عندما استيقظ العالم على ثورة «آي بود» وما تلاها من إبداعات «آبل» مثل «آي فون» و «آي باد»، التفت الإعلام إلى العقل المبتكر للظاهرة، مؤسس الشركة ورئيسها التنفيذي ستيف جوبز وقصة حياته وتبنيه من عائلة أميركية متواضعة. ونشرت صحيفة «ذي أوبزرفر» البريطانية ومجلة «فورتشن» الأميركية وغيرها «مقالات» مطولة عن حياته جاء فيها أن والده البيولوجي سوري - الأصل اسمه عبدالفتاح (جون) جندلي هاجر إلى الولاياتالمتحدة مطلع خمسينات القرن الماضي لمتابعة دراسته الجامعية. لم تذكر وسائل الإعلام الغربية كثيراً عن جندلي سوى كونه بروفيسوراً لامعاً في العلوم السياسية و «شاباً واعداً»، وبأنه تزوج صديقته (والدة ستيف) وأنجب منها طفلة، وتوارى عن الأنظار بعد انفصاله عن زوجته. إلا أن مؤرخاً أميركياً فتح جدلاً عن دور الجينات وتفوقها على التربية في حالة ستيف جوبز، عندما وصف جندلي في مقالة مفصلة ونقدية نُشرت لفترة وجيزة على الانترنت (ثم سُحبت في شكل مفاجئ)، بأنه «والد الاختراع»، وخصوصاً أن ابنته مُنى، شقيقة ستيف، إحدى أشهر الروائيات الأميركيات المعاصرات وأستاذة في جامعة «يو سي أل آي» المرموقة. جندلي (79 عاماً) كان غائباً عن قصد عن وسائل الاعلام، ورفض التحدث الى أي منها. لكن ما ذُكر عنه كان ناقصاً وأحادي الجانب ومثيراً للفضول في آن. وهنا قصته كما رواها ل «الحياة»: جندلي في سورية عبدالفتاح جندلي وُلد عام 1931 لأسرة تقليدية في حمص. والده لم يحصل على تعليم جامعي، لكنه كان مليونيراً عصامياً يملك «قرى عدة بأكملها»، وفق نجله. واتسم في الوقت ذاته بسطوة على أبنائه لم تشاركه فيها زوجته «المطيعة» والتقليدية. يقول: «كان والدي مليونيراً عصامياً يملك أراضي واسعة تضم قرى بأكملها. كان يتمتع بشخصية قوية، وعلى عكس بقية الآباء في بلادنا، لم يظهر والدي عواطفه تجاهنا. لكنني كنت أعلم بأنه يحبني لأنه يحب أولاده وأراد منهم تحصيل أفضل تعليم جامعي ممكن، وبالتالي أن يعيشوا حياة تُقدم فرصاً أفضل مما حظي به لأنه لم يكن متعلماً. أمي كانت امرأة مسلمة تقليدية اهتمت بالمنزل وبي وبشقيقاتي الأربع، لكنها كانت محافظة ومطيعة وسيدة منزل، ولم تلعب دوراً مهماً كوالدي في تربيتنا وتعليمنا. النساء في جيلي لعبن دوراً ثانوياً في تركيبة العائلة، وكان الذكر مسيطراً». الجامعة الأميركية لكن جندلي لم يمض وقتاً طويلاً في سورية. «تركت وعمري 18 عاماً إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية حيث أمضيت أجمل أيام حياتي». كان ناشطاً عروبياً، وسريعاً ما لمع نجمه. ترأس جمعية «العروة الوثقى» الأدبية الفكرية ذات الصبغة القومية، والتي ضمت رموز حركة القوميين العرب مثل جورج حبش وقسطنطين زريق وشفيق الحوت وغيرهم. «كنت ناشطاً في الحركة القومية الطالبية وقتها. تظاهرنا من أجل استقلال الجزائر وأمضينا ثلاثة أيام في السجن. لم أكن عضواً في حزب معين ولكنني كنت مناصراً للوحدة العربية والاستقلال العربي. السنوات الثلاث ونصف التي أمضيتها في الجامعة الأميركية في بيروت، كانت الأجمل في حياتي. حرم الجامعة كان رائعاً. وأقمت علاقات صداقة مع كثيرين، ما