شاعت حرفة الحدادة في الجزيرة العربية، وارتبطت بمختلف وجوه معاش الجاهليين في البادية والحاضرة" فإلى جانب سلاحهم وأدواتهم المنزلية وما وفَّرته الحدادة لرحال الإبل ولُجم الجياد من أدوات معدنية، صنع الحدَّاد عُدَداً استخدمها النجَّار والدَّبَّاغ والخرَّاز والبيطار والحرَّاث في حرفهم، فكان بذلك عنصراً لا يُستغنى عنه وعن حرفته. وساعد على ازدهار الحدادة وجود المعادن، وأهمها الحديد، في كثير من المناجم، وكانوا يسمّون المنجم: المعدن، غير ما استورده العرب وما أعادوا صهره وتصنيعه من أدوات معدنية مستهلكة. ويلاحظ، ابتداءً، أن العرب نادراً ما أطلقوا على هذا الحرفي اسم "الحدّاد"، وشاعت في شعرهم أسماء أخرى ربما انتقلت أحياناً من أسماء أشخاص زاولوا الحدادة. اختلط في لفظ "الحدَّاد" معنى "معالج الحديد" أنظر الصحاح ولسان العرب بمعنى "البوَّاب"" ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى في ذوي الحاجات: إِذَا ما غَشُوا الحدَّادَ فُرِّق بَيْنَهُمْ جِفَانٌ من الشِّيزَى وَرَاءَ جِفَانِ، وقيل في شرحه: "الحدَّاد: البوَّاب". إلا أنَّ شعرهم حافل بألفاظ لا تمت بصلة الى الجذر اللغوي "حَدَدَ"، وكانت أكثر دلالة على الحداد وحرفته، ومن ذلك "الجُنْثِيّ"، ومن شواهده قول لبيد بن ربيعة: أَحْكَمَ الجُنْثِيُّ مِنْ عَوْرَاتِها كُلَّ حِرْبَاءٍ إِذَا أُكْرِهَ صَلّ. ثم انهم سَمُّوا الحداد "الخفاجّي"، وهي نسبة الى قبيلة "خفاجة"، وقيل انها "حي من بني عامر"، وهم يعنون - كما يرجح - حداداً فيها، ثم صارت "الخفاجي" بطول الاستعمال علماً على الحداد" قال الأعشى في هذا المعنى: وأَدْفَعُ عَنْ أَعْرَاضِكُمْ وأُعِيرُكُمْ لِسَاناً كَمِقْراضِ الخَفَاجِيِّ مِلْحَبَا. وربما سَمُّوا "الحاذقَ بأمرِ الحديد" سِفْسيراً" وبهذا المعنى يقول حميد بن ثور: بَرَتْهُ سَفَاسِيرُ الحَدِيدِ فَجَرَّدَتْ وَقِيعَ الأَعَالي كانَ في الصَّوْتِ مُكْرّمَا. وأما الاسم الأكثر دوراناً في شعرهم في الدلالة على الحدّاد، فهو "القين"، وإن دَلَّ - كما سبقت الإشارات في تعريف الحرفة - "على كل صانع". وسوف يطالعنا لفظ القين بمعنى الحداد بكثرة عند دراستنا عدة الحداد وتقنيات الحدادة. ويلاحظ، ابتداءً، أنَّ مِنَ الشعراء مَنْ إذا أراد تحقير رجل نعته بالقين، سواء أكان قيناً أم لم يكن، وهذا متصل بموقف العرب من الحرفة والحرفيين" فحسان بن ثابت مثلاً يهجو أمية بن خلف، ويذكر القيون صُنَّاع السيوف، فيقول: فَكَيْفَ رَأَيتُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ضِرَابنَا وإِقْدَامَنَا والخَيْلُ لم تَتَبَدَّدِ بِكُلِّ حُسَامٍ أخلَصَتْهُ قُيُونُهُ بِأَيْدِي رِجَالٍ مَجْدُهُمْ غَيْرُ قُعْدُدِ. فالذين يصنعون السيوف "قيون". ومن