب قعوار وأسامة عانوتي وكمال مرشي وسعيد بركة وعمر فاضل وأكرم اليوسف وسمير مصطفى الخالدي ورشيد بكداش ومأمون الدندشي ويوسف التميمي وزياد حبش ومحمد الفار وصلاح حشاش وطلال نابلسي. وقد تعرضت هذه المجموعة لهزة اخرى حين حاول احدهم التمهيد "لإيجاد علاقة مع الاخوان المسلمين"، الا ان الأكثرية وقفت ضد هذا التوجه وكان أن انسحب ومعه اثنان من زملائه فقط". في ربيع 1951 بدأت علاقة بين حبش والمهايني، حيث مثل الأول "الحلقة الثقافية" والثاني "منظمة العروبة". وتطورت العلاقة بين المجموعتين، وكلف المهايني وأديب قعوار بتمثيل "المنظمة" في الاجتماعات الأسبوعية "للحلقة الثقافية". وكان التفاعل ايجابياً وبنّاء. وتقدم المهايني باقتراحات لزملائه بأن يعاد النظر في اسلوب عملهم، فكان الاتفاق على ان "يلجأ الى اسلوب التنظيم الهرمي، ثم ان يمتد العمل التنظيمي الى خارج محيط الجامعة متوجهاً الى الثانويات الاخرى، وخاصة المقاصد"، واهتم هؤلاء بالتثقيف القومي، وقد طلبوا من حبش "مساعدتنا في عملية التثقيف، فأعطاني دفتراً فيه تلخيصات لمحاضرات كان يلقيها زريق على اعضاء حلقاته الفكرية" كما ذكر المهايني في رسالته المذكورة. وكان معروفاً انه كان للمهايني دور قيادي بين الطلبة الثانويين. في آب اغسطس 1951 أقام اعضاء "منظمة العروبة" مخيماً على نهر الحاصباني، قرب مدينة حاصبيا في جنوبلبنان، وكان مهايني قد اقترح على زملائه ان يشترك جورج حبش معهم في الأيام الثلاثة الأخيرة. وقد وافقوا على ذلك. وأكد الكثيرون ان مشاركة حبش كانت مفيدة وذات تأثير كبير على قيام علاقة عميقة ورابطة عمل متينة. "وقد اكتسب حبش محبة أولئك الشباب واحترامهم بعد جلسات طويلة حيث طرحوا عليه مجموعة كبيرة من الأسئلة والاستيضاحات التي تناولت كل ما كان يخطر في أذهان فتيان متشوقين للمعرفة والعمل وخدمة مبادئهم وأفكارهم" - كما ورد في رسالة فيصل خضراء. في بداية السنة الدراسية 1951 - 1952 عادت "الحلقة الثقافية" الى لقاءاتها الأسبوعية وقد حولت "أسماء الموقع" شقة سكنها الى مركز لهذه الاجتماعات الثقافية ونشاطات الشباب. وكانت "أسماء الموقع" طالبة في قسم الدراسات العليا في الجامعة. والى هذه الحلقة انضم باسل الكبيسي وفيصل خضراء. ثم ازداد عدد المشاركين باشتراك سمير صنبر وفرحي عبيد ونهاد هيكل. كانت هذه الاجتماعات الثقافية مفيدة جداً لتعارف المجموعتين وازدياد ترابط اعضائهما. وقد تعمق التفاعل وتوثقت العلاقات، الا ان الاندماج الكامل لم يتم الا بعد تلك المظاهرة الطالبية الكبيرة التي نظمتها جمعية "العروة الوثقى" في أواخر تشرين الأول اكتوبر 1951، تأييداً لموقف حكومة مصطفى النحاس - زعيم حزب الوفد - التي قامت بإلغاء المعاهدة المصرية - البريطانية قبل أيام قليلة. وكانت خطوة الوفد شجاعة ألهبت مشاعر الجماهير العربية ولقيت التأييد والدعم في معظم بلدان المشرق العربي خاصة. في تلك الاجواء السياسية الساخنة اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بمنع التظاهرات، فعمدت قوات الأمن الى تطويق الجامعة الاميركية، فقد كثّفت الحراسة بأعداد كبيرة من رجال الشرطة والدرك وخصوصاً عند الأبواب الرئيسية للجامعة. وبعد هذا الحصار قام الطلاب باقتحام البوابة الحديد لكلية الطب بعد ان تقدمت "اسماء