أمير تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج بالمنطقة    نائب أمير منطقة مكة رئيس اللجنة الدائمة للحج والعمرة    صراع القاع يشتعل في غياب الكبار    الأمير سعود بن نهار يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    محافظ سراة عبيدة يرعى حفل تكريم الطلاب والطالبات المتفوقين    صخرة "وادي لجب".. تكوين صخري يروي أسرار الطبيعة بمنطقة جازان    خسارة يانصر    واشنطن تبرر الحصار الإسرائيلي وتغض الطرف عن انهيار غزة    أوكرانيا وأمريكا تقتربان من اتفاقية إستراتيجية للمعادن    أمير جازان يستقبل القنصل العام لجمهورية إثيوبيا بجدة    حينما يكون حاضرنا هو المستقبل في ضوء إنجازات رؤية 2030    الرئيس اللبناني يؤكد سيطرة الجيش على معظم جنوب لبنان و«تنظيفه»    جاهزية خطة إرشاد حافلات حجاج الخارج    القبض على (12) يمنياً في عسير لتهريبهم (200) كجم "قات"    المملكة: نرحب بتوقيع إعلان المبادئ بين حكومتي الكونغو ورواندا    وزير الخارجية يستقبل نظيره الأردني ويستعرضان العلاقات وسبل تنميتها    المتحدث الأمني بوزارة الداخلية يؤكد دور الإعلام الرقمي في تعزيز الوعي والتوعية الأمنية    ميرينو: سنفوز على باريس سان جيرمان في ملعبه    بمشاركة أكثر من 46 متسابقاً ومتسابقة .. ختام بطولة المملكة للتجديف الساحلي الشاطئي السريع    بيئة عسير تنظم مسابقة صفر كربون ضمن فعاليات أسبوع البيئة    رؤى مصطفى تسرد تجربتها الصحفية المميزة في حوار الشريك الأدبي    وزير الخارجية يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير خارجية الأردن    رسمياً نادي نيوم بطلًا لدوري يلو    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل مدير عام فرع وزارة الموارد البشرية مدير عام السجون بالمملكة    انطلاقة المعرض الهندسي الثالث للشراكة والتنمية في جامعة حائل    تدشين الهوية الجديدة لعيادة الأطفال لذوي الاحتياجات الخاصة وأطفال التوحد    "مبادرة طريق مكة" تنطلق رحلتها الأولى من كراتشي    أمانة القصيم تحقق التميز في كفاءة الطاقة لثلاثة أعوام متتالية    نائب أمير حائل يزور فعالية "أساريد" في قصر القشلة التاريخي    آل جابر يزور ويشيد بجهود جمعيه "سلام"    العمليات العقلية    انخفاض أسعار الذهب بنحو واحد بالمئة    في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. إنتر المتراجع ضيفًا على برشلونة المتوهج    نائب أمير مكة يطلع على التقرير السنوي لمحافظة الطائف    11.3 مليار ريال استهلاك.. والأطعمة تتصدر    خلال لقائه مع أعضاء مجلس اللوردات.. الربيعة: السعودية قدمت 134 مليار دولار مساعدات ل 172 دولة حول العالم    هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع    حوار في ممرات الجامعة    هند الخطابي ورؤى الريمي.. إنجاز علمي لافت    ترامب وهارفارد والحرية الأكاديمية    تطوير التعاون الصناعي والتعديني مع الكويت    هيكل ودليل تنظيمي محدّث لوزارة الاستثمار.. مجلس الوزراء: الموافقة على تعديل نظام رسوم الأراضي البيضاء    "الشورى" يطالب "التلفزيون" بتطوير المحتوى    محمد بن ناصر يزف 8705 خريجين في جامعة جازان    أمير الشرقية يستقبل السفير البريطاني    مدرب كاواساكي: لم نستعد جيداً    "هيئة العناية بالحرمين": (243) بابًا للمسجد الحرام منها (5) أبواب رئيسة    مسؤولو الجامعة الإسلامية بالمالديف: المملكة قدمت نموذجاً راسخاً في دعم التعليم والدعوة    بدء المسح الصحي العالمي 2025    "الداخلية" تحتفي باليوم العالمي للصحة المهنية    مستشفى الملك خالد بالخرج يدشن عيادة جراحة السمنة    فريق فعاليات المجتمع التطوعي ينظم فعالية بعنوان"المسؤولية الإجتماعية للأسرة في تعزيز الحماية الفكرية للأبناء"    إيلون ماسك يقلق الأطباء بتفوق الروبوتات    أسباب الشعور بالرمل في العين    اختبار للعين يكشف انفصام الشخصية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل محافظ الطائف ويطلع على عددًا من التقارير    تنوع جغرافي وفرص بيئية واعدة    أمير منطقة جازان يرعى حفل تخريج الدفعة ال20 من طلبة جامعة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام خاتمية في طهران العام 2000 : حينما صار المجتمع الإيراني رأياً عاماً: الشبيبة والنساء 4
نشر في الحياة يوم 23 - 03 - 2000

تبقى قصة الحركة الديموقراطية الايرانية. جذورها تعود الى فترة ما بعد الحرب والى التغييرات الاجتماعية التي حصلت على خلفية التنافس بين "التكنوقراط" والمحافظين بعدما كان رفسنجاني، بالتحالف مع المحافظين، ابعد اليسار الديني من المجلس الرابع.
