كنا قد وقعنا ففي الحلقة السابقة عند قصيدة عبد الصبور التي بدأها بحديثه عن معاناته مع الليل الذي (ينفضه بلا ضمير) الليل في القصيدة بلا شك ليس ليلاً شاعرياً ولا ليلاً يتناجى فيه العشاق في غمرة أحزانهم أو يسلون أنفسهم عن النوى. أنه ليل تبدأ فيه رحلة صاحبنا وتبدأ فيه أحداث القصيدة فهي ليلة ترمز إلى القدر وإلى النهاية تتجلى صورة المعاناة أكثر في هذه الأبيات : فحين يقبل المساء، تقفر الطريق.. والظلام محنة الغريب.. يهب ثلة الرفاق، فض مجلس السمر (إلى اللقاء) وافترقنا نلتقي مساء غدً الرخ مات فاحترس الشاه مات ! لم ينجه التدبير، إني لاعب خطير إلى اللقاء وافترقنا نلتقي مساء غدً أعود يا صديقي لمنزلي الصغير وفي فراشي الظنون، لم تدع جفني ينام مازال في عرض الطريق تائهون يظلمون ثلاثة أصواتهم تنداح في دوامة السكون كأنهم يبكون الليل هنا رمز الضياع، والضحكات القصيرة هذه التمتمات لن تدوم طويلاً الأجدر أن ننظر إلى جوهر الحياة وأن تستفهم عن مغزى وجودنا . في هذا الجزء من القصيدة يعرض المتحدث صورتين ترمزان إلى الصراع بين الحياة والموت وهو صراع سوف يحسمه الموت في نهاية المطاف عبر لعبة الشطرنج عندما يموت ملك الشطرنج في نهاية اللعبة وبين الضحكات القاتلة والعابرة. أما في الجزء الثاني من القصيدة فنعيش صورة الدمار والإبادة عندما يفتك طائر جارح بعصفورين صغيرين. هذه الصور التراجيدية وغيرها مبعثرة في ثنايا القصيدة من أجل توصيل رسالة متعلقة بالوجود. بعد هاتين الصورتين المأساويتين يكشف المتحدث عن حزنه العميق بطريقة اكثر وضوحاً من خلال صورة مباشرة وذاتية في الجزء الثالث (نزهة الجبل) من القصيدة المنولوجية: الطارق المجهول يا صديقي ملثم شرير عيناه خنجران مسقيان بالسموم والوجه من تحت اللثام وجه بوم لكن صوته الأجش يشدخ المساء إلى المصير والمصير هوة تروع الظنون وفي لقائنا الأخير يا صديقي، وعدتني بنزهة على الجبل أريد أن أعيش كي أشم نفحة الجبل لكن هذا الشرير فوق بابي الصغير قد مد من أكتافه الغلاط جذع نخلة عقيم وموعدي الصغير، والمصير هوة تروع الظنون يبدو أن الجبل هنا رمز للخلاص والنزهة إليه طريق للخلاص من الطارق الشرير الذي يمنعه من الخروج من الباب. ما يتوقعه المتحدث ليس نزهه إلى الجبل بل مصير غامض يتمثل في هوة تروع الظنون بعد أن خاض تجارب الطريق المحطم والليلة المروعة ولعبة الشطرنج والنهاية المأساوية للعصفورين الصغيرين يواجه المتحدث فيئا أدهى وأمر يزيد آلامه ويجعله وحيداً طريداً ألا وهو ذلك المصير المجهول في الجزء الرابع (السندباد) يشبه نفسه بالسندباد الذي عاد لتوه إلى موطنه فارغ اليدين بعد رحلة شاقة وطويلة السندباد لم يحقق أية إنجازات وكذا متحدثنا الذي استسلم للقدر. لكنه مع ذلك يذكر صديقته في الجزء الخامس (إلى الأبد) بلعبة الشطرنج وبنزهة الجبل: صديقتي عمي صباحاً هل ذكرت نزهة الجبل ؟ كانت النزهة إلى الجبل الهدف الرئيس الذي لم ينجزه بطل القصيدة، وهو الشيء الذي سوف يبقى عالقاً في الذاكرة إلى الأبد، وعندما ينغمس في مشاغل الحياة، وفي غمرة أحداثها يعود إليه الفشل في إنجاز هدفه في أشكال أخرى كي يثبطه وينهك عزيمته. في الأبيات التالية محاولة للنسيان : وبعد غد وبعد غد سنلتقي إلى الأبد أما قصيدة (أنشودة الحب لجي الفرد بروفروك) لتي اس اليوت فهي من أروع ما كتب، فالقصيدة محاولة لبناء أنموذج من المعاني من خلال التقابل المباشر للصور. ومع ذلك يمكننا أن نستوعب القصيدة إذا نظرنا إليها كبناء واحد وتتبعنا أصداء الصور المبعثرة في ثنايا القصيدة فالمتحدث غير محدد الزمان والمكان لكنه يدعو المستمع إلى رحلة مسائية : دعنا نذهب إذن، أنا وأنت في شوارع نصف صحراوية معينة المتحدث في قصيدة عبد الصبور أيضا يدعو مستمعه إلى رحلة مماثلة تبدأ في المساء (وعندما يأتي المساء) وفي (طريق مقفرة) بعد هذا التشابة المثير بين بداية القصيدتين بدأ كل شاعر يستخدم أسلوبه الخاص به في التصوير. بروفروك في قصيدة اليوت يستمر في رحلته المسائية رغم شكوكه حول ما يقوله الناس القابعون في (الغرفة) بينما يعود المتحدث العربي إلى البيت حاملاً ظنونه معه. ينظر بروفروك (المتحدث الإنجليزي) إلى العالم جدل ممل حول نية شريرة فالمثقفون يذهبون ويأتون يتحدثون بشكل سطحي عن مواضيع مهمة وخطيرة. إنهم مهتمون أكثر بشعر بروفروك المتساقط وبملابسه وهندامه، فهذا هو أقصى ما يصلون إليه زاعمين أنهم مثقفون ومطلعون لكن أحاديثهم لا تتجاوز السطح. أما في (رحلة في الليل ) فالناس يتحدثون عن مواضيع سخيفة وسطحية إنهم يضحكون ولكنهم لا يناقشون أموراً جوهرية. أما بروفروك فاهتماماته اعمق من ذلك ولا يبحث عن رغبة زائلة أو متعة فانية: لو أن أحداً وضع وسادة إلى رأسها حتما سأقول : ليس هذا مما أعني أبداً يسيطر على فكر بروفروك سؤال واحد لم يكشف عنه في القصيدة وبالتالي لا نعرف جوابه، لذلك فهو ليس متأكداً عما إذا كان بمقدوره أن يمضي في قضيته الأساسية ويطرحها لكن تردده وخوفه من أن يساء فهمه أو تفسر نيته بالخطأ جعلاه يفضل الصمت على الحديث هذه الحالة جعلت متحدثنا الإنجليزي يصل إلى مرحلة من اليأس والضياع يفقد فيها الثقة بكل شيء حوله: (لا أظُن حوريات البحر سوف يغنين من أجلي) لا يوجد عند المتحدث العربي الذي لا نعرف اسمه سؤال مكشوف لكنه حتما يحمل في رأسه سؤالا ضمنياً ورغبة لم تتحقق، بالنسبة له فهي رغبة أساسية تهم جميع البشر . من خلال القراءة في قصيدتين يتضح الاستخدام المشترك لكثير من المفردات لدرجة التوافق حتى في عدد استخدام المفردة الواحدة. فعلى سبيل المثال استخدم اليوت كلمة (وسادة) مرتين في الصورة التي تعبر عن رفض بروفروك للجنس، وبالمثل استخدم عبد الصبور نفس المفردة في الصورة التي تعبر عن عودة السندباد: في آخر المساء، يمتلى الوساد بالورق وفي نفس السياق استخدم عبد الصبور نفس الصورة التي استخدمها اليوت باختلاف بسيط: ويلتوي الدخان أخطبوط، في آخر المساء عاد السندباد، أما اليوت فيقول: ذهبت في الغسق (المساء) في الشوارع الضيقة شاهدت الدخان يخرج من الغلايين هذه بعض من أصداء اليوت في القصيدة العربية وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك سوف نجد صوراً وتأثيرات أخرى في قصائد عبد الصبور. على سبيل المثال: الصورة التي استخدمها عبد الصبور وفي وصف لعبة الشطرنج تتوافق مع تلك التي استخدمها اليوت في قصيدته (الأرض اليباب) حيث ترمز لعبة الشطرنج في كلا القصيدتين إلى الصراع بين الحياة والموت. بشكل عام فكلا المتحدثين في القصيدتين لديهما هدف لم يتمكنا من تحقيقه لكنهما سعيا لذلك واصطدما بواقع الناس وبتجاربهم حتى مع الطبيعة والحيوانات. فالرحلة في كلا القصيدتين انتهت دون تحقيق أي هدف فلا سؤال المتحدث الإنجليزي حصل على إجابة ولا رغبة الخلاص تحققت عند المتحدث العربي، فظهرا خائفين ومترددين لكنهما عميقان فقد قابلا أشخاصا سطحيين وعاشا حيرة متشابهة، إلا أن كل واحد منهما كان له ردة فعله الخاصة به للأحداث التي مر بها. من الواضح أن المنولوجيين يشتركان في أشياء كثيرة كما رأينا، فهناك تشابه في الشكل وفي الصور وفي الأفكار فإذا أردنا البرهنة على مظاهر التأثير في القصيدتين فمن الأفضل علينا أن ننظر إليهما في سياق تأثيرات اليوت على الشعراء العرب والمعاصرين بما فيهم صلاح عبد الصبور يقول غالي شكري: عبد الصبور هو واحد من الشعراء العرب المعاصرين الذين قرأوا لإليوت وتأثروا به . يجب أن نعلم أخيراً أن جمال قصيدة عبد الصبور لا يعتمد أساساً على تأثره باليوت بل على تميز الشاعر العربي وقدرته الرائعة في التصوير وتوظيف تأثره بشعراء غير عرب . المراجع : البازعي، "مرثيات من خلال الثقافة: قراءة مقارنة لأبوريشة وأودين" (نص انجليزي) اليوت، تي اس "بروفورك وتأملات أخرى" نيويورك 1917 جبرا، إبراهيم جبرا . الحرية والطوفان بيروت : دار مجلة الشعر 1960 . سنفيلدا، الآن. المنولوج الدرامي (إنجليزي) لندن: ميثون للنشر 1977 . شكري، غالي . شعرنا الحديث على أين . بيروت : دار الآفاق الجديدة 1979 . عبد الصبور، صلاح . الناس في بلادي. القاهرة : دار الأدب 1957 . لا نجبوم، روبرت. شعر التجربة (إنجليزي) نيويورك: هارموندزورث 1974 . موسوعة نورتون الأدبية. الطبعة السادسة 1993 .