يستنتج القارئ المتتبع لتطورات العلاقات الاسبانية - المغربية هذه الأيام أن الأمور تسير نحو تأزم جدي. فالاعلام في البلدين ينتهج أسلوب التصعيد مستنداً تارة الى نقاط خلاف جوهرية وتاريخية، وتارة أخرى الى تباينات ظرفية مرتبطة بتسوية ملفات اقتصادية أو أمنية. ولقد جاءت بعض مبادرات المسؤولين الإسبان في غير مكانها الصحيح وتوقيتها المناسب لتصب الزيت على النار وتدفع بأحزاب مغربية للدخول على الخط وتأجيج حدة السجالات. مع ذلك من غير المتوقع ان تصل هذه التجاذبات، وإن شاركت فيها بعض الأطراف الرسمية من الجانبين، الى حدود حدوث جفاء بين البلدين، خصوصاً وأن القطيعة غير واردة في جميع الحالات. في الثاني والعشرين من شهر آذار مارس الماضي زار وزير الدفاع الاسباني فيدريكو تريليو مدينة مليلة المغربية المحتلة. وفي الثالث من نيسان ابريل الجاري، أدلى هذا الأخير بتصريح أكد فيه ان بلاده تعتزم اقتناء أسلحة متطورة بقيمة ستة بلايين دولار من ضمنها صواريخ يفوق مداها 350 كيلومتراً، موجهة أساساً لحماية مدينتي سبتة ومليلة، التي يطالب المغرب باسترجاعهما. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة من المواقف التي اتخذتها احزاب اليمين الاسبانية بمساندة التحركات التي قامت بها أخيراً "جبهة البوليساريو" رداً على مبادرة المغرب المسماة "بالحل الثالث" لمشكلة الصحراء الغربية. كذلك مع الهجمة الاعلامية لعدد من وسائل الاعلام في مدريدوبرشلونة، التي أشارت الى انه من ضمن الاسباب التي دفعت المغرب الى عدم تجديد اتفاق الصيد البحري بصيغته القديمة، الضغوط التي يمارسها كبار قادة الجيش على المؤسسة الملكية بحكم أعمالهم التجارية المرتبطة بالبحر وثرواته ومنافذه، وأيضاً أخذ الملك محمد السادس في الاعتبار للقوة التي بدأ يشكلها الرأي العام ومواقفه الداخلية والخارجية. من هنا، يمكن تفسير تشدد حزب "الاستقلال" أحد أبرز المشاركين في حكومة التناوب والداعي للاستعداد لدعم الحركة الانفصالية "إتيا" رداً على مساندة أطراف سياسية اسبانية لجبهة البوليساريو من جهة، ورفض تدخل الشركاء الأجانب في الشؤون الداخلية للمغرب من جهة أخرى، وبالتالي ممارسة الضغوط لانتزاع قرارات اقتصادية تخدم مصالحهم. في خضم هذه الأجواء المشحونة، تستمر اللقاءات التشاورية والزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين الجارين. ففي حين يؤكد سفير المغرب في اسبانيا أن المملكة هي بلد "حوار وليس قطيعة" وأن ما نقلته بعض الصحف الاسبانية حول مفاوضات الصيد البحري لا تعكس حقيقة ما جرى، أشارت مصادر رسمية اسبانية الى أن رئيس الحكومة خوسي ماريا أثنار سيقوم بزيارة للمغرب خلال الشهر الجاري للتباحث مع نظيره عبدالرحمن اليوسفي حول القضايا التي ألقت بثقلها السلبي على العلاقات الثنائية بين البلدين منذ بداية السنة الجارية. وأكدت هذه المصادر أن الزيارة ستكون "من دون ربطة عنق"، أي غير رسمية. لكنها تهدف الى حل المشكلات العالقة، تجميد الأصعب، واطلاق بعض المشاريع الاقتصادية. في هذه السياق، يستمر توقيع الاتفاقات، أبرزها توأمة ميناء الدار البيضاء مع ميناء برشلونة، ويتعمد الاسبان القول انهم سيبذلون قصارى جهدهم