زال بعضهم على اتصال بي. كان لدي أساتذة جيدون، وتأسس فيها اهتمامي بالقانون والعلوم السياسية». مجلة «كامبوس غايت» الفصلية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت نشرت في عدد ربيع عام 2007 مقالاً للدكتور يوسف شبل عن نشاطاتها الثقافية، جاء فيه أن «جمعية العروة الوثقى تأسست عام 1918، وركزت على النشاطات الثقافية والسياسية. وبين عامي 1951 و1954، ترأسها كل من عبدالفتاح جندلي والراحل إيلي بوري وثابت مهايني وموريس طبري. اتخذ قرار حل هذه الجمعية بعد أحداث آذار (مارس) 1954...»، أي التظاهرات العنيفة التي شهدها حرم الجامعة الأميركية في بيروت ضد حلف بغداد. ووفق شبل، «ضمت الجمعية مجموعات سياسية متنوعة مثل القوميين العرب والشيوعيين والتنافس على المراكز الادارية فيها كان حامي الوطيس، إلا أنها كانت تحسم لمصلحة القوميين العرب». عندما تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت، «كانت سورية تشهد اضطراباً سياسياً واقتصادياً في خمسينات القرن الماضي وستيناته. كنت أرغب حقيقة في دراسة الحقوق في جامعة دمشق لأكون محامياً، لكن والدي قال حينها إن المحامين كثر هنا، ولا ارغب في ذلك». يضيف: «عندها قررت متابعة دراساتي العليا في الاقتصاد والعلوم السياسية في الولاياتالمتحدة حيث كان قريبي نجم الدين الرفاعي مندوب سورية لدى الأممالمتحدة في نيويورك. أمضيت عاماً في الدراسة في جامعة كولومبيا ثم ذهبت إلى جامعة وسكنسن حيث حصلت على منح دراسية مكنتني من الحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه (في سن مبكرة). كنت مهتماً بدراسة فلسفة القانون وتحليله والعلوم السياسية، وركزت في دراستي في الجامعة الأميركية على القانون الدولي والاقتصاد». ولادة ستيف ومنى خلال دراسته في وسكنسن تعرف الى جوان كارول شيبل التي أنجبت منه طفلاً فيما كانا ما زالا طالبين. لكن والد صديقته كان محافظاً ولم يوافق على زواجهما، فقررت الأخيرة عرض طفلها (ستيف جوبز) للتبني. تقدم محام وزوجته أولاً، إلا أنهما عادا وتراجعا بعدما تبين أن المولود ذكر إذ كانا يرغبان بأنثى. فتقدم شخصان لم يكملا تعليمهما الجامعي لتبني المولود الجديد، ووافقت صديقة جندلي بشرط ضمان تحصيل مولودهما تعليماً جامعياً. عبدالفتاح (أضاف جون إلى اسمه) عاد وتزوج صديقته، وأنجب منها طفلة سمياها منى، لكنه سافر الى سورية (الجمهورية العربية المتحدة) سعياً للدخول في السلك الديبلوماسي. الجمهورية العربية المتحدة يقول: «كان أمامي مجالان أساسيان بعد تخرجي في الجامعة، إما العودة إلى بلدي والعمل لدى الحكومة السورية، أو البقاء في الولاياتالمتحدة والتعليم في الجامعة. وهو ما فعلته لفترة. عدت الى سورية بعد حصولي على شهادة الدكتوراه، واعتقدت بأن في إمكاني الحصول على فرصة للعمل مع الحكومة، لكن ذلك لم يحصل، فعملت مديراً لمصفاة تكرير في مدينتي حمص لفترة سنة. خلال هذه الفترة، كانت سورية جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة حيث أدار شؤوننا المصريون. المهندسون المصريون مثلاً أداروا وزارة الطاقة في سورية، ولم يكن الوضع ملائماً، فعدت