منذ بداية العرض أدرك الحضور الضخم ان الفرقة أبرمت اتفاقاً حاسماً مع النجاح، فساد الصمت، وخفّت الحركة على المداخل، وانقطع رنين الهواتف المحمولة، الكل منبهر بالمشاهد البصرية واللغة المسرحية الجديدة، التي يتحدث فيها الجميع: ممثلين وديكوراً واضاءة وحركة. وفي الوقت نفسه يتفاعلون مع جمهور كبير ملأ الصالة والمداخل... انها في الحقيقة حال فنية خاصة لم يعرفها الجمهور منذ زمن، فالخشبة تمتلئ مفرداتها بالشاعرية من ألفها الى يائها، ويزيد من هذه الشاعرية سينوغرافيا مبدعة وخلاقة أضفت على العرض أبعاداً جمالية مدهشة، وحركة ممثلين مدروسة بدقة. فينتاب الجمهور الحماسة الحقيقية والانتصار لهذا الفن الإنساني الجميل الذي نفتقده شهوراً حتى نكاد ننساه، فلا تستيقظ ذاكرتنا الا من مهرجان الى مهرجان، فتقول آسفاً كم نفتقد من الفرجة الجميلة. مسرحية "يا ليل ما أطولك" من تأليف الكاتب الإماراتي محمد سعيد الضنحاني، واخراج الفنان العراقي محمود أبو العباس... وهي مسرحية تجريبية طرحت الكثير من الأسئلة ونبشت عميقاً في تربة الذات الإنسانية والواقع الحيّ، بلغة ذات أبعاد رمزية مؤثرة، حددت من خلالها موقفها من هذا الواقع الكائن، وأشارت بجرأة الى سلبه بلغة مسرحية أخاذة وبمشهدية عالية الأداء، ليعبّر كل ذلك عن ليل الإنسانية الطويل... ذلك الليل الذي استحال الى شخصية رئيسة ضارباً بأستاره على مشارق الشمس، وماضياً بكل ثقة في تفتيت الذات الإنسانية ليرينا عتمتها، وليرينا أوهام الذات وتفجّرات العدوانية الكامنة فيها... عدوانية موروثة منذ أزمنة الغاب الأولى لا تلبث ان تحطّم الزجاج الشفّاف الفاصل بين عالمين، لتعصف بحياة عائلة كان الحب يزدهر في حدائقها، فتهشم الأغصان وتطيح بالثمر. والثروة التي كان من المفترض ان تخلق حالاً متقدمة على الصعيد الإنساني كرّست قيماً جديدة أفضت الى اتكالية قاتلة تصاعدت معها شرور مختلفة، فاستحال الإنسان معها الى كتلة صمّاء لا تستجيب لنداء المشاعر حتى تختنق بليلها... أما كيف يمكن تجسيد كل ذلك درامياً وفي مسرح لا يميل الى سرد أو ثرثرة؟ فتلك برأينا براعة المخرج الذي قدّم اجتهادات رائعة على صعيد الحركة والأداء الدرامي. فلم نشهد حبكة تقليدية، وانما مجموعة من المشاهد البصرية والحوارية يربط بينها جميعاً خيط ناظم. وكل مشهد هو لحظة ابداعية منفصلة تتضافر في صناعته اضاءة ذكية، وتفاعل كبير مع قطع الديكور البسيطة التي تستجيب للحظة الفعل المسرحي، فتتكيّف مع ارادة المخرج، لتصبح كائناً اضافياً، يستجيب لنداء الليل الطويل، وللغناء الشجي المنبعث من ركن ما، ولحركة الشخوص على المسرح الذي استحال بخشبته وممثليه وديكوره وجمهوره الى فضاء رمزي تتوزع دلالاته بين خاص وعام. ومعه يصبح ممكناً تعميم الحال انسانياً، لأن القضايا المطروحة لا تختص بجغرافيا محددة، وهنا يكمن الإبداع. الممثلون أدّوا باحترافية باهرة أدوارهم، وأغنت الممثلة بدرية احمد عالم الأنوثة الطافح بدلالاته الإنسانية، والقدرة الدائمة على تجاوز لحظة الانكسار لأبوة أهدرت حبّاً آسراً ومشاعر فياضة... انها لحظة الأمومة الخلاقة التي ما انفكت منذ لحظة انكسارها تبحث بدأب للخلاص من ليل طويل خيّم على أرواحنا. وفي الوقت الذي تبادل الشقيقان عبدالله راشد الأب، عبدالله مسعود الأخ دوري الذكورة بكل تخبطاتها ومواجعها، وهي أودت بحياة الابن خليفة التخلوفة في مهاوي الضياع. كما ان الأداء الصامت لبقية الشخصيات المجموعة لم يكن هامشياً، وانما كان له حضوره الكبير في تفعيل الدلالة والإيحاء ليتناغم تناغماً كبيراً مع الشخصيات الرئيسة. وتضاف الى كل ذلك الجهود الإبداعية لكلّ من جعفر الخفاف في التأليف الموسيقي والألحان، والغناء الرائع للسيدة بلقيس، والديكور لخالد جميع، والإضاءة الناجحة لمحمد جمال. انه عمل شائق ويستحق الفرجة. وعلى هامش آراء العرض كانت بضعة آراء عن المسرحية. قال الفنان العراقي سامي عبدالحميد: "ان هذا العرض يتعلق بظلمة الذات والنفس البشرية، تلك الظلمة التي نعيشها جميعاً، ومن المؤكد ان الكشف عن هذه الظلمة يساعدنا على تلمّس النور". أما المخرج قاسم زيدان فقال: "إن مخرج العمل اشتغل على عناصر العرض المسرحي كافة ضمن منظومة تجريبية تعتمد أساساً على السينوغرافيا. إلا انها كانت تعمل خارج العرض، ولو عملت داخله لأكسبتنا أبعاداً أخرى...". وقال الناقد ظافر جلّود: "ان دلالات المخرج على المسرح هي لغته الإخراجية، فلا شيء من فراغ. وكل شيء فوق الخشبة - على رغم سكونه - يتكلم، يوحي، وحتى حركة الديكور الدائرية والتشكيلية هي جزء من حركة كونية لا تنفصل، فيها الحياة عن الموت وعن الأمل...".