لجعل مرفأ العاصمة الاقتصادية للمغرب "البوابة الاستراتيجية للجنوب الأوروبي". في الوقت نفسه، تركز الشركات الاسبانية على تعزيز مواقعها في السوق المغربية حيث باتت تنافس بحدة نظيراتها الفرنسية. وتجدر الاشارة الى أن الاتفاق المتعلق بتحويل ديون المغرب الى اسبانيا قد دخل حين التنفيذ. ثقل التاريخ وأسنان المنشار عاطفية، تنازعية وثيقة: على أية حال، لم تكن العلاقات - الاسبانية - المغربية سهلة في يوم من الأيام. لقد تركت قرون عدة من الحروب التي تخللتها فترات من الهدوء والاسترخاء، من دون ان تطفئ مكامن التأزم، سماتها على أحاسيس الشعوب والطبقات الحاكمة على ضفتي مضيق جبل طارق. ولم تكن الحجج وحالات سوء التفاهم بين الطرفين من العوامل البناءة التي ساهمت في إرساء التفاهم الثنائي المتفاوت بين السيئ والحسن. فخلال العقد المنصرم، بدلت اسبانيا كلياً أسلوب تعاطيها مع الملف المغربي. وتلخصت السياسة الحالية "للمونكلوا" - أي رئاسة الوزراء - بمحاولة اختراق كل قطاع من قطاعات ومراكز القرار وآليات البلد الجار. بمعنى آخر ركزت الاستراتيجية الجديدة لإسبانيا، العضو في الاتحاد الأوروبي على مجالات الاقتصاد، والمال، والقضاء والجيش والدرك وأجهزة الشرطة والجامعات والادارة والمجتمع المدني في المغرب. وتمكنت بالتالي من نسج علاقات مهمة ومثمرة مع كل مجال وقطاع من القطاعات المذكورة. فالهدف من وراء هذا التوجه المعقد، نسج علاقات طيبة في العمق بين البلدين، تجعل من بروز أزمات حادة وطويلة الأمد مسألة صعبة بل مستحيلة الحدوث. وفي حال وقوعها، تكون اسبانيا قادرة على استيعابها ووأدها في المهد عبر الجسور الثابتة التي أقامتها. ويؤكد أحد مهندسي الديبلوماسية الاسبانية بالقول: "إن الطريقة الوحيدة لتلافي انفجار مشكلة سبتة ومليلة تكمن في أرشفة - نسبة لأرشف - هذا النزاع القانوني والعمل على تنمية جملة من العلاقات المصلحية التي تربط أيدينا كإسبان ومغاربة حتى لا يفلت أحدنا ونصل الى ما لا تحمد عقباه". في هذا الإطار يمكن القول إن تطبيق هذه السياسة قد نجح حتى العام 1997، وبدأت بالفعل تعطي ثمارها. لكن يبدو أن قطاعات مهمة وأساسية في تركيبة السلطة داخل البلدين أدركت ابعاد هذا "الفخ" المنصوب لها والذي يؤثر على امتيازاتها مع الوقت، وعملت بالتالي على الابتعاد عنه. فالبرود الحاصل اليوم، على رغم المحاولات الجادة التي تقوم بها أطراف اسبانية ومغربية نافذة، ناجم عن هذا الابتعاد التدريبي عن الخطط المرسومة. فمشكلة الصيد البحري، وملفات الحمضيات والمياه الاقليمية والمهاجرين ليست سوى ذرائع. ويشير المحللون السياسيون المهتمون بأبعاد هذه العلاقة الى ان اساس تردد المغاربة حيال هذه السياسة الجديدة يتلخص في كون الرباط تشعر أنها قد بدأت تخسر ورقة مهمة على مستوى سياستها الخارجية. في المقابل، تخشى بعض مجموعات الضغط الاسبانية البارزة من ان تكون حكومتها أعطت أولوية مطلقة للجار الجنوبي على حساب مصالحها وامتيازاتها. لكن المحيطين برئيس الوزراء أثنار يعزون هذا البرود لاستعادة اللوبي الفرنسي لقوته وتأثيره على دوائر القرار في المملكة المغربية. مع ذلك، يبقى هذا التشخيص في حد ذاته مجرد تقدير سطحي