تتميز محاولة ت.س. اليوت الاستحواذ على الأزلي بجهد متواصل لنبذ العادي والتافه من الزمن، والوصول الى مستويات أرقى ومجالات ذات معنى أكبر. وأول تلك المستويات التي عليه أن يتخطاها هو زمن الساعة. زمن الساعة لدى اليوت هو أكثر، مفاهيم الزمن تبسيطاً ويمثل أيضاً المرحلة الأكثر بدائية في جهاده نحو تحقيق "شرط البساطة الكاملة". وينتمي زمن الساعة الى العالم المادي والفيزيائي المحسوس والأقرب الى التجارب الانسانية. انه يؤكد المفاهيم المحدودة للحياة والعيش. ويسود زمن الساعة في التباشير الشعرية الأولى لاليوت، وذلك في عالم السيد ج. الفريد بروفروك. ولكن، عندما نتعرف الى هذا العالم نجد السيد بروفروك غير سعيد، بسبب وعي اليوت بوجود نقص في هذا البعد. وهكذا فإن الاشارات كثيرة الى زمن الساعة، ان لم تكن طاغية، تصحبها ملاحظات عدم الرضى والنقد والحزن العميق أو السخرية. وفي ما يلي مقطع من قصيدة "سويني اريكت": "إن الظل المطول لرجل ما هو التاريخ، "قال ايميرسون" الذي لم ير الصورة الظلية لسويني تنتشر تحت الشمس". انه مثال مثالي لمنحى اليوت السلبي تجاه زمن الساعة. وحسن الحال الجسمانية في "سويني منتشراً تحت الشمس" يقتصر على الحال الجسمانية، الى درجة ان أي مفاهيم مترفعة للتاريخ يشير اليها ايميرسون في ما يتعلق بالانسان هي حتماً معزولة عن هذا البعد. يقدم اليوت هذه الصفة الجسمانية لزمن الساعة بتوجه أقوى من مجرد عدم الرضى. وعلى سبيل المثال نورد صورة السيدات في العالم الاجتماعي لدى بروفروك: "ولقد سبق ان عرفت الأذرع، عرفتها جميعها. الأذرع المحلاة بالأساور وهي بيض وعارية". بذلك نجده يثير شعوراً من الواقعية المرعبة، تتخطى أي اشارة موضوعية الى الصورة، وتبدو قادرة على منح اليوت جميع الذرائع اللازمة ليقول: "وبعدئذ كيف أبدأ... لبصق جميع نهايات نهاراتي وطرقي؟".ان سبب تلك النظرة المتعالية هو الطبيعة المحدودة لزمن الساعة، لأنه ليس بين صفاته الرئيسية ما يشير الى أي مطامح ذات طبيعة أرقى. وإضافة الى طبيعتها الفيزيائية الرئيسية، يبدو ان المواصفات الأخرى لزمن الساعة، كما يراها اليوت، تحافظ على منزلتها باعتبارها منتمية الى هذا البعد الأدنى للوجود. وعلى سبيل المثال فإن زمن الساعة واقعي الى حد أنه يكاد ان يكون مجسماً. وحتى من المقترح انه يمكن كيله ب"ملعقة القهوة" عندما يقول بروفروك: "فكلت حياتي بملاعق القهوة". ان زمن الساعة محدود أيضاً، فهو ينتمي الى عالم حيث للأشياء نهايات مرتقبة وحيث مثل قول بروفروك "شخت... شخت"، يبدو ثقيلاً لأن التقدم في السن يعني في تلك الحال الاقتراب من نقطة اللاعودة، وهي نهاية زمن الساعة، باعتبار ان لا شيء يقع خلف تلك النقطة. ويتعامل زمن الساعة مع المسائل التافهة أيضاً، مما يثير لدى بروفروك مشاعر القلق المباشرة التالية: "سأرتدي بنطالي وأسفله ملفوف". أو: "هل أفرق شعري من الخلف؟ هل اجرؤ على أكل دراقة؟ سأرتدي بنطالاً أبيض من الصوف الناعم وأتنزه على الشاطئ". وتستحوذ الحياة الاجتماعية على زمن الساعة. لكن الاشارات الى هذا النوع من الحياة - "العيون التي تجمدك في عبارة مشكلة" - لا تقترح أي شيء مغر في طبيعة حياة اليوت اليومية. وباعتبار قدرة اليوت على الادراك، فإن ذلك يتيح له الاستمتاع بمثل هذا العالم. ويمكن تفسير انعدام الاغراء هذا باعتباره رفضاً واعياً فقط. وتنعكس هذه القدرة على الادراك في مثل الأبيات التالية: "في الغرفة النسوة يجئن ويذهبن متحدثات عن مايكل انجلو". تلك الابيات تنجح في نقل الجو الرقيق لعالم كهذا، وهو جو يبدو خالطاً الحي بالميت، ومع هذا يفشل في الاستحواذ على اهتمام اليوت أو انهماكه: "هل هو العطر المنبعث من فستان ما يجعلني استطرد الى هذا الحد؟". ويكرر اليوت الاشارة الى الزمن في "أغنية حب ج . الفريد بروفروك" على النحو التالي: "وحقاً سيكون هناك زمن للدخان الأصفر الذي ينزلق على طول الشارع... سيكون هناك زمن، سيكون هناك زمن لاعداد وجه يذيب الوجوه التي تلقاها... سيكون هناك زمن للقتل والخلق وزمن... وحقاً سيكون هناك زمن "للتأمل في: هل اجرؤ؟ و: هل اجرؤ؟" وبذلك يبدو اليوت يراكم لتحقيق رغبته في الهروب بقوله: "حان وقت الرجوع وهبوط السلم". انه يرغب في الهروب من الجو الخانق لهذا الوجه الاجتماعي لزمن الساعة. وإضافة الى اهتمام زمن الساعة بالتوافه فانه بُعد خال من المسائل الكبرى، كما يرد بوضوح في البيت التالي: "كلا، لست الأمير هاملت ولم يكن من المقصود ان أكونه". وحيث الفرد في أحسن أحواله سيعتبر نفسه أي شيء من "اداة سهلة" الى "الأحمق" كما تظهر الأبيات التالية: "انني مرافق لِ لورد. شخص يعمل على تضخيم نجاح وبدء مشهد أو مشهدين. ان اسداء النصيحة للأمير اداة سهلة بلا شك. احترم رغبات الآخرين وسعيد بأن أكون مفيداً سياسياً وحذراً وشديد التدقيق بليغاً ولكن مع قليل من البلادة وأحياناً ان لم أكن سخيفاً حقاً فأنا أحمق تقريباً في احيان اخرى". مثل ذلك البعد ليس المناخ الأفضل لاليوت الذي كان "المهاجر الأكثر جدية" والذي قرر في قمة حضارة مادية بناء حياته المهنية على مجرد "اجراء التجارب بالكلمات". والجو العام لزمن الساعة غير مريح، تستحوذ عليه: "ليال قلقة في فنادق رخيصة لليلة واحدة ومطاعم تغطي ارضياتها النشارة وأصداف المحار". لذلك يشيع جو من الجمال المفقود. ثم يفرض الجمال ذاته كما في الأبيات التي تخون بعض الوخز الرومانسي: "سمعت حوريات البحر يغنين، واحدة لواحدة". لكنه يرفض ذلك فوراً مرة أخرى: "لا اعتقد انهن سيغنين لي" بذلك يؤكد الفهم الجلي بان الجمال لا ينتمي لعالم زمن الساعة. ذلك المنحى والجو العام لزمن الساعة يحافظ عليهما بشكل أرقى نسبياً في "الرباعيات". ومع نضوج شعر اليوت جاء الزمن الذي يكال بملاعق القهوة في رباعية "دراي سالفيجيز" الانقاذات الجافة على النحو التالي: "... انه