فالحدث الاساسي الذي نضج بداية التسعينات هو تمركز البنية الجامعية كنتيجة مركبة لآليات مختلفة اطلقتها او عايشتها الثورة، ومنها محو الامية والتحديث المديني وانتهاء الحرب وضرورات إعادة الإعمار، وكل ذلك في فترة تكلس الفكر السياسي الديني واحتكاره من فريق في السلطة ومحاولة تحويله إيديولوجيا دولة. وفيما بقيت "الثقافة والإرشاد" حكراً على المحافظين ونُفِيَ خاتمي الى المكتبة الوطنية، تخصص "تكنوقراط" رفسنجاني في الاقتصاد والجامعات واعيد فتح ما يسمى "الجامعات الحرة".
فقبل 1979، خرّجت الجامعات الايرانية اربعمئة الف طالب، ومنذ 1979 خرّجت اربعة ملايين واربعمئة الف طالب، 80 في المئة منهم تخرجوا في التسعينات، إذ بقيت الجامعة موضع نقاش خلال سنوات طويلة فلم تخرج عدداً مماثلاً لعدد طلاب 1978 الا عام 1986.
في هذا المجال المميز، بني المجتمع المضاد أولاً كحركة ثقافية وثانياً كحركة رفضية. وفي هذه الفسحة المتجانسة، تلاقى جيلان، جيل الطبقات الوسطى الذي كان هاجر مع الحرب تدريجاً بعد تحرير خورمشهر، وجيل البيئة التقليدية العائد من الحرب ليتحول الى طبقات وسطى. وفي هذه البيئة الخاصة، كما يقول شمس الواعظين، "تغيرت الانماط والسلوكيات والنماذج لدرجة انه تغير الcaractڈre كما يقول الفرنسيون". وهذه الحركة الثقافية الاجتماعية ولّدت ثورة اخرى داخل البنى العائلية قوامها مصالحة الاجيال بعد عقد على تناحرها ولم تنته آثارها بعد، فيما تشكل الانتخابات الايرانية، كل مرة، مناسبة لتعميقها. باختصار، وعلى قاعدة انحسار رقعة النظام ورفض نموذج الإملاء خصوصاً بعد تضحيات الحرب، تشكل مجتمع عريض يجوز تسميته ب"الرأي العام". وقد زادت من طابعه الاخير ظاهرة الصحافة والنشر بشكل عام، إذ يصدر الآن في إيران اكثر من الف جريدة ومجلة وواقع الصحافة الحرة في إيران يذكّرك كل يوم بفضيحتي الترخيص والامتياز مثلاً في بلد يدعي التنور مثل لبنان، حيث الرخصة تمنحها الدولة والامتياز يتاجر به القطاع الخاص.
ففي إيران، على سبيل المثال، تقفل جريدة "جامعة" وفي اليوم التالي تفتح جريدة "توس"، وتقفل "توس" وفي اليوم التالي تفتح "عصر آزدكان" مع الفريق نفسه من المحررين، فيما الدعاوى القضائية تتابع مجراها. وفي برنامج "جبهة مشاركت" تعديلات اساسية لمنع التعسف في اقفال الجرائد ولتحديد ماهية الجريمة السياسية الخ... وهناك من يستطيع شراء جريدة ومن يستطيع شراء جريدتين او ثلاث، اما من لا يستطيع شيئاً فيبقى طول النهار مسمّراً امام الكشك ليقرأ كل الجرائد!