للموضوع اذ ان السؤال الأساسي المطروح اليوم يتلخص في معرفة من هو الطرف الذي يمسك بزمام المبادرة في الحقل الديبلوماسي. ويرى الخبراء في هذا الشأن أن المبادرة على صعيد العلاقات بين المغرب واسبانيا، وتحديداً منذ تولي الأسرة العلوية العرش كانت على الدوام بيد المغاربة. لذلك فمن المنطق ألا تتخلى عن هذه الورقة الرابحة بأي شكل. من جهتها، ورثت اسبانيا - التي لم تعرف كيف يمكن ان تتخلص من هذا الإرث الثقيل - تفكير امبراطورية "الهابسبورغ" ذلك ان شارل كونيت وفيليب الثاني، كانا يعتقدان ان اسبانيا، قلعة المسيحية، الذي يفصلها عن العالم الاسلامي البحر الأبيض المتوسط، يجب ان تتحول مع الوقت لحفرة من القطيعة. فمدن سبتة ومليلة ووهران التي خسرتها الأمبراطورية في العام 1791، تلعب دور رؤوس الجسور المعززة المتقدمة لاعاقة زحف الخطر الاسلامي. هذا الشعور لا يزال مع الأسف موجوداً لدى الكثير من القوى السياسية الاسبانية. انطلاقاً مما سبق يمكن القول إن اسبانيا كانت على مر التاريخ ولا تزال في موقع الدفاع. فأولى الخطوات التي انتهجها العرش العلوي في علاقاته مع اسبانيا بنيت على المواجهة. لقد وضع السلطان مولاي اسماعيل "الأسس الصلبة لحكمه الذي استمر55 سنة والتي تخللها حصار سبتة طوال ثلاثة عقود ومدة لا تقل عن ذلك في حصار مليلة. كان لا بد من انتظار العام 1767 حتى يوقع السلطان محمد عبدالله معاهدة "التجارة والسلام" مع ملك اسبانيا شارل الثالث. بعدها بثلاثين عاماً، وقَّع شارل الرابع ومولاي سليمان المعاهدة الكبرى التي عرفت ب"معاهدة السلام والصداقة والتجارة والصيد والملاحة". أخطاء التقدير والفرص الضائعة على مر التاريخ، تركت اخطاء التقدير السياسي انعكاساتها السلبية على صعيد العلاقات الثنائية. ولا تزال هذه الأخطاء تسحب نفسها حتى الآن. فهي عموماً من نتاج عدم معرفة حقيقة الآخر وجهل عالمه الديني ومحيطه الفلسفي وأيضاً واقعه الثقافي والاجتماعي. يضاف الى ذلك في معظم الأحيان الاحتقار ورفض الآخر. وخير مثال على ذلك، الطريقة الاستخفافية المتبعة حيال المهجرين المغاربة من قبل اسبانيا في وقتٍ يرفض المغرب تحمل أية مسؤولية في ما يجري. ومن الشواهد التاريخية على هذا الجهل وسوء التقدير السياسي، دخول القوات الاسبانية خلال فترة الاستعمار الى عدد من المدن المقدسة، المحظور دخولها على المسيحيين منذ القدم. لقد كان هذا الدخول بمثابة الخطأ المميت الذي كانت له آثار رهيبة على علاقات حسن الجوار. فهذا الخطأ سرع بحرب "الريف" الشهيرة وبانتفاضة محمد بن عبدالكريم ضد المحتل الاسباني. فالفكر التوسعي الاسباني المترافق مع سوء المعاملة التي تعرضت لها القبائل الريفية دفعت الجميع للثورة. ففي الخامس عشر من تشرين الثاني نوفمبر 1924، عادت المدن المقدسة الى أحضان المغرب. غداة هذه الهزيمة، دخل رجال عبدالكريم هذه المدن حفاة خاشعين. "فكان بنتيجة ذلك ان انضمت المنطقة بأسرها الى ثوار الريف. على أية حال، ان أخطاء اسبانيا المتكررة في المغرب على مدى الأزمنة ليست نتاج النيات السيئة ولا الحسابات المتعجرفة، لكنها وليدة الجهل التام ورفض الاعتراف بالاختلاف عن الآخر. الا انه على رغم هذه الأخطاء