الموقع" جموع المتظاهرين المحاصرين وتسلقت البوابة الحديد ورمت بنفسها على رجال الأمن مما أثار مشاعر الطلاب وأهاجهم، فقاموا بتحطيم الباب واشتبكوا بالأيدي مع رجال الأمن، وانتشر الطلاب في المنطقة المحيطة بالجامعة، وقد سقط عدد من الجرحى معظمهم من الطلبة. وكانت المظاهرة ناجحة جداً بكل المقاييس وتركت أصداء واسعة في لبنان وبلدان المشرق العربي. ولم تتحمل ادارة الجامعة الاميركية فشلها مع السلطات لمنع التظاهرة، فلجأت الى اتخاذ اجراءات ادارية صارمة اذ قررت فصل عدد من الطلاب النشيطين، ووجهت انذارات بالطرد لآخرين. وكانت سياسة الجامعة قد شهدت تحولات بعد قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947، حيث سلكت سياسة متشددة، بينما كانت تسكت او تتساهل حين كان الطلاب يتظاهرون ضد فرنسا، اما بعد التقسيم فكان التظاهر ضد سياسة الولاياتالمتحدة ودولة العدو. في عام 1949 عين مجلس أمناء الجامعة في نيويورك "ستيفن بنروز" رئيساً للجامعة الأميركية. وسبق لبنروز ان درس في الجامعة في الثلاثينات، الا انه كلف خلال سنوات الحرب العالمية الثانية مهمات أمنية كبيرة، اذ تولى رئاسة "مكتب الخدمات الاستراتيجية"، وكانت هذه الهيئة نواة أو بداية "وكالة المخابرات المركزية - C.I.A" التي تأسست في عام 1947. ومن هنا، فإن هذا الاستاذ الجامعي كان على علاقة قوية بأجهزة الأمن الاميركية. وفي أوائل الخمسينات عين "وايدنر" عميداً لكلية الهندسة، وكان ضابطاً كبيراً في فريق المهندسين في قوة "مشاة البحرية" المارينز. فشلت محاولة القمع، اذ اظهر طلاب الجامعة وفي المعاهد والثانويات اللبنانية تضامناً لافتاً مع نشطاء "العروة الوثقى". فجاءت ردود الفعل من الجامعة ومن خارجها قوية واسعة، اذ اتسع نطاق الاضرابات والاعتصامات الطالبية في لبنان، الأمر الذي احرج الحكومة اللبنانية، فتدخلت وضغطت على ادارة الجامعة لتجميد الاجراءات القمعية بالنسبة لتظاهرة خريف 1951 ولتظاهرات مماثلة تالية. والواقع انه كان للشباب القومي علاقات وثيقة جداً مع القيادات الطالبية اللبنانية، وكان لبعضها اوضاع اجتماعية متميزة مثل علياء رياض الصلح وشقيقتها، ومع شخصيات سياسية وإعلامية عروبية مثل تقي الدين الصلح ومحمد شقير وعلي ناصر الدين وعفيف الطيبي وشقيقه وفيق الطيبي وغيرهم. بعد تظاهرة تشرين الأول 1951 الناجحة اندمجت "منظمة العروبة" ب"الحلقة الثقافية" بكل حلقاتها وعناصرها. وتشكلت من المجموعتين نواة صلبة من شباب عقدوا العزم ان يبذلوا ما يستطيعون لتحقيق اهدافهم القومية. وانطلقت الهيئة الموحدة تنشط باسم "الشباب القومي العربي". وكان جورج حبش مسؤولاً ومعه زملاؤه كقيادة للتنظيم الموحد في "الحلقة الثقافية": الخطيب وحداد وشبل والجبوري والهندي. لم تكن التظاهرة هي الوحيدة، بل إن هذا "السلاح السياسي" - التظاهرات - استخدم في العديد من المناسبات السياسية للتعبير عن السخط الذي كان يعم الجماهير العربية بسبب سياسات الأنظمة المتخاذلة وممارساتها القمعية. ففي 25/1/1952 اطلقت جمعية "العروة الوثقى" والجسم الطالبي في الجامعة تظاهرة كبيرة دعت اليها طلاب لبنان احتجاجاً على اجراءات السلطة العسكرية في سورية ضد الطلاب الجامعيين. وجاءت تظاهرة بيروت احتجاجاً على احتجاز زملائهم المعتقلين في سورية.