وعلى خلفية الرأي العام المستقل والصحافة الحرة، تبلورت مطالب المجتمع "غير المنظم" والذي لعب دوراً منظماً في الاستحقاقات الانتخابية الاخيرة على الشكل التالي: أولاً، دولة قانون - وهذا ما وعد به خاتمي. وفي القاموس الايراني هذا يعني عدم اعتبار الناس قاصرين وحمايتهم من الاعتباطية. وثانياً، توفير مجال عام متحرر من احتكار السلطة ومن تحويلها الى ايديولوجيا - وهذه مهمة حقق حتى الآن المجتمع بنفسه الجزء الاكبر منها.
"أوتوسترادات" الشباب
كلما تسنت لي الفرصة، قصدت كافيتيريا "هُتِل ]فندق[ نادري". وكانت لهذا الفندق أيام مجيدة في الثلاثينات والاربعينات، وهو يقع وسط المدينة قرب ساحة اسطنبول. يقصده الشبان اليوم بسبب موقعه ولشرب القهوة التركية الحلوة ولأكل "الكاتو" او لشرب البيرة الخالية من الكحول. كما يقصد مطبخ مطعمه بعض العائلات لأنه يقدم اطباقا غربية بيتية بسعر معتدل. وابتداء من العاشرة صباحاً ولغاية السادسة او السابعة مساء، يجتاح الشبان والشابات هذا المقهى، وهم مفعمون بالحيوية والنشاط والدخان والنقاشات التي تعيد بناء العالم او على الأقل... حياتهم الخاصة.
كنت اجري كل يوم نقاشات مع هؤلاء الشبان أعمارهم تتراوح بين ال15 وال 25 سنة يصعب تلخيصها بدقة بسبب تشتت المواضيع المثارة وصعوبة التواصل السهل بالانكليزية. بادىء ذي بدء، ما يصدمك هو قوة الرفض للنموذج، للموانع التي يفرضها عليهم والمطالبة برفعها. هناك تأكيد على كلمة الخيار الفردي وعلى "اتركونا نعيش كما نريد". كلمة "الاحترام" تعود دوريّاً. نزعة الاكثرية منهم، ككل شبان العالم، هي التشكيك بالسياسة إن بجدواها او باخلاقياتها. يقدرون خاتمي ويضيفون "فقط" ويضيفون ان "عليه ان يسرّع خطاه". هناك رفض عارم للايديولوجيات، ويوجد في صفوفهم اقلية ملتزمة ومشاركة في التنظيمات الطلابية ومهتمة بمعرفة ماذا يحدث في العالم. نموذج الديموقراطية هو النموذج الغربي "كما هي في الغرب" وهناك اهتمام كبير بما يحدث "هناك"، والمداخلة تبدأ مرات عدة: كالآتي "قريبي الذي يعيش في الولايات المتحدة او في كاليفورنيا او في المانيا قال لي...". الموضة همّ حقيقي، وفي وسع المراقب تحديد موضة شبابية لها معالمها، وضمن هذه المعالم يحاول كل فرد ان يتميز بإضافة خاصة. تسريحة الشعر موضوع بحد ذاته طوله عند الشباب: في الأمس، الشعر الطويل كان يثير مشاكل، اليوم الشعر القصير، "فليعتمدوا!"" عدد الخصلات التي تبرزها البنات وبشكل عام اهتمامها بشكلها الخارجي. أقلية تحمل جهازاً خليوياً وهو شائع نسبياً ويبدو انه آلة تساهم في "الفردية" التي يبحثون عنها. هناك اهتمام بالانترنت لكن الاهتمام عارم بالموسيقى المحلية والعالمية. ومن الاسماء التي ذكروها، اذكر اسم المغني خاشايار إعتمادي، ومن الاسماء التي سألوني إذا كنت اعرفها فرقة Jethro Tull. يتهكمون على الاذاعة والتلفزيون الرسميين، وكلهم يقولون انهم يشاهدون برامج الاقمار الاصطناعية او افلام ال÷يديو في البيت. مقالات إبراهيم نبوي تضحكهم وهو "من القلائل الذين يفهموننا". يعرفون اعمال الكاريكاتوريين آر÷ين وكوسر هم متضامنون مع هذا الاخير لأنه اعتقل بعد ان رسم دموع تمساح مما اعتبر اهانة لمصباح - على وزن تمساح- يزدي. قيم الجيل القديم الثورة، الماركسية... يعتبرونها "بالية". يهتمون بكرة القدم البنات ايضاً. يمارسون رياضات بدنية في النوادي البنات ايضاً. يطالبون بالحاح بعلاقات "طبيعية" بين الجنسين. يرددون باستمرار والارجح للمحاور الاجنبي ان وجودهم على نفس الطاولة "غير شرعي" ويستفزونك قائلين ان "وجودك معنا الآن غير شرعي أيضاً". يقولون انهم يتعرفون على بعضهم البعض "احياناً على الاوتوسترادات". وهذا واقع الحال بسبب قلة فرص الالتقاء: بعد نظرة سريعة وعمليات تقارب سيّارة، يقفون على جانب الطريق ويتبادلون أرقام الهواتف. أين يذهبون؟ "الى المتاحف والحدائق العامة" ويصعب العيش في طهران بسبب التلوث لولا الجبال المحيطة والحدائق العامة. أجمل ما رأيته في هذه الحدائق: ناس يجتمعون حول طاولة شطرنج وآباء في العقد الخامس من عمرهم يلعبون مباراة كرة الطائرة ويتحمسون كالمراهقين. عودة الى المراهقين. يقولون ان "اهلهم يتفهمونهم ولا يفهمونهم".