الأسماء التي اختلط فيها معنى الحدّاد بمعنى النجار والراهب "النهامي" كما مرَّ معنا عند دراستنا النجارة" ومن شواهد ذلك قول النابغة الذبياني: وأَسْمَرَ مَارِنٍ يَلْتَاحُ فِيهِ سِنَانٌ مِثْلُ نِبْراسِ النِّهَامِي. ومن نعوت الحدّاد: الهالكي"، وربما عنوا به صانع السلاح أو الصقيل" قال لبيد بن ربيعة يصف ثوراً: جُنُوحَ الهَالِكِيِّ عَلَى يَدَيْهِ مُكِبّاً يَجْتَلِي نُقَبَ النِّصَالِ. فالهالكي هنا: الصقيل الذي يشحذ السيوف أو يصنعها. وورد بهذا اللفظ بمعنى صانع الدروع" قال أوس بن حجر: وبَيْضَاءَ زُغْفٍ نَثْلَةٍ سُلَّمِيَّةٍ لَهَا رَفْرَفٌ، فَوْقَ الأَنَامِلِ، مُرْسَلُ وأَشْبرِيَنَها الهَالِكِيُّ، كَأَنَّهَا غَدِيرٌ، جَرَتْ في مَتْنِهِ الرِّيحُ، سَلْسَلُ وإنما سُمِّيَ بذلك لأنَّ بني أسد "يُقال لهم القيون لأن أول من عَمِلَ الحديد بالبادية الهالك بن أسد بن خزيمة" كما يقول ابن منظور في لسان العرب. ومن أسماء الحداد أو نعوته "الهبرقي"، وربما عنوا به الصائغ أنظر الصحاح، وقال ابن منظور إنه "كلُّ مَنْ عالج صنعةً بالنار"، واستشهد على معنى الحداد فيه قول ابن أحمر: فَمَا أَلْوَاحُ دُرَّةِ هِبْرِقيٍّ جَلاَ عَنْهَا مُخمِّها الكُنُونَا، ونقل عن مصادره أنَّ الهبرقيَّ "الذي يصفِّي الحديد". وممن ذكروا الحداد بلفظ الهبرقي النابغة الذبياني" قال في وصف ثور وحشي: مُوَلِّي التّريحِ رَوْقَيْهِ وجَبْهَتَهُ كَالْهِبْرِقيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الفَحَمَا" فهو يشبهه "بالهبرقيِّ النافخ للفحم في شدة نفسه". تلك تسميات ونعوت دارت كثيراً في شعرهم، ودَلَّت على وجود الحداد وحرفته في جزيرة العرب التي كاد البعض يحسبها مجرد بيداء معزولة لا تعرف من أنماط العيش غير الرعي والصيد والغزوات. مصادر المعادن قُيِّض للحرفيين في الجزيرة العربية معادن مختلفة أبرزها الحديد الذي اشتغل به الحداد، والذهب والفضة اللذان اشتغل بهما الصائغ، وتمكن العرب من استخراجها من باطن الأرض بأدوات مخصوصة وتقنيات تدل على تقدم في هذا المضمار. وأطلق العرب، كما تقدم، اسم المَعْدِن على المنجم وعلى الجوهر المستخرج منه. وفي المصادر غير الشعرية ذكر لكثير من المناجم التي استغلها العرب في الحواضر والبوادي على السواء، وقام على استخراج معادنها العبيد والأعاجم. وتعد اليمن أشهر الحواضر التي وجد الحديد في أرضها وكثر فيها الحدادون، حتى أفاض الشعراء الجاهليون في الحديث عن الأسلحة التي صنعها اليمنيون. وأشهر المناجم عندهم: "معدن البرام"، و"معدن زغافة" و"معدن القلعة" والى هذا نسبت "السيوف القلعية"، وإن قال ابن الأثير إن القلعة "موضع بالبادية تنسب السيوف إليه"، أو قال آخرون إنه جبل بالشام، كما سيأتي. وفي