المتابع للأحداث الساخنة والملتهبة في الوطن العربي سيلحظ أن فئة الشباب هي التي تقود زمام الأحداث والتغيرات , وهذه الرمزية لها خطورتها وأبعادها العميقة لقارئ هذه الأحداث ومحللها . إن النظم المتهاوية والهشة هي نظم لا تراعي ظروف هذا الزمن ولا جدلية هذا العصر الذي يعج بالتقنيات الدقيقة وسبل الاتصال المكثفة , وجاءت فئة الشباب العربي لتمثل الجانب الضليع بهذه الوسائل , فلم يوفر شباب شمال إفريقيا وسيلة إلا واتخذوها لاستغلال هذه الوسائط التقنية وتوظيفها في قضية يؤمنون بها ويعضون على مبادئها بالنواجذ والأسنان . الواضح أن النظم التي هوت وتقادمت أو تلك التي تكافح الآن للصمود كما يحصل في ليبيا هي نظم لا تتوافق مع تطلعات الشباب العربي الذين يشكلون نسبة عظمى من شريحة السكان , ومع ازدياد فجوة عدم التفاهم المتبادل بين تلك السلطات المتجمدة وبين السكان الآخذين بالازدياد وبالطبع جلهم من الشبان فإن النتيجة المتوقعة هي قيام الصدام . علينا أن لا نظن بأن أسباب التمرد والسخط والاحتجاج هي فقط أسباب اقتصادية كما يتوهم البعض , فصحيح أن الإنسان كائن اقتصادي كما يقول أتباع المدارس الاقتصادية , تلك المدارس التي ترى تحكم عنصر الاقتصاد في حياة الإنسان وإفرازه لكافة التغيرات التاريخية التي تطرأ عليه , غير أن كثيرا من المدارس والاتجاهات في العلوم الإنسانية حذرت من سيطرة النظرة « الواحدة « على الإنسان وبدل ذلك فلتكن « نظرات « و « احتمالات « تضع في حسبانها كافة العناصر أكانت اقتصادية أم روحية أم أنثروبولوجية أم اجتماعية , وإذا ما قاربنا هذه النظرية التعددية مع واقع الثورات الشمال إفريقية لوجدنا أن السبب الاجتماعي المتجسد بمسمى ثورة « الشباب « له أهميته الكبرى التي لا تقل – إن لم تتجاوز – الشأن الاقتصادي ! فلو أن الشأن الاقتصادي لوحده هو المهم لوجدنا كافة الشرائح في تلك الدول تتمرد وتثور ولكن كثيرا من أبناء تلك الشعوب كانوا أقرب للاستكانة والمهادنة لأن بعضهم من أبناء الجيل القديم أو الجيل الذي استمرأ الركود والإيمان بالبيانات السياسية الرسمية والاستئناس بالرؤى الشائعة والتقليدية , غير أن مرحلة الشباب السنية بما تحمله من هرمونات نمو متفجرة وطاقات مهولة واندفاع محموم وحماسة نحو التغيير قادت إلى تجسيد أحلام الشباب بالانقلاب على أوضاعهم الحالية ثم قيادة شعب كامل بكافة شرائحه إلى إحداث الثورة السلمية وهذا ما كان يعتبره كثيرون – ومن ضمنهم أبناء الأعمار المتقدمة – ضربا من الهذيان والهلوسة , ولكن ماكان هلوسة أضحى نوعا من المنطقية في التفكير . والمعروف أن شريحة الشباب كانت دائما متهمة بالاستلقاء في مقاهي الانترنت وعدم فاعلية هذه الشريحة ولاجدواها , كذلك إصابة هذه الشريحة بأمراض اجتماعية واقتصادية مزمنة كالبطالة وارتكاب الجرائم وربما اتهامهم في عقولهم أو ولاءاتهم لأوطانهم , إلا أن ما وقع مؤخرا في الشمال الإفريقي يفترض به أن يغير مثل هذه النظرة القاصرة والبدائية نحو الشباب وأن يضع النقاط على الحروف ويكشف للجميع مدى تهافت هذه التعميمات وأنها ناتجة عن إكليشيهات وقوالب متوارثة من الأجيال , هذه الكليشيهات يرثها الناس كما يرثرون ألوان بشرتهم , فيكون قدرا مكتوبا عليهم أن يؤمنوا بآراء عفى عليها الزمن ونبذها نبذ النواة , ومع هذا نلفي كثيرا من هؤلاء المقلدين والمرددين لعبارات الغير لا يزال يتمسك بهذه الرؤية المبتذلة عن الشباب . وإذا كان الفيسبوك مثلا هو منجم الثورات في شمال إفريقيا فإنه بالأصل تمت صناعته من قبل شاب أمريكي صغير في السن واستخدمه شبان أمريكان أيضا ثم نشره شبان اخرون من كافة الجنسيات وأخيرا جعلت منه الشبيبة العربية عرينا لها تجتمع فيه وثكنة سلمية يتطارحون فيها الأقوال ويعرضون فيها الأعمال , ومثل هذه السلوكيات لا تنبع عن فئة جاهلة أو وضيعة وإنما إن دلت على شيء فستدل على عمق الوعي عند هذه الفئة التي غيرت أوطانا بكاملها . إن الشباب يعود دائما , فهذه سنة طبيعية وكونية تضطرد عبر الزمان , ولكن الشباب الذي يعود لا يكرر معه نفس الوجوه وهذا ما يحزن البعض , فمن حسن الحظ أن الإنسان يعيش شبابه لمرة واحدة ويترك المجال لغيره كي يعيش شبابه هو الآخر , ولكن الحمق – كل الحمق ! – إن ظن إنسان ما , أنه سيعيش شبابه مضافا لشباب غيره . [email protected]