لم يتكلموا معي تلقائياً عن الدين واشك انهم يتكلمون عنه في ما بينهم. لكني اصررت: أقلية صغيرة استعملت مفاهيم ماركسية لنقد الدين "وسيلة لتخدير الناس"، اقلية صغيرة انتقدت الدين "إذا كان هو هذا المطبق حالياً"، أقلية صغيرة قالت "ان الدين بريء من هذه التصرفات"، قسم منهم قال "إن الأخلاق اهم من الدين"، وقسم قال "ان ما يرونه من الدين هو موانع وحذر وعنف". قسم قال "ان الدين لا علاقة له بطموحات العصر ويجب تغييره او تطويره لكي يصبح متطابقاً". اكثرية قالت انها لا تذهب الى الجوامع "الا في مناسبات اجتماعية، مرة او مرتين في السنة". قسم قال إنه "لا يصلي" وقسم قال انه "يصلي على طريقته الخاصة". قسم قال "ان حسم نقاط في الامتحانات لن يجلب للدين مؤمنين". قسم قال "ان المناسبات الدينية هي وسيلة لتوسيع المعارف الإجتماعية".اكثرية قالت "ان الدين يخدم مصالح البعض"، بشبه إجماع تكلموا "ضد دين الدولة" واستعملوا كلمات غريبة مثل رفضهم "صيام الدولة" او "عاشوراء الدولة". القسم الاكبر قال انه "يعرف كيف يمارس دينه" وانها "قضية خاصة بيني وبين الله". اكثرية كبيرة طالبت ب"دين منفتح على طموحاتهم وعلى الحياة، دين فرح وحديث". صورة رجال الدين مشوهة كثيراً، وعدد لا بأس به من الشبان ذكر "دكتور سروش" بالإسم ك"مصدر إلهام لكيفية ممارسة الدين"، او ك"نموذج للتحديث"، او ك"مثل حي لشخص لا يستعمل الدين لمصالح خاصة او سلطوية".
من العام الى الخاص وبالعكس
يلخص مرتضى مرديها مطالب الشبان ب"إثنين اساسيين وغير متناقضين مع مطالب المجتمع العامة: أولاً، مجالات حرية أوسع على المستوى الثقافي، وكلمة ثقافي تتخطى السياسي بحيث تشمل أنماط حياة خاصة مختلفة. ثانياً، علاقة مختلفة مع الخارج فيها من التنوع والانفتاح ما يضمن في الوقت ذاته إنهاء العزلة الدولية وتقديم صورة مختلفة عن إيران". ويستعمل رضا وحيد تقريباً نفس العبارات عندما يتكلم عن "تطبيع العلاقات مع كل دول العالم لأن إيران حضارة قديمة وثقافة عريقة لا يجوز اختصارها بهذه الصورة البشعة"، وهذا تقريباً ما يقوله لك كل الإيرانيين مباشرة او مداورة.
إذا كان صحيحاً ان العقد الأول من الثورة مثل انتفاضة الابناء على الآباء وخروجهم الى المجال العام، فالعقد الثاني أدى الى إنزواء الشبان في المجال الخاص بإستثناء الجامعات وإعادة بنائه كنموذج نقيض للمجال العام، مما أثار أحياناً بعض الحدة داخل العائلات نفسها. ويؤكد عدد من المراقبين ان احد معاني شعبية خاتمي لدى الشبان هو "هذا العقد الضمني معهم بأنه حام لمجالهم الخاص".