المتتالية، تمكن المغرب واسبانيا من تحقيق نجاحات وصفها المؤرخون بالتاريخية، علماً انهما لم يعرفا كيف يستفيدا منها. فنظام الجنرال "فرانكو" لم يقبل أبداً الاطاحة بالسلطان محمد الخامس من قبل فرنسا وتنصيب ابن عمه محمد بن عرفة. كما استمرت اسبانيا فرانكو بتجاهل هذا الأخير. وقامت في المقابل طوال سنوات حكمه للمغرب بمساندة محمد الخامس والمقاومين في جيش التحرير المغربي الذين تلقوا المال والسلاح من قبل الاسبان. الأكثر من ذلك، انه عند توقيع المعاهدة التي تنص على انهاء الانتداب الفرنسي، في الثاني من آذار 1956، دعا فرانكو الملك محمد الخامس وولي عهده الحسن الثاني الى مدريد. بعدها بشهر واحد، تخلت اسبانيا للعرش العلوي عن منطقة الشمال التي كانت تحت حمايتها. فإذا كتب النجاح للتوجه السياسي الذي يستهدف بناء علاقات وثيقة بين الجارين، بحسب ما أرادت الأطراف المعنية، فإن اسبانيا والمغرب سيتمكنا عندئذٍ من خلق مجال جفرا - سياسي متناسق وقوي. لكن اذا فشلت هذه المحاولة، فإن حال "اسنان المنشار" على صعيد العلاقات الثنائية ستستمر في فرض مناخاتها المتذبذبة صعوداً وهبوطاً مع كل طلعة شمس. في المقابل، وعلى الصعيد الاقتصادي والتجاري، وصلت هذه الأخيرة الى مستويات لم تشهدها من قبل. وتعتبر اسبانيا اليوم، المستثمر والزبون والمورد الثاني للمغرب. اذ وصل حجم المبادلات الى ما يقارب ال25 بليون درهم الدولار يساوي 90.10 درهم تقريباً، في وقتٍ تموضعت أكثر من 800 شركة اسبانية في هذا البلد ووزعت نشاطاتها على القطاعات كافة. من ناحية اخرى، تفيد المعلومات ان العلاقات التي تربط بين وزارتي الداخلية بين البلدين هي أكثر من وثيقة اذ يجتمع الوزراء دورياً واللجان المشتركة بشكل منتظم. وضمن التوجه نفسه ويقوم "الحرس المدني" الاسباني منذ فترة بتعزيز تعاونه مع الدرك الملكي المغربي الذي يعتبر من المؤسسات النافذة. أما جيشا البلدان، فيعرفان بعضهما بعضاً بشكل جيد، اذ يقومان منذ زمن بمناورات مشتركة في حين يتابع الكثير من الضباط والرتباء المغاربة دراساتهم العسكرية في الكليات الحربية الاسبانية. كما تملك مدريد 15 مركزاً تعليمياً في المغرب. هذا بينما ترسل الرباط آلاف عدة من طلابها الجامعيين سنوياً لمتابعة تخصصهم في اسبانيا. وعلى صعيد العمل السياسي، يرتبط "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الذي يقود التحالف الحكومي الحالي بعلاقات وطيدة مع نظيره الحزب الاشتراكي الاسباني، القوة الثانية في البلاد، يقابله تنامٍ في العلاقات بين حزبي الاستقلال المغربي والشعبي الاسباني. بناء على ما تقدم يمكن القول ان العلاقات محكومة بالتواصل والاستمرارية أكثر منها بالخلافات والتأزم والقطيعة. إن ما يجمع بين البلدين الجارين أكثر مما يفرق على رغم احتلال سبتة ومليلة والدور الاسباني "غير النظيف" في مشكلة الصحراء الغربية. لذا، فإن التصعيد الاعلامي القائم واستنهاض حالات الشعور الوطني والقومي في فترات محددة لا يمكن ان يحد من تنامي العلاقات المبنية على المصالح أولاً وحسن الجوار ثانياً. فالمزايدات الحاصلة اليوم لا يمكن ادراجها الا في خانة دخول الاطراف المعنية في مرحلة الانتخابات التشريعية.