لا يبدو ان قرارات القمة العربية في عمان سترقى الى درجة التحديات التي تواجه الشعوب والمجتمعات العربية في الوقت الراهن، وذلك لثلاثة أسباب جوهرية: 1- الواقع العربي بتناقضاته وتشعباته وانشقاقاته. 2- غياب الإرادة السياسية لدى الحكام العرب لاتخاذ الخطوات والقرارات الصعبة والضرورية. 3- "أمركة" العلاقات العربية - العربية وضبط تفاعلاتها وانفعالاتها ومحاولة تحديد سقف معين ومحدد لمجرى حركتها وانطلاقها وتعاونها. مما لا شك فيه ان العمل العربي المشترك شهد تطوراً مهماً عام 2000 تمثل في انعقاد القمة العربية الطارئة في تشرين الأول اكتوبر في القاهرة بحضور العراق للمرة الاولى في قمة عربية شاملة منذ اندلاع حرب الخليج عام 1991. عجزت القيادات العربية، لمدة عقد من الزمن، عن تضميد الجراح التي خلفها الاحتلال العراقي للكويت في المنظومة القطرية والاتفاق على آلية لتفعيل القمة العربية. ومما عقد الأمور وزاد من عمق الفجوة في النظام الاقليمي "أمركة" العلاقات العربية - العربية ورغبة واشنطن في ابقاء الحصار القاتل على النظام العراقي ومنع قيام وحدة تنسيق بين الأطراف العربية في ما يتعلق بعملية السلام. بالفعل، اعتقد العديد من المراقبين ان انعقاد قمة عربية سقط ضحية فيتو واشنطن والواقع العربي وتردد الحكومات العربية وخوفها من الدخول في مواجهة مكلفة مع الولاياتالمتحدة. غير ان تحرير الجنوب اللبناني واندلاع الانتفاضة الفلسطينية ورد فعل اسرائيل الدموي أيقظ الرأي العام العربي من ثباته ودفع بالنظم الحاكمة الى مراجعة اسلوبها التفاوضي ومواقفها من العمل العربي المشترك، في محاولة للتكيف مع الإحباط في الشارع العربي وادارة هذا الإحباط بطريقة ديبلوماسية تحول دون تفجره وتهديده للاستقرار السياسي. استدعى هذا الواقع الجديد عقد قمة طارئة في القاهرة بصرف النظر عن الخلافات العربية والسيف الاميركي المسلط على أعناق القيادات العربية، لأن الأخيرة شعرت بعمق الغضب الشعبي وخطورته على استقرار أنظمتها لو تخلفت عن الظهور بمظهر المساند لقضية القدس وانتفاضة الأقصى ولو مجرد الظهور. فالقمة العربية الطارئة في القاهرة فرضها الجمهور العربي فرضاً على حكوماته التي ناورت وساومت لأكثر من عشر سنوات تهرباً ورعباً من تداعيات لمّ الشمل العربي. ولكن هذه الحكومات، التي تحترف الديمومة السياسية، خبيرة وقادرة على امتصاص الغضب الشعبي وتخديره وتنويمه وتحييده من ساحة العمل الأهلي. وعلى رغم الأهمية المعنوية - السياسية لانعقاد القمة الطارئة في القاهرة، إلا انها لم تقدم تقويماً حقيقياً استراتيجياً لعملية السلام، ولم تبلور رؤية جديدة أكثر تفصيلاً وتحديداً لمشاريع التسوية. صحيح ان القرارات الرئيسية الثلاثة للقمة كانت ايجابية بالنظر الى السقف الذي عقدت فيه، إلا ان السؤال النقدي هو: هل تم حقاً وضع هذه القرارات موضع التنفيذ أم انها انضمت الى العديد من مثيلاتها السابقات في ثلاجة التمنيات؟ تقاس أهمية القرارات على صعيد العمل العربي المشترك وفاعليتها بدرجة اسلوب التطبيق والتنفيذ. هنا بالذات، على المستوى التنفيذي والدور الحركي لتنفيذ القرارات، مكمن الضعف البنيوي في النظام الاقليمي. أولاً، خلصت قمة القاهرة الى التوصية بدعم الاقتصاد الفلسطيني وتقديم الدعم المالي للانتفاضة، فتقرر بناء على اقتراح المملكة العربية السعودية انشاء صندوق باسم "انتفاضة القدس" بمبلغ مئتي مليون دولار يخصص للانفاق على عوائل وأسر شهداء الانتفاضة، وانشاء "صندوق الأقصى" بمبلغ ثمانمئة مليون دولار اميركي يخصص لتمويل مشاريع