فبعد انتخاب خاتمي، وبالرغم من هزّات موسميّة، اخذ ميزان القوى يتغيّر رويداً رويداً في المجال العام: صارت الاعتقالات تقل عدداً وسُحبت إدارياً المخالفات من ايدي "الباسيج" لمصلحة الشرطة التي هي اكثر تفهماً، وتقوننت المخالفات ب"محاضر ضبط" تحل محل الإهانات والإذلالات. هذا من جهة السلطة، ولم يكن ليحدث ذلك لولا الثقة بالنفس التي أخذ يستعيدها الشبان مع تغيير ميزان القوى المجتمعي. اليوم، غدا اصعب بكثير ان يُسأل شاب ما إذا كانت الفتاة التي تواكبه قريبته ام صديقته، خصوصاً في عزّ النهار، حيث اكثرية المجتمع كفيلة بردع السائل. قد يحدث ذلك احياناً في الليل بواسطة حواجز غير ثابتة تفتش السيّارات وفي وضع يكون فيه السائلون هم الاكثرية.
وانكباب جزء من الشبان على العمل العام في السنوات الأخيرة ساهم بدوره في إعادة مدّ جسور بين المجالين الخاص والعام، مع ان الخاص يبقى المجال المميز للشاب الايراني. لكننا صادفنا على سبيل المثال فِرقاً من الشبان والشابات في ساعات متقدمة من الليل تعلق صوراً للمرشحين. وتركز الصحافية وعالمة الاجتماع فرنجيز حبيبي على "إنعدام الأفق والحالة النفسية القلقة عند الشبان الإيراني: ليس بسيطاً ان يجد الشاب طريقه بين الخوف والتحدي، لذلك تراه يتأرجح بين الحماس والإحباط، بين الإنفتاح والإنغلاق... وهنا تكمن مسؤولية الاحزاب الاصلاحية لأن هذه الطفرة لن تدوم. انا شخصياً سمعت البارحة يوم الانتخابات أعداداً ليست قليلة من الشبان تقول انها تقترع للمرة الأخيرة إذا بقيت الأشياء كما هي".
ويرى الباحث الاكاديمي فرهاد خسرخاور ان "الجيل الجديد يختلف عن سابقه الذي كان حصيلة نظام الشاه والتحديث الخارجي فيما تتحدد هوية الجيل الحالي بموقفه من النظام التربوي وبالموانع التي تترتب عنه. تسييسه سلبي بمعنى انه ضد اي هيمنة، ويحدد طموحاته بأن يعيش حياته كفرد خارج النظام الاخلاقي السائد، وبأن يكون فرداً حرّاً ومستقلاً على الصعيد السياسي. على المستوى المجتمعي، أزمة الشبيبة تتلخص في إيجاد الطريق بين الممنوع والمسموح: هناك فئة تضخّم الممنوع، وهناك فئة تلغيه تقريباً". ويقول الفرنسي إريك َوتيل الذي يحضّر اطروحة عن الشبيبة الإيرانية "إن وضع الشبيبة الحالي غير مستقر حتى اللحظة، فقد تفتت نموذج الشباب الثوري وتبلورت القطيعة مع التقليد المحافظ، لكن الفردية الجديدة ما زالت تبحث عن معالمها: تتشكل مجموعات جديدة من الشبان على قاعدة الانتساب الإرادوي، علاقاتها مع الاهل ملتبسة: فمن جهة يعودون اليهم ليحتموا من تعديات الدولة ومن جهة اخرى تتسع الهوة. علاقتهم مع الدولة ايضاً ملتبسة إذ يهدفون الى اجبارها الى التراجع اكثر مما الى الانقلاب عليها. مطالبهم استهلاكية وترفيهية اكثر منها سياسية، وبهذا المعنى قيمهم عكس قيم الشبيبة الثورية: إنهم اكثر انفتاحاً وتسامحاً من اسلافهم، إنهم ايضاً اكثر حذراً ووسطية".
الفردية والموسيقى
يوافق الاصلاحيون الايرانيون على هذه الصورة الرفضية والفردية، ويرون فيها تأكيداً على "عمق التحديث الذي اجتاح المجتمع الايراني. فهذا النوع من الفردية هو سمة العصر". ويعتقدون ان التغييرات التي ستدخل حتماً على المجال العام ستؤدي الى مصالحة الخاص مع العام مجدداً، لا بل الى نقل قيم هي بعد حكر على الخاص تدريجاً الى العام، ويستشهدون بالموسيقى.