الحيرة ربما استعان الحدادون بمعادن الجزيرة. وأشار عدي بن زيد الى حديد القسطاس، وإن لم يتضح موضع القسطاس هذا" قال يخاطب صديقاً ويصف حاله وقد حبسه النعمان: أَبْلِغَا عَامِراً وأَبْلِغَا أَخَاهُ أَنَّنِي مُوثَقٌ شَدِىدٌ وِثَاقِي في حَدِيدِ القِسْطَاسِ يَرْقُبُنِي الحَارِسُ، والمَرْءُ كَّل شَيْءٍ يُلاَقي. وفي الشام كانت مناجم حديد أىضاً، وقد أشار أوس بن حجر الى السيف القلعي، في قوله: يَعْلونَ بِالقَلعِ البَصْرِيِّ هَامَهُمُ ويُخْرِجُ الفَسْوَ من تَحْتُ الدَّقَارِيرُ، وقالوا إن القلع "جمع قلعي، وهو نوع من السيوف عتيق يُنسب الى معدن بالقلع وهو جبل بالشام". هذا في أطراف الجزيرة. أما الداخل فلم يعدم مناجم المعادن" ففي الحديث أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم "أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية ]...[ وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام". وبين أودية اليمامة "معدن شمام" وذكره الهمداني في "صفة الجزيرة" وقال إن العمال فيه كانوا من المجوس، كما ذكر معدناً في العقيق وقال إن عماله كانوا من اليهود. وفي "معجم ما استعجم" ذكر لمعدن في مواطن قبيلة عبس اسمه النقرة. ويضيق المقام عن ذكر سائر المناجم. غير ان ما ورد في الشعر وسائر المصادر ما يؤكد وفرة الخامات التي أعانت الحدادين، وما يؤكد اشتغال الرجال والنساء على السواء باستخراجها" قال المخبّل السعدي في "المعدِّن" الرجل: خَوَامِسُ تَنْشَقُّ العَصَا عن رُؤوسِهَا، كَمَا صَدَعَ الصَّخْرَ الثِّقَالَ المُعَدِّنُ. وأشار ابن منظور الى المرأة التي عملت في المعاجم، وكانت تسمِّى "المحصلة"، ووظيفتها تخليص المعادن من الحجارة. ويبدو أنَّ المحصِّلةَ كانت مومساً يتمتع بها الرجال" ففي لسان العرب بيت لم يذكر شاعره ولا عصره، يقول: أَلاَ رَجُلٌ جَزَاهُ الله خيراً، يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تُبيتُ؟ وفي شرح الأزهري للبيت: "أي تبيتني عندها لأجامعها". وتحدثت المصادر عن أدوات استخراج المعادن، فذكرت "الصاقور" والرحى وأدوات التنظيف والمدقات والمصابيح، كما يقول الدكتور جواد علي في مفصله. ومن أدوات التنقيب أيضاً "المذراة" أو "المذرى"، وفي بيت لراجز مجهول ذكره ابن منظور في مادة ذرا، اشارة الى التذرية، واشارة الى وضاعة المرأة العاملة في المناجم" قال الراجز: كَيْفَ تَرَاني أُذَرِّي، وأُدَرِّي غِرَّاتِ جُمْلٍ، وتُدَرِّي غِرَري؟. فالراجز "كان يذرِّي تراب المعدن، ويختل هذه المرأة بالنظر إذا اغترت". ما تقدم يؤكد أنَّ المعادن كانت موجودة في الجزيرة العربية، وانها أمدَّت الحداد بالخامات التي كانت عاملاً أساسياً في ازدهار حرفته، وأن التعدين لم يكن بدائياً