إلى الولاياتالمتحدة للتعليم هناك». وفق جندلي، قررت زوجته الانفصال عنه خلال وجوده في سورية، لكن ذلك لم يثنه عن استكمال عمله الأكاديمي. «استمتعت كثيراً بالتعليم الجامعي، وكانت مهنة مجزية. لكن للأسف خلال الستينات والسبعينات في الولاياتالمتحدة، تقاضى الأكاديميون رواتب متدنية جداً. ولم يحظوا باحترام عموماً، إذ ان هناك اعتقاداً سائداً بأن الأساتذة رسوا على مهنة التدريس بسبب عدم فلاحهم في مهن أخرى. وهو اعتقاد خاطئ وغبي طبعاً. كنت بروفسوراً مساعداً في جامعة ميشيغان ثم في جامعة نيفادا. اشتريت مطعماً، وأصبحت مهتماً بجني ربح مادي، وتركت العمل الأكاديمي لادارة الأعمال. بعد المطعم، عملت مديراً في شركات ومؤسسات بارزة في لاس فيغاس، ثم فتحت مطعمين في رينو وانضممت الى هذه المؤسسة التي أديرها حالياً». يصف جندلي نفسه بأنه «مثالي»، ويضيف: «أي عمل أريد الإقدام عليه، أحاول قدر المستطاع تأديته في شكل كامل، وإلا لا أفعله. أكاديمياً، كنت ناجحاً جداً. وفي إدارة الأعمال، وبعد سنتين صعبتين، تحسنت. مثلاً، الآن، أدير المؤسسة التي أعمل فيها. من أجل النجاح في عالم الأعمال، عليك الاهتمام بمساعديك وموظفيك والتحلي برؤية واضحة». 80 عاماً: لا للتقاعد يمثل جندلي حالة نادرة لجهة استمراره في العمل بعد سن التقاعد، وهو أمر يعتز به. «في آذار (مارس) المقبل، سأبلغ عامي الثمانين، ولكن إذا نظرت إليّ، تعتقد بأنني في الستينات فقط لأنني أهتم بنفسي وبصحتي وأُحب العمل. أعتقد بأن التقاعد أسوأ مؤسسات المجتمعات الغربية. عندما يتقاعد الناس، يتحللون. يُصبحون عجائز ولا يهتمون بأنفسهم. حماسة الحياة تنطفئ ومستوى الطاقة ينخفض ويموتون نفسياً، حتى لو بقوا أحياء. أنا لا أخطط للتقاعد حتى لو تركت موقعي هنا بعد سنة أو اثنتين، سأتفرغ للكتابة، قد أكتب كتاباً أو اثنين. ابنتي روائية ناجحة جداً ولديها خمسة كتب، وأنا أخطط للانتقال من عملي، أفكر في الكتابة عن العالم العربي، ربما سرد تاريخي مع تحليل للمستقبل». لم يزر جندلي سورية منذ 35 أو 40 عاماً. «ليس لأنني لا أرغب في ذلك، لكن بسبب القلق الذي يساور أي مهاجر يريد العودة الى بلده بعد سنوات عدة، حيال التساؤلات التي قد تنتظره. أفكر بزيارة لبنان وأبو ظبي الصيف المقبل للقاء أقاربي». لا يخفي أن الحنين يؤرقه. «اشتقت لعائلتي في سورية. عندما تركت، كان أقاربي المباشرون لا يزالون على قيد الحياة. أحن إلى ثقافتي ومجتمعي والروابط الاجتماعية الوثيقة بين الأقارب ومستوى الحياة. هنا في الولاياتالمتحدة، تقدم تقني وفرص وفيرة للنمو والعمل. لكنها ليست الحياة ذاتها، ففيما يُقدر المرء الحريات الفردية في المجتمعات الغربية، إلا أن هناك أوقاتاً تشعر فيها إلى حد كبير بأنك وحدك. ليس لديك الدعم المعنوي العائلي المتوافر في الشرق. لا أتحدث عن الأم والأب، ولكن عن العائلة الأكبر، أي الأقارب. هذا الكيان الذي تشعر بأنك جزء منه، هذا أكثر ما أشتاق اليه في بلدي. طبعاً أحن الى الحياة الاجتماعية والطعام اللذيذ، لكن الأهم هي السمات الثقافية المميزة التي لا تجدها في الغرب عموماً». ويقول: «لو سنحت لي الفرصة للعودة في الزمن، لم أكن لأترك سورية ولبنان أبداً ولأمضيت عمري في بلدي. لا أقول ذلك من منطلق عاطفي بل منطقي. أعتقد بأنني ضيعت طاقاتي ومواهبي في المكان الخطأ والمجتمع الخطأ. كنت (لو بقيت) أضحيت أكثر نفعاً لبلدي ومجتمعي. لكن هذا حديث نظري، وما حدث حدث». ماذا بقي من هويته السورية وثقافته العربية بعد حوالى 60 عاماً في أميركا؟ «أنا مسلم لا أمارس ديني ولم أذهب الى الحج، ولكنني مؤمن بالاسلام عقيدة وثقافة، وأؤمن بالعائلة». جندلي يؤكد: «لم أواجه أي مشكلة أو تمييز في الولاياتالمتحدة بسبب ديني أو انتمائي العرقي. عدا لهجتي التي قد توحي أحياناً بأنني من بلد أجنبي، اندمجت تماماً في المجتمع هنا. إلا أنني أنصح الشباب العرب القادمين الى هنا لتحصيل شهادة جامعية، بألا يطيلوا إقامتهم لأن أمامهم فرصاً كثيرة في العالم العربي اليوم، وخصوصاً في الخليج. على عقول العالم العربي أن تبقى هناك، يمكنهم خدمة بلادهم أكثر مما يمكنهم أن يقدموا هنا». والد الاختراع؟ رداً على سؤال عن تسميته «والد الاختراع»، يقول جندلي إن «ابنتي منى كاتبة شهيرة، وابني البيولوجي هو ستيف جوبز الرئيس التنفيذي لشركة «آبل». سبب عرضه للتبني هو أن والد صديقتي كان محافظاً جداً ولم يسمح لها بالزواج مني، وقررت هي عرضه للتبني. ستيف ابني البيولوجي، ولكن لم أربه أنا، ولديه عائلة تبنته. ولهذا إذا قيل عني إنني والد الاختراع، فذلك يعود لأن ولدي البيولوجي نابغة وابنتي كاتبة لامعة. أشكر الله على نجاحي في الحياة، ولكنني لست مخترعاً». يقول «أعتقد بأن ابني (ستيف) لو ترعرع بإسم سوري لكان حقق النجاح ذاته. يتمتع بعقل لامع، وهو لم يُكمل دراسته الجامعية. لذا أعتقد بأنه كان سينجح بغض النظر عن خلفيته. ليس لدي علاقة وثيقة به، أبعث له رسالة لمعايدته في عيد ميلاده، ولكن أياً منّا لم يبادر إلى التقرب من الآخر. وأنا أفكر دائماً بأنه لو أراد أن يمضي وقتاً معي، فهو يعرف مكاني ويمكنه الاتصال بي». «أنا أتحمل مسؤولية أيضاً بُعدي عن طفلتي عندما كانت في الرابعة من عمرها، إذ طلقتني أمها عندما ذهبت الى سورية. ولكنني عاودت الاتصال بها بعد 10 سنوات. إلا أن الاتصال بها توقف بعدما نقلت والدتها مكان اقامتها ولم أعلم بمكانها، ولكنني أصبحت على تواصل دائم معها منذ 10 سنوات وأراها 3 مرات سنوياً. ونظمت لها رحلة العام الماضي لزيارة سورية ولبنان، رافقها أحد أقاربنا من ولاية فلوريدا. أنا منحاز للأم مهما كانت الحالة لأن الولد سيكون أسعد مع والدته. أنا أشعر بالفخر بولديّ وانجازاتهما وبعملي. طبعاً ارتكبت أخطاء، ولو عاد بي الزمن الى الوراء لأصلحت بعض الأمور. كنت سأكون أقرب الى ولدي، ولكن خاتمة الأمور جيدة. ستيف جوبز أحد أكثر الناس نجاحاً في أميركا، ومنى أكاديمية وروائية ناجحة». ورداً على سؤال عن امكانية اعتبار ستيف جوبز من الأميركيين - العرب، يقول: «لا أعتقد بأنه يلتفت الى هذه الأمور الجينية. الناس تعلم بأن أصوله سورية، وبأن والده سوري. هذا أمر معروف، لكنه لا يُركز على هذا الأمر. لديه شخصيته المتميزة وهو عصبي، عندما يكون المرء نابغة، فإن في امكانه فعل ما يشاء».