ماذا عن الموسيقى؟ لا شيء مميّزا باستثناء هذا الزحف الضاج الذي انطلق خلال هذه السنوات الأخيرة من المنازل والسيّارات الى الأماكن العامة. في الفنادق والمطاعم والمهرجانات السياسية، استعادت الموسيقى، او اخذت تستعيد، دورها المميز في الثقافة الفارسية. وفي كل هذه المناسبات، تختلط بالمناسبة الوطنية، فتنفجر الحناجر وتذرف الدموع وتنتصب الاجساد وتصفق الأيدي. وفي هذه المناسبات، يتم اللجوء الى كل ما يرافق الطرب فتذبل الأعين وتطقطق الاصابع وتتمايل السواعد وترتج الأعناق. ووراء كل هذه المظاهر خير دليل على تسلل المجال الخاص الى المجال العام. أين؟ في امكنة يجوز تسميتها ب"العلب الليلية" لولا الطابع الإستفزازي للكلمة، في مطاعم دَرْبَند حيث يأخذ المطرب المستمع حتى أبواب العشق، في المهرجانات السياسية حيث عادت الموسيقى تدشن وتقفل الإجتماع، لا بل تستعمل للإستقطاب، وفي منازل الشبان حيث يكتبون ويلحّنون ما يسمونه هم ب"الموسيقى الإيرانية الجديدة" ومن ثم يُسمعونها لبعضهم البعض او لقريبهم في المهجر.
وللقوتين الضاربتين للحركة الديوقراطية الإيرانية مزايا مختلفة ومتكاملة. فإذا كانت قاعدة الشبان الجامعات، وخصائص "حركتهم" الرفض والفردية، فقاعدة النساء غير محددة جغرافياً وخصائصها المقاومة والاستهداف. وحسب استطلاع رأي أجرته مجلة نسائية وهو مجال ناشط اعطت فيه فائزة رفسنجاني، الى جانب دورها في الرياضة النسائية، مساهمة فعالة قبل إقفال مجلة "زنان" لنشرها بطاقة معايدة من فرح ديبا بمناسبة عيد رأس السنة!، لا يعارض 62 في المئة من الإيرانيين وصول امرأة الى رئاسة الجمهورية، وهناك اكثرية مطلقة مؤيدة بين الرجال. وترتفع النسبة كلما انخفضت الفئات العمرية. وفي هذا المجال طعنت وحيدة طالقاني نائب جديد في طهران وابنة آية الله محمود طالقاني إمام طهران المناضل ايام ديكتاتورية الشاه التي كانت ترشحت الى رئاسة الجمهورية، بقرار "مجلس صيانة الدستور" لأنه فسر كلمة "رجالات" بأنها تعني الرجال حصراً فيما تعني في اغلب المرات التي ترد في المراجع الدينية الكلاسيكية، الرجال والنساء معاً. والحديث عن النساء في إيران غير متجانس يتشعب في إتجاهات مختلفة حسب الأجيال. إلا أن المميز في الواقع الإيراني أن آليتين متفارقتين واحدة تعني نساء الثقافة المدينية واخرى تعني نساء البيئة التقليدية تضافرتا بإتجاه نقطة وسط.
تقول فرنجيز حبيبي: "لا مجال للتخفيف من التراجع الكبير الذي مثلته الثورة الإسلامية بالنسبة لجزء كبير من النساء يشمل الطبقات الوسطى للماضي، إن على صعيد حياتهن الاجتماعية ام على صعيد حقوقهن القانونية. ولكن في الوقت نفسه لا مجال للإستخفاف بالتقدم وباكتساب الحريّات الذي شكلته الثورة الإسلامية عينها لفئة كبيرة من بنات البيئة التقليدية، إن على صعيد الحياة الاجتماعية ام على صعيد الحقوق القانونية". ولا شك، أولاً، أن إعلان قرار فرض اللباس الشرعي في يوم معين وساعة معينة على نصف المجتمع وتعميم نماذجه على مجتمع كان تخطاه إختيارياً او بحكم المزاج السائد، ألحق وما زال يلحق تأثيرات ليست بسيطة على تلك النسوة اللواتي كبرن في إيران قبل القرار او اللواتي لم يعرفن الا الانصياع له في المجال العام. وإن كان هذا الواقع مفهوماً بالنسبة للفئة الاولى، فهو معاش بحدة اكثر بالنسبة للفئة الثانية بحكم صورة الخارج وعادات المجال الخاص المختلفة وتشابك المطلب مع نزعة الرفض الشبابي.
