مقدار ما كانت مسرحية سعد الله ونوس "مغامرة رأس المملوك جابر" منذ كتبها عام 1970 انطلاقاً من حكاية تراثية للديناري - تجربة جديدة في مسرح التسييس بمفهومه السياسي والفكري المشتبك مع الواقع، ومفهومه الجمالي المؤسسي لحوار جدلي وخلاق بين خشبة المسرح وصالة المتفرجين كان النص مساحة للاجتهاد والبحث الجمالي بما يتيحه من مساحات مقترحة ومساحات مفتوحة. وهذا ما أكده المؤلف صراحة بأنه "من دون بحث تفقد المسرحية كل مبرراتها وقيمتها ايضاً، وانه في كل مرة يتناول فيها احد المخرجين واحدة من مسرحياتي من دون القيام بإضافة أو بحث جديد، تسقط المسرحية". وبقدر ما كان النص اجتهاداً ملحوظاً، جاء العرض المسرحي المقدم حاليا على خشبة المسرح القومي في القاهرة من إخراج مراد منير وبطولة أحمد بدير وفايزة كمال والمطرب حسن الأسمر، منافياً لكل اجتهاد، مضاداً لطموحات المسرحية، وتراجعاً عما سبق وقدمه المخرج من نجاحات سابقة عند تناول نصوص سعد الله ونوس وخصوصاً "الملك هو الملك" والتي واصلت نجاحها على امتداد 4 مواسم مسرحية 1988 - 1992. بل هو تراجع عما سبق وقدمه المخرج نفسه من اجتهادات عند تناوله النص المسرحي نفسه "مغامرة رأس المملوك جابر" قبل أكثر من عشرين عاماً على مسرح قصر ثقافة الريحاني على مجموعة من الهواة. لم يبدأ المخرج مراد منير من أي مبحث جمالي أو رؤية مغايرة. لم يبدأ من إرشادات سعد الله ونوس التي ضمنها النص واقتراحاته المكتوبة حول ضرورة عمل المخرج على ظروف البيئة الراهنة وشروط الاتصال بالمتفرج والتعامل معه كشرط جوهري في نجاح العمل المسرحي. فعلى حين يطرح النص المكتوب أشكال التعبير والفرجة الشعبية المناسبة لبنية الحكاية والمقهى والرواة الشعبيين كإطار حي متحرك ومتجدد للعمل والتجربة، بدأ مراد منير من الفرجة الشعبية كصيغة جاهزة كشكلاً ثابت اختبر نجاحه في عروضه السابقة. وهي البداية المضادة لطبيعة الفرجة الشعبية والتي يستحيل نقلها او استعادتها أو تكرارها. وبدلاً من أن يدير المخرج ظهره للذوق السائد واشكال التفاهة السائدة بحثاً عن تطوير فرجته الشعبية وبحثاً عن اشكال اتصال جديدة بين المسرح والجمهور، اعتمد جوهرياً على رموز المسرح والفن الاستهلاكي وعلى توليفة تجارية تحولت منذ سنوات الى آفة أصابت المسرح المصري بأكمله مطرب جماهيري " ممثل كوميدي " شاعر غنائي يحيل كل لغة فصحى الى لغة عامية. واذا كانت تلك الصيغة سبق ان حققت نجاحها في "الملك هو الملك" بتوافر الضرورة الفنية والمبرر الدرامي لأشكال تعبيرها، وتوافر الإمكانات الفنية للمشاركين في العمل المسرحي محمد منير، صلاح السعدي، وأحمد فؤاد نجم فمع "المملوك جابر" كشفت الصيغة عن زيفها وتجاريتها، بانتفاء التوظيف الدرامي لأشكالها الشعبية اضافة الى ضعف الامكانات الفنية لأبطال العمل. فحسن الاسمر الذي راهن المخرج على توسيع رقعة جمهور المسرح بمشاركته في الغناء، فضح المسرح محدودية صوته وتضاءل حضوره وخصوصاً مع إصرار المخرج على حصاره وتقييد حركته تماماً داخل بنوار صغير على يمين الخشبة لا يغادره من دون اية