إذا نحن نظرنا اليه في إطار درجة تطور المجتمع العربي في الجاهلية. عُدَّة الحدّاد وتقنيات الحدادة مَرَّ، في ما سبق، استنتاجنا أنَّ الحدَّاد صنع عُدَّة الحرفيين على اختلافهم، ولذلك فمن الطبيعي أن يصنع عُدَّته هو. إلاَّ أنه استعان أيضاً بخدمات الحرفيين الآخرين كالدباغ والخَرَّاز والبنَّاء الذين صنعوا له "الكير" و"الكور"، وهما أشهر الأدوات في عدته هذه. فالكير، وهو "الزق الذي ينفخ فيه الحداد" عبارة عن "زق أو جلد غليظ ذي حافات" انظر: لسان العرب، وقد ذكر الكثير ذا الحافات علقمة بن عبدة في صفة ناقة، فقال: قَدْ غُرِّيَتْ زَمَناً حتى اسْتُطِفَّ بِهَا كِثْرٌ كَحَافَةِ كِيرِ القَيْنِ مَلْمُومُ. غير أن شارح "المفضليات" فَسَّر "كير القين" ب"موقد نار الحداد"، وهو خلطٌ يبدو أنه شاع حتى استدرك اللغويون فقالوا: "وأما المبنيُّ من الطين فهو الكور "الصحاح واللسان، وزادوا بأن "الكور" هو "الذي فيه الجمر وتوقد فيه النار وهو مبني من طين". ولا نلبث أن يواجهنا اضطرابهم في الاصطلاح. فابن منظور يستدرك، إذ "يقال: هو الزق أيضاً" ويعني "الكور"، فيقابله قول ابن دريد في صفة الكير: "وكذلك أجيج الكير من حفيف النار". وهذا اضطراب نجد له صورة في الشعر أيضاً" فهذا حسان بن ثابت يهجو العاصي بن هشام بن المغيرة المخزومي، ذاكراً الكير بمعنى الموقد" فيقول: بَنِي القَيْنِ هَلاَّ إِذْ فَخَرْتُمْ بَرَبْعِكُمْ فَخَرْتُمْ بكيرٍ عِنْدَ بَابِ ابْنِ جنْدَعِ بَنَاهُ أبُوكُمْ قَبْلَ بُنْيَانِ دَارِهِ بِحَرْسٍ فَأَخْفَوْا ذِكْرَ قَيْنٍ مُدَفَّعِ وألْقُوا رَمَادَ الكيرِ يُعْرَفُ وَسْطَكُمْ لَدَى مَجْلسٍ مِنْكُمْ لَئِيمٍ ومُفْجَعِ. والأبيات تنصُّ صراحةً على أن المقصود بالكير الموقد، فهو يقوم "عند باب ابن جندع"، وقد "بناه أبوكم قبل بنيان داره"، ثم "ألقوا رماد الكير"، وكلُّ ذلك ينفي عنه ان يكون زقاً من جلد. ونحن نستنتج من ذلك أنَّ التسمية الواحدة أطلقت على الأداتين معاً، لملازمة المنفاخ للموقد في الحرفة الواحدة، أو أنَّ الرواة اختلط عليهم أمر الكور والكير فجعلوا هذا في مكان ذاك، ما دام اللفظان من وزن صرفي واحد لا يختل معه وزن الشعر. وعلى أية حال لا يمنع هذا الاضطراب من دلالة الشعر على أن الحداد العربي استخدم الكور والكير في حرفته. والحديث عن الكور والكير يفضي مباشرة الى الحديث عن الفحم، وهو من عدة الحداد، إذ به يُحمَّى المعدن قبل طرقه. والفحم موجود في أنحاء كثيرة من جزيرة العرب" ومن ذلك أن التقارير دلت على وجوده "في حضرموت في منطقة شبوة" المفصل لجواد علي: 1/195، وبدليل ذكره في شعر الجاهليين" يقول الأغلب العجيلي مكنياً عن ان قومه لم يكونوا في الحرب "بمنزلة الفحم ينفخ فيه": هَلْ غَيْرُ غَارٍ، هَدَّ غَاراً، فانْهَدمْ؟ قَدْ قَاتَلُوا، لَوْ يَنْفُخُونَ في فَحَمْ. ويذكر النابغة الذبياني الفحم مقترناً بذكر الحداد الهبرقي الذي يشبهه الثور الوحشي" يقول: مُوَلِّي الرِّيحِ رَوْقَيْهِ وَجبْهَتَهُ كَالْهِبرِقيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الفَحَمَا. ويبقى أنَّ أهم عُدّة الحداد على الإطلاق السندان والمطرقة" إذ بهما يشكل الحدَّاد ما يصنع من أدوات وعُدَدٍ وسلع معدنية. غير أن السندان لم يرد بلفظه في الشعر الجاهلي، بل ورد غالباً باسم "العلاة" أو باسم "القرزم" أو "القرزوم" أو "الفرزم"، فيما سميت المطرقة مطرقة وميقعةً ومشرجعاً. وطالما شبه الشعراء الناقة بالعلاة في صلابتها" ومن هؤلاء عبدة بن الطبيب الذي يتنقل في رحلته الطويلة: بِجَسْرَةٍ كَعَلاةِ القَيْنِ دَوْسَرةٍ فِيهَا على الأَيْنِ إِرْقَالٌ وتبغيلُ، وربما شُبِّهَ بالعلاة عضوٌ من أعضاء الناقة، كالجمجمة، وهو قول طرفة بن العبد: وجُمْجُمَةٌ مِثْلُ العَلاَةِ كأنَّمَا وعى المُلْتَقَى مِنْهَا إلى حَرْفِ مِبْرَدِ. ولا يكتفي الشَّماخ بن ضرار بتشبيه لحيي ناقته بالعلاة، بل يذكر مع العلاة آلة أخرى هي المشرجع، وهو "الممطول الذي لا حرف له من مطارق الحدادين"" يقول: كأنمَّا فَاتَ لِحْيَيْهَا ومَذْبَحَها مُشَرْجَعٌ من عَلاَةِ القَيْنِ مَمْطُولُ. ثم ذكروا المطرقة بلفظها، صنيع الشماخ بن ضرار في قوله يصف ناقة: فَسَلِّ الهَمَّ عَنْكَ بذاتِ لَوْثٍ عَذَافِرَةِ كَمِطْرَقةِ القُيُونِ. والبيت منسوب أيضاً الى المثقب العبدي انظر المفضليات والى غيره انظر ديوان الشماخ. وأما المطرقة بلفظ الميقعة فذكرها عديدٌ من الشعراء، منهم ساعدة بن العجلان، الذي قال يصف سيفاً "ضُرِبَ بالمواقع، المطارق": وَقِيعُ الكُلْيَتَيْنِ له شَفِيفٌ يَؤُمُّ بِقِدحِهِ عَيْرٌ سَدِيدُ. وتحدث الشعر الجاهلي عن "الكُلْبَة"، وهي المعروفة في أيامنا بالملقط الذي يمسك به الحداد الحديد المحمّى" قال حسان يعيّر الوليد بن المغيرة بأنه حداد يضرب الحديد بالمطرقة ويمسكه بالكلبتين: لَيَاليَ يُدْعَى دَيْسَماً بِابْنِ صَقْعَبٍ لِمَا ضَمَّ زَوْجُ الكُلْبَتْينِ ضَرُوبُ. وذكروا الإزميل الذي استخدمه الحداد، كما ذكروا المفراص والمقراض والمبرد، وهذا أكثر ما شبهوا به اللسان، قال الأسود بن يعفر يرجو جارته أن يكون لسانها رحيماً به: أَجَارَةَ أَهْلِي بِالْقَصِيَمةِ لا يَكُنْ عَلَيَّ، وَلاَ أُظْلَمْ، لِسَانُكَ مِبْرَدَا. والمبرد من آلات الشحذ والصقل، واستخدم الحداد الى جانبه آلات أخرى في هذا المجال، مثل حجر المسن والمصقلة وغيرهما، وربما شَحَذَ الحداد السلاح شحذاً أولياً قبل تليينه، وهو في هذه الحال سلاح خشيب، يقول صخر الغيّ الهذلي في سيفه: وصَارِمٌ أُخْلِصَتْ خَشِيَبَتُهُ أَبْيَضُ مَهُوٌ في مَتْنِهِ رُبَدُ، فخشيبته: "طبعه الأول قبلَ أن يَتِمَّ عملُه". ويضيق المقام عن ذكر آلات أخرى في عدة الحداد. غير أن آلة تطل برأسها وتثير الانتباه، وتؤكد أن المخرطة الآلية المعاصرة المستعملة في "الجلخ" كانت لها أصول في جاهلية العرب. فقد تحدثوا عن المدوس، وقالوا إنه "خشبةٌ يشدُّ عليها مسنٌّ يدوس بها الصقيل السيف حتى يجلوه"، وبها يشبه أبو ذؤيب الهذلي الفحل، فيقول: وَكأَنَّمَا هُوَ مِدْوَسٌ مُتَقَلِّبٌ بِالكَفِّ إلاَّ أَنَّهُ هو أَضْلَعُ. هكذا يتضح أن الحدادين استخدموا آلات تشبه آلاتنا، واعتمدوا تقنيات تشبه تقنياتنا" فالجاهلي الحداد اعتمد، كالحداد في أيامنا، على تحمية الحديد قبل طرقه، مستعملاً الفحم والكور والكير والسندان والمطرقة، ثم فولذه بواسطة تغطيسه في الماء، وهو ما نسميه في أيامنا ب"السقاية"، واستعان على ذلك بالملاقط. وقد مرت اشارة صخر الغي الى "خشيبة" السيف. حتى شرار الحديد الذي يثير انتباهنا أثار انتباه الشاعر الجاهلي والشاعر المخضرم، فهذا الشاعر الحطيئة يسمي الشرار "خُبَثَ الحديد" فيقول: وحصى الكَتِبِ بَصَفْحَتَيْهِ كَأَنَّهُ خُبَثَ الحَدِيدِ أَطَارَهُنَّ الكِيرُ. والشرار يتطايَرُ "أخولَ أخول" أي "متفرقاً إذا ضرب"، وهذا مشهد يصفه ضابئ بن الحارث البرجمي، فيقول في معرض وصفه ثوراً وحشياً تطارده الكلاب. يُسَاقِطُ عَنْهُ رَوْقَهُ ضَارِيَاتِهَا سِقَاطَ حَدِيدِ القَيْنِ أَخْوَلَ أَخْوَلاَ. ويشبه زهير بن أبي سلمى الخيول، وقد بُثَّتْ في المعركة، بتقاذف الشرر من الحديد المضروب، فيقول: بَثُّوا خُيُولَهُمُ في كُلِّ مَعْرَكةٍ كما تَقَاذَفَ ضَرْبُ القَيْنِ بالشَّرَرِ ويلاحظ أعشى قيس عملية تحمية الحديد وتبريده، فيقول مكنياً بالمشهد عن برد الغليل: قُمْنَا إِلَيْكُمْ ولمْ يُبَرِّدُنا نَضْحٌ على حَمْيِنَا قَرَار. ف"حميت الحديد حَمْياً بفتح فسكون وحُمُوّاً بتشديدِ الواو: اشتد حَرُّهَا بالنار". وأما التبريد فالغاية منه - كما تقدم - هي الفولذة، وقد سماه الأقدمون "رواء"، وسمّوه "سقياً" كما نسميه اليوم" قال كعب بن زهير ذاكراً سقي الحديد مقترناً بشحذه بواسطة آلة هي الصُّلَّب: صَدَرْنَ رِوَاءً عَنْ أَسِنَّةِ صُلَّبٍ يَقِئْنَ ويَقْطُرْنَ السِّمَام سَلاَجِمُ" وهو يعني: "قد رَوَّاها حين سقاها". أوجزنا ما أفاض الشعراء الجاهليون في الحديث عنه من أمر الحدادة والحدادين، ومن أمر آلاتهم وتقنيات حرفتهم على نحو يظهرهم رواة موثقينَ لوجوه النشاط الحضاري المادي، وهو نشاط ينفي عن عرب الجاهلية - كما قلنا سابقاً - أنهم كانوا مغرقين في البداوة... وبهذا المعنى ينبغي ان نفهم قولهم ان الشعر ديوان العرب. * باحث لبناني في شؤون التراث الشعبي.