ولا شك ايضاً أن تأسيس المجتمع الإسلامي وقوانينه سمح بخروج مئات الآلاف من بنات ونساء البيئة التقليدية باتجاه الجامعات وسوق العمل، وانهن ما كن ليخرجن من "عزلتهن التقليدية"، وفي كل الأحوال بهذه الوتيرة، لولا هذه القوانين. فما كان مستحيلاً منذ عشرين سنة، أي إرسال البنات الى الجامعات، صار القاعدة اليوم حتى في العائلة الاكثر تعصباً. والنتيجة الوحيدة التي انتجتها محاولة المحافظين في مرحلة لاحقة، هو شدّ الأم الاكثر تقليدية الى جانب الدفاع عن حقوق إبنتها وتأثر قيم البيئة بقيم الجامعة وليس العكس.
الحية تعضّ ذيلها
هذا هو الخاص في الواقع الإيراني الذي يضغط بشدة لا انسانية على المراهقات، كما تدل بعض نسب الإنتحار وخصوصاً بإضرام النار لدى الشابات في بعض المناطق. وهذا ما ادخل الحركة النسوية كحركة مطلبية وايضاً تثقيفية حتى الى البيئات التقليدية. هنا ايضاً، انتجت "المعجزة الايرانية" وحماقة المحافظين فسحة حيادية سمحت وقد ساعد على ذلك اللباس الشرعي بعدم تفاقم الفوارق "بين تلك التي يمثل عندها الدين تقليداً إجتماعيّاً وتلك التي يمثل عندها الدين خياراً فرديّاً". ونقطة الوسط هذه هي بطبيعتها متحركة، وقد صارت في التسعينات تأخذ شكل النضال من أجل تغيير القوانين، فيما واكبت هذا التطور قراءة جديدة للفقه.
وفي المقاربة العلمانية، إذا تركنا الموقع "الأصولي" الهامشي بين العلمانيات والعاجز عن التمييز والتأقلم، فالإتجاه الأكثري ينطلق من هذا الواقع الذي جعل من النساء "اول فئة تعترض وتنتظم وتطالب"، كما توضح زيلا دجلا÷ي من موقع يجوز تصنيفه ب"البرغماتي الإصلاحي الجذري". واشكال هذه القراءات الجديدة متنوعة في المجتمع النسائي الإسلامي الاوسع والمتميز بكثرة مجلاته ومنظماته وحيويتها: ففيما يقبل الإتجاه المحافظ بعدم الاختلاط، يقايضه بنشاط مطلبي من اجل "المساواة" لأنه يرى في نظرية "التكامل" مدخلاً للإلتفاف عليها. أما الإتجاهات الإصلاحية فالتمايزات بينها تدور حول تحديد ما إذا كان التمييز الذكوري مصدره ما قبل إسلاميا او ذكوريا فقط. وفي الحالتين يطالَب بفتح باب الإجتهاد من اجل تغيير القوانين او على الاقل توحيدها حسب الصيغة الأحدث.
وفي الجيل الاصغر، تأخذ الموانع حدّة اكبر وتحتل مسألة اللباس الشرعي موقعاً مركزيّاً لانها تمثل، الى جانب موضوع العلاقات الشبابية، الترجمة العملية ل"الخيار الفردي". ومع ان المجال الخاص قد تحرر تقريباً، ومع ان البنات اخذن يتحايلن على النماذج المقوننة في المجال العام ويضغطن لتقليص الحدود يوماً بعد يوم، يبقى الموضوع حاضراً في الأحاديث الشبابية النسائية. فالأصغر سنّاً لا يجف لهن ريق في الكلام عن "اعتباطية تطبيق القوانين ولا معقوليتها" وتعزيزه بالامثلة الحيّة. وهناك إجماع على المطالبة بضرورة الوصول الى حالة "اختيارية"، مع أن أقلية تعبر من وقت الى آخر عن "خشيتها مما قد ينتج عن تحليل من حلال مطلق ومفاجىء في المجال العام".
وفي المجال الخاص، من سخرية القدر أن موضوع التخيير يعني في حالات ليست بقليلة حقوق بنات يردن ان يتحجبن ولا يفعلن ذلك خشية نزاع او من ضغط معنوي عائلي. وفي المجالات الخاصة التي دخلت اليها، لم تكن الشابات مغطيات الرؤوس، بينما بدت امهاتهن أحياناً هكذا.