محاولة للاستفادة من وجوده الشخصي كمطرب او وجوده الدرامي كشخصية داخل العمل. لقد ظل المطرب والغناء بأكمله عنصراً هامشياً في العمل المسرحي. وهذا ما يدفعنا للسؤال عن تبديد مبلغ 000،45 الف جنيه مصري هو أجر حسن الاسمر في المسرحية وقد يستدعي سؤالاً آخر اكثر اهمية حول تبديد نصف مليون جنيه مصري هي ميزانية العمل المسرحي اذا كانت النتيجة زائفة. ويتحمل أحمد بدير في دور "المملوك جابر" المسؤولية كاملة في إفساد العرض المسرحي، وتسطيح الشخصية وافراغ النص من محتواه بخروجه الفج المستمر وابتزاز الضحكات من الجمهور بالشتائم احياناً والتلميحات الجنسية والسخرية المتواصلة من اللغة العربية الفصحى والتي هي في الاساس لغة النص. لم يكتف أحمد بدير بالخروج اللفظي، بل خرج تماماً على شخصية "المملوك جابر" محتفظاً طوال العرض بطبيعته الشخصية كممثل كوميدي ومبتعداً عن جوهر الوعي بشخصية المملوك جابر والذي تحول في العرض من مملوك انتهازي اودت به طموحاته القاتلة الى الهاوية الى شخصية هزلية سطحية تستجدي ضحك الجمهور ودغدغة حواسهم. واذا كان نص سعد الله ونوس يقدم بالفعل مساحة مقترحة تسمح للممثل بالاداء العفوي التلقائي وبحرية الابتكار الخيالي والارتجال فثمة فارق بين حوار خلاق يضع المتفرج داخل النص المسرحي، ينمو به وينميه، وبين عشوائية تسطح الشخصية وتهمش النص، وتفتقد تقنية الاداء الشعبي بكل تلقائيته وبساطته ووعيه. وفي إصرار المخرج على قيام الشاعر سيد حجاب بكتابة نص غنائي وإعادة كتابة الشخصية الاساسية في البناء الدرامي وهي شخصية الحكواتي واقد تحول داخل العرض الى "حكواتية" تقوم بادائها فايزة كمال. اعتداء آخر على النص المصري الذي تم حذف الكثير من جمله الحوارية ومشاهده. وعلى عكس ارشادات المؤلف حول المساحات الخالية واستخدام أبسط الديكورات والاكسسوارات على خشبة المسرح بما يتلاءم وطبيعة الفرجة الشعبية وبساطتها، قدم الفنان التشكيلي أحمد شيحة ديكورات ضخمة مُبالغاً في تركيبها مما شكّل عبئاً على خشبة المسرح في تحريك قطعها وفي كيفية تعامل الممثل معها حتى ان ديكور البرج الحديدي الذي صممه مهندس الديكور كنقطة مراقبة على حدود المملكة مشهد لا يستغرق دقائق استدعى دائماً سخرية الممثلين كما استدعى تخوفاتهم المعلنة من إمكان سقوط البرج على المسرح أو على الصفوف الاولى في الصالة. وفي محاولة لإضفاء الجدية على العمل المسرحي، قدم المخرج مشهد الختام وهو مشهد "اجتياح بغداد" وفيه تشتعل النيران في خلفية المسرح بينما جنود العجم بملابسهم السوداء ورماحهم الحديدية يغزون خشبة المسرح منتهكين العامة من أهالي بغداد بملابسهم العصرية والقديمة، ليحقق المخرج بذلك المشهد رؤية النص ويحقق كذلك وجهة النظر المعاصرة المشتبكة مع الواقع الراهن، انه المشهد الوحيد في المسرحية الذي امتلك مقومات ابداعه كمشهد واكتمل خلاله للمخرج الوعي بجوهر المسرح كرؤية جمالية ووعي تاريخي. لكنه ايضاً المشهد الذي جاء متأخرا كثيراً بعد اكثر من 3 ساعات من العبث والخروج وإفساد اللغة والإجهاز على النص وعلى كل قيمة مسرحية.