تحافظ على الهوية العربية والاسلامية للقدس وتمكين الاقتصاد الفلسطيني من تطوير قدراته الذاتية وفك الارتباط بالاقتصاد الاسرائيلي. بعد مضي نصف عام تقريباً على اتخاذ هذا القرار المهم لا تبدو الحكومات العربية في عجلة من أمرها لتفعيله وايجاد آلية فعالة لمساعدة المجتمع الفلسطيني في ظروفه العصيبة الراهنة. من أصل البليون دولار الموعودة، لم تتعد التبرعات 250 مليون دولار اميركي. ففي حين يحتضر الاقتصاد الفلسطيني تحت الحصار الاسرائيلي المحكم، لم تبادر القيادات العربية الى اتخاذ خطوات طارئة لوضع قرار القمة الطارئة موضع التنفيذ، وكأن ليس هناك مواجهة وحصار ومعاناة وصراع ارادات بين قوات الاحتلال الاسرائيلية والشعب الفلسطيني. ألا يستدعي مثل هذا الوضع الاستثنائي خيارات استثنائية وتفكير وسياسات غير تقليدية؟ ألا يطرح عدم تفعيل أحد القرارات الرئيسية لقمة القاهرة الطارئة علامات استفهام على جدوى العمل العربي المشترك وفاعليته؟ ما هو الهدف من صياغة القرارات ان لم يتم تنفيذها؟ هل يمكن ردم هذه الفجوة البنيوية في النظام الاقليمي، وكيف؟ هل يمثل تلكؤ الحكومات العربية في تقديم الدعم للشعب الفلسطيني عدم ثقتهم في سلطته الوطنية وفي فاعلية الانتفاضة وفي المحافظة على علاقات الود والصداقة مع الولاياتالمتحدة؟ السؤال المحوري هو: كيف يمكن احداث تغيير جذري في العلاقات العربية - العربية والعمل العربي المشترك في ظل غياب الإرادة السياسية والمصالح المتجذرة التي تربط الأطراف العربية بشبكة وسلسلة مترابطة ومتكاملة من الاهداف والقواعد المشتركة؟ ثانياً، بالنسبة الى عملية السلام، صيغت قرارات قمة القاهرة بطريقة غامضة مقصودة، من حيث تحميل اسرائيل المسؤولية عن اعادة المنطقة الى أجواء التوتر ومظاهر العنف، والتأكيد في الوقت ذاته على ان السلام خيار العرب الاستراتيجي. فالبيان النهائي للقمة لم يتضمن نقداً للموقف الاميركي للتسوية ولم ينعِ معادلة اوسلو، ولم يهدد بقطع العلاقات الديبلوماسية مع اسرائيل. صحيح ان مصر استدعت سفيرها من تل ابيب رداً على التصعيد العسكري الاسرائيلي ضد المواطنين الفلسطينيين، وخطت بعض الحكومات العربية خطوات متواضعة تعبيراً عن شجبها السلوك الوحشي لقوات الاحتلال الاسرائيلية، ولكن ما عبر عنه وزير الخارجية المصري عمرو موسى، بأنه اذا صعدت اسرائيل سيحدث تصعيد من الجانب العربي لم يتم ولا يمكن تفعيله في الوقت الراهن في ظل المناخ والواقع العربي والمعطيات المادية التي تفرض بثقلها وتوازناتها على النظام الاقليمي. والأخطر من ذلك، أدى غياب التفكير الاستراتيجي والرؤية المشتركة لعملية السلام الى شلل الموقف العربي وتمكين اسرائيل من أخذ المبادرة على صعيد الديبلوماسية الدولية. معظم القوى الخارجية تضغط على العرب والفلسطينيين ل"وقف العنف"، وكأن العنف الذي يمارسه شعب ينوء تحت الاحتلال يمكن مقارنته اخلاقياً ومادياً بإرهاب قوات الاحتلال. المهم ان الخطاب التجميلي في البيان الختامي للقمة العربية الطارئة لم يرسم الخطوط العريضة للامكانات العربية ولم يحدد استراتيجية مؤثرة للتعامل مع التصعيد الاسرائيلي. ومكمن الخطر ليس فقط في ان القيادة الاسرائيلية تملك معظم الأوراق في اللعبة الديبلوماسية، بل ايضاً في تعميق المأساة الفلسطينية. نعم، انهيار السلطة الفلسطينية لم يعد مجرد سؤال أكاديمي أو نظري، بل امكانية محتملة. دوائر الاستخبارات الاميركية والاسرائيلية تتحدث علناً عن هذا الخيار، بالإضافة الى قنوات أخرى. هل هناك ادراك وتصور مستقبلي ضمن المنظومة القطرية العربية لتداعيات انهيار السلطة الفلسطينية على الداخل الفلسطيني وحقوق شعبها ومستقبله؟ وما هي الخطوات التي يمكن لقمة عمان اتخاذها لتفعيل قرارات قمة القاهرة ومنع تصدع الجبهة الفلسطينية وانهيارها؟ ثالثاً، قررت القمة الطارئة في القاهرة انعقاد القمة العربية سنوياً في شهر آذار مارس من كل عام، وذلك للمرة الأولى بعد اكثر من نصف قرن. وتكمن أهمية هذا القرار، القمة الدورية، في امكان تفعيل العمل العربي المشترك ومعالجة التحديات الطارئة ومراجعة القرارات السابقة والتأكيد على تنفيذها. ويشكل انعقاد قمة عمان انجازاً مهماً بحد ذاته بعد القطيعة والمقاطعة التي عانتها منظومة القمة العربية. لكن معطيات الواقع العربي وغياب ارادة التغيير ودخول الإدارة الاميركية على خط العلاقات العربية بقوة وزخم جديد، لا تبشر بإمكان حدوث اختراق نوعي في طبيعة القرارات التي يمكن ان تتخذها قمة عمان أو اسلوب وطريقة تنفيذها. تنعقد قمة عمان، وعلى عكس القمة الطارئة في القاهرة العام الماضي، في ظل غياب ضغط الرأي العام العربي الذي لعب دوراً قاطراً في دفع الحكام العرب الى التحرك السريع لدعم انتفاضة الفلسطينيين. يبدو ان اعادة تنويم وتبريد "الشارع العربي" نجحت الى حد كبير، حيث لم تعد تسمع إلا أصوات خافتة لنبضه، ومن ثم فإن القيادات العربية لا تشعر بخطورة المرحلة أو ضرورة اخذ مخاوف "الشارع" وتطلعاته في الاعتبار. سقف قمة عمان أخفض بكثير من سقف قمة القاهرة. من جهة أخرى، فحين شهدت القمة الطارئة في القاهرة ارتداد قضية العراق الى الخلف وانتقال قضية القدس الى الامام، نجحت ديبلوماسية ادارة جورج بوش في وضع الملف العراقي على أولوية اجندة قمة عمان والتقليل من أهمية القضية الفلسطينية، خصوصاً القدس الشريف. والمعروف ان قضية القدس قضية مجمِّعة، بينما قضية العراق تقسِّم العرب. والخوف أن تنسى أو تتناسى القيادات العربية التكاليف الباهظة المترتبة على ابقاء الجرح العراقي نازفاً، عقبة امام ردم الفجوة في العلاقات العربية - العربية. مرة أخرى تدخل الولاياتالمتحدة على خط هذه العلاقات وتحاول ترتيب أولويات البيت العربي بما يحافظ على مصالحها ومصالح حليفها الأول في الشرق الأوسط، اسرائيل. فلقد مهدت زيارة وزير الخارجية الاميركي كولن باول الى المنطقة لتذكير القيادات العربية بأن واشنطن لا تنظر بعين الرضا الى محاولات تأهيل العراق سياسياً أو التركيز على الخطر الاسرائيلي وإغفال أن النظام العراقي يمثل تهديداً محورياً للمنظومة القطرية ولميزان القوى الاقليمي. مرة اخرى تحاول الولاياتالمتحدة فرض أجندتها الخاصة وأولوياتها المعقدة على العلاقات العربية - العربية غير آبهة بالمتغيرات الجوهرية على الساحة العربية والاقليمية منذ تحرير الكويت عام 1991. هل يشتري العرب الاطروحة الاميركية في قمة عمان ويركزون على الخطر العراقي بكل ما يعنيه ذلك من انقسام وخصام وتصارع؟ أم هل ينجح العرب في تحييد الملف العراقي وفصله عن قضية فلسطين ويجتهدون في صياغة رؤية استراتيجية مستقبلية للتعامل بعقلانية وواقعية لحل اللغز والمشكلة العراقية ودعم الفلسطينيين في نضالهم لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي؟ هل تملك القيادات العربية الإرادة السياسية لتأكيد استقلالها وعدم تبعيتها، بمتابعة جدية لتنفيذ قرارات قمة القاهرة الطارئة وصياغة قرارات جديدة، جريئة وغير خطابية، تعبر عن طموحات مجتمعاتها وتعكس قدراتها وامكاناتها؟ * استاذ في العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة ساره لورنس، نيويورك.