تقول فاطمة وهي طالبة في الصحة العامة عمرها 23 سنة: "ذهبت الى تركيا وحافظت هناك على حجابي، ولو كان الوضع اختياريا لما لبسته في إيران". تقول ماهين وعمرها 31 سنة وهي أول صحافية إيرانية غطّت مباريات كرة قدم: "لا تستطيع ان تتصور ما هي الصعوبات التي واجهتها اول مرة للدخول الى الملعب لكني صمدت، ولكنك لا تستطيع ان تتصور ايضاً كيف كانت فرحتي عندما احتلت النساء ملعب كرة القدم بعد فوز الفريق في مونديال فرنسا. الطريف والمؤلم انه كان هناك ست كاميرات تلفزيون ولم ير المشاهد الإيراني لقطة واحدة عن هذا الحدث". وتتابع: "أنا اخترت ان اتحجب ولكن لا احد يستطيع ان يجبر صديقتي على ذلك. وإلا كيف ننتقد تركيا؟ انا اخترت ان اتحمل، وأعدك ان هذا ليس بالسهل في عز حرارة الصيف على الملعب. هذا خياري وذاك خيارها".
وتقدّر ماهين ان اكثر من نصف الايرانيات لن يلبسن شرعياً لو كان الموضوع اختيارياً اليوم، وتعترف انها "مذهولة امام عمى المسؤولين: إن الجيل الجديد متعطش لسماع افكار جديدة عن الإسلام. والإسلام كدين لا يعامل الناس كقاصرين. من اليوم فصاعداً، صار من المستحيل ان يقولوا ان شيئاً ممنوع دون ان يفسّروا اسباب المنع. انتهى عهد التسيير".
والاهتمامات تختلف قليلاً في الجيل الأكبر وتدور حول القوانين ومنها المتعلقة بمواضيع الزواج والطلاق وحفظ الأولاد واعمار المسؤولية القانونية ومسألة الديّة وغيرها، مثل موضوع الاستقرار في سوق العمل خصوصاً في فترات الانحسار الاقتصادي. وفي كل هذه الامور هناك لجان ومحاميات ونائبات وحتى رجال فقه! يتعاونون في ورشة مفتوحة، "وستبقى مفتوحة طالما هناك هذا الكم من التناقض بين القوانين الدينية نفسها، وبين هذه القوانين والقوانين التي اجبرت على سنّها الجمهورية الإسلامية، ناهيك عن القوانين الدولية" تقول المحامية هوما 45 سنة. ويمازحها مراد ثقافي، مدير مجلة "غوفتوغو" الفصلية: "في الجيل المقبل، حلفاء النساء هم نحن آباء اليوم... بعد تخلي ازواج المستقبل عن حقوق بناتنا".
تقول مريم 55 عاماً استاذة علم نفس في جامعة طهران، وهي تدعونا الى الدخول الى قاعة العشاء: "عيون الإيرانيات كنز لا يفنى، فيها كل التلوينات: من اليأس الى المغامرة مروراً بالحزن والإطمئنان والفرح والمرح... قضية المرأة في إيران قصة أجيال: الاصغر سنّاً تريد الحرية والاكبر سنّاً تطالب بالمساواة، وكلنا نريد الإحترام. خطفوا لي عشرين سنة من حياتي، لابأس. المهم اننا على الطريق الصحيح، المهم ان كل يوم يزداد عدد النساء والرجال ايضاً اللواتي يعرفن ان النبي لو عاد لما قبل بهذا الواقع وبهذا الإذلال". وكأنها أرادت فجأة ان تغيّر الحديث، سألتني: "ألاحظت كيف تعض الحيّة ذيلها؟ ألاحظت كيف ان الاختلاط ممنوع في الباص ومسموح في التاكسي؟". قاطعتها ابنتها سلماز مشاغبة وهي تحرر قسم السينما في مجلة نسائية، وقد نصحتني برؤية فيلم تحمينه ميلاني وعنوانه "إمرأتان": "ماذا تقترحين؟ تاكسي للرجال وتاكسي للنساء؟ والسائق ايضاً؟". تضحك مريم من أعماقها: "طارق نوري لم يسبقك الى هذا الاقتراح. اقصى ما وصل اليه كان باصاً للرجال وباصاً للنساء".
* صحافي لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.