الزمن تحصيه نساء قلقات واعيات يستلقين يقظات، يحسبن المستقبل يحاولن فك الحياكة والتفريغ والكشف وتركيب الماضي مع المستقبل". وتطور عالم بروفروك أيضاً الى قطار الانفاق في لندن والغارات الجوية والمصرفيين ورجال الأعمال والأدباء المرموقين! ان هذا العالم لزمن الساعة المجرد من اي آثار للمعنى الذي يبحث عنه اليوت، موجود في "الرباعيات"، ويوصف على أفضل وجه في المقطع التالي من "بيرنت نورتون": "ليست هناك وفرة وانما مجرد رفة فوق الزمن المشتت - وجوه جرى التخلص منها، تتلهى عن الالتهاء بالالتهاء، مليئة بالتخيلات وفارغة من المعنى. لا مبالاة منتفخة بلا تركيز رجال ونتف من الورق في دوار من الريح الباردة، تهب قبل الزمن وبعده، ريح تدخل وتخرج من رئات غير سليمة زمن قبل وزمن بعد. جشاء ارواح غير صحيحة في الهواء المتلاشي، والبلادة. تسوقها الريح التي تكنس تلال لندن الكئيبة هامستيد وكليركينويل، كامبدين وباتني هايغيت وبريمروز ولودغيت. ليست هنا ليس الظلام هنا في هذا العالم الذي يكبت ضحكة". مرةأخرى يعبر عن زمن الساعة في "الرباعيات" باعتباره بعداً واعياً لمرور الزمن. لكن، فيما هذا الوعي يشوبه الخوف في عالم بروفروك: "شخت... شخت" تقدم هذا الوعي في "الرباعيات" ليصبح بحثاً كما يشرحه اليوت بقوله: "ينقب فضول الرجال في الماضي والمستقبل / ويتمسك بذلك البعد". وعلى رغم سطحية مثل هذا البحث، الذي لا يحفزه سوى الفضول فإنه يشكل تقدماً، بمعنى انه يعكس وعياً، ليس بالحاضر فقط وانما بالماضي والمستقبل أيضاً. وهكذا حدث في "سويني اريكت" ان تقدم سويني شبيه الحيوان، وهو مثال تقليدي لرجل زمن الساعة، ليصبح رجلاً واعياً بوجود شيء يتجاوز تجاربه المباشرة، فيما لا يزال ممنوعاً بمحدوديات جسمه. هكذا فإن رجل زمن الساعة في أسوأ أحواله هو "سويني" الذي كثيراً ما يوحي وصفه بمقدار كبير من الخيار المتوافر لديه للازدهار في ذلك البعد. وعادة يكون الانسان في زمن الساعة هو الانسان الاجتماعي العالمي الذي تقتصر حياته على تجاربه المباشرة والذي لا يعي أي معنى بعيداً منها. يحاول الرجل هناك الهرب من هذه التجربة المحدودة بأن يصبح: "متلهياً عن الالهاء بالالهاء". يمكن الاحساس بوجود اليوت بجلال في بعد زمن الساعة، غالباً عبر تماثلات ظرفية مع السيد جي. ايه. بروفروك، وأكثر عبر الوجود المهيب لعين ملاحظة وناقدة وغير راضية، ترفض هذا وتعبر عن حزن عميق في آفاقها المحدودة. بكلمات أخرى، لا يعالج اليوت الموضوع بجلاء ولكن فيما يغطس بروفروك في عالم الصالونات هذا يمكن للمرء ان يشعر بأن اليوت واع لشيء مفقود، واع لعظمة ذلك المفقود وحتى ربما "خائف" من ذلك المطمح. * شاعرة فلسطينية - لبنانية مقيمة في واشنطن، والنص من كتابها عن اليوت الذي يصدر قريباًِ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، كتب بالانكليزية ونقله الى العربية فريد الخطيب ورياض القاسم.