الكاتب: عبدالإله بلقزيز الكتاب: نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2000 في هذا الكتاب الذي يعد امتداداً لكتابة سابقة بدأها بلقزيز في كتابه "في البدء كانت الثقافة الدار البيضاء، 1998" يكمل المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز تقليداً "مغاربياً" في نقد المثقف كان عبدالله العروي باشره مع بداية عقد السبعينات من القرن المنصرم في كتابه "أمة المثقفين العرب 1973. حينذاك تساءل العروي في خاتمة كتابه: هل النخبة المثقفة التي يكونها حلم البورجوازية الصغيرة قادرة على تجاوز مصالحها وأفقها الخاص ومصالح وأفق الطبقة التي كونتها لكي تتطلع الى مجتمع اكثر عصرية وأكثر تطوراً؟ من وجهة نظر العروي إن التساؤل يظل مشروطاً، بمعنى ان علينا ان لا نتسرع في الاجابة على رغم ايماننا بالدور الكبير للنخبة. وفي هذا السياق راح العروي يبني آمالاً على المثقف الثوري الذي لا يظهر إلا من طريق التأثير الخارجي، وهو من شأنه ان يبدل شعوراً قومياً أعمى بشعور واعٍ بحقائق العصر، وهذا لن يتأتى له كما يرى العروي الا بانفصاله التام عن الرومانطيقيات والطوباويات التي تتكاثر في اروقة الدولة القومية الآخذة في التبرجز. ولكن كيف السبيل الى ذلك؟ يجيب العروي بالتزامه الفكر التاريخي ضامناً عدم وقوعه في اليوتوبيا! لم يشفع للمثقف الثوري الراديكالي التزامه بالفكر التاريخي، فهو اندفع الى تخوم اليوتوبيا، وبدأ ينوس بين تخوم الايديولوجيا وتخوم اليوتوبيا حارساً تخوم الايديولوجيا ليصبح حارساً وشرطياً للأفكار، وتخوم اليوتوبيا ليمارس مزيداً من الهروب الى الامام كما بين الجابري في تشخيصه عيوب الخطاب العربي المعاصر. وفي هذا السياق، سياق التجاذبات، شهدت العقود المنصرمة من القرن العشرين الثمانينات والتسعينات مقاربات منهجية عدة تبحث في وظيفة المثقف وقدرته على قول كلمة حق في وجه السلطة ادوارد سعيد في "صور المثقف، 1996" او تشكك في في جدواه ما جدوى ان يكون المرء مثقفاً؟ وفي هذا السياق جاء كتاب المفكر اللبناني علي حرب "اوهام النخبة او نقد المثقف، 1997" ليطلق رصاصة الرحمة على المثقف التقدمي الذي بنى عليه العروي آمالاً عريضة في عقلنة شاملة تشمل التاريخ والمجتمع، الماضي والحاضر. وفي هذا السياق ايضاً يأتي كتاب "نهاية الداعية" لمؤلفه الباحث عبدالإله بلقزيز. وكما أسلفت، فإن بلقزيز يكمل تقليداً "مغاربياً" في هذا المجال، ولكنه يذهب الى ابعد من ذلك، على رغم ايمانه بالدور الكبير الذي يمكن ان يلعبه المثقفون العرب في نقد السلطة وفي نقد التخلف الاجتماعي والأهم في نقد ذاتي يشمل اوهام المثقفين وأساطيرهم ومقدساتهم. منذ البداية يؤكد بلقزيز على ان كتابه لا يمثل هجوماً على المثقف كما قد يظن، بل هو دفاع عنه ضد ما يسميه بالداعية، او بقايا الداعية فيه والتي تمثل بقايا "ثوروية" رومانطيقية بنى عليها العروي آمالاً ومارسها المثقفون الراديكاليون بعنف في إطار سعيهم الى تغيير الواقع. يقول بلقزيز: "ان للداعية ان يصمت، وان ينسحب من المشهد بهدوء، كي يفسح فرصة للمثقف الباحث كي يزوِّد ثقافته بمساهمة هي في عوز اليها، لم تعد المرحلة تتحمله، او تتحمل ثرثرته الببغاوية ومهاتراته الكلامية. فالدعاة ادعياء بلا زيادة او نقصان" وفي بحثه عن المثقف الباحث الحقيقي، الذي يقع على الضد من المثقف الثوروي الببغاوي الذي انتهى دوره، والذي كثيراً ما يحاط بهالة ميثولوجية في بعض الدراسات الحديثة، لا يعثر عليه، من هنا نفسر جلده للمثقف والدعوة الى إحراق ما تبقى فيه من جانب ثوروي دعوي، وذلك على أمل بعث المثقف الحقيقي من رماده من جديد. وفي رأيي ان بلقزيز وفي إطار هجومه على "بقايا الداعية" في داخل المثقف الباحث، يقوم بجلد المثقف وتمديده على سرير التحليل النفسي، ليكشف لنا اصابته بأمراض لا شفاء ولا براء منها. فالمثقف العربي وعبر تحليلات بلقزيز يظهر مصاباً بالسادية والمازوخية والنرجسية و"الفوبياء" الثقافية، وهو بذلك يكمل تقليداً جارفاً عند هواة التحليل النفسي، وأشير هنا خصوصاً، الى اعمال جورج طرابيشي الذي قام بتقطيع المثقف العربي على سرير بروكست للتحليل النفسي وأشير الى كتابه "المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي، 1991". ومن وجهة نظر بلقزيز ان إحالة المثقف الى غرفة العناية النفسية المشددة إن جاز التعبير، يندرج في إطار الحاجة الى إعادة كتابة تاريخ المثقفين العرب، خصوصاً وان المجتمع العربي دفع ثمناً غالياً نتيجة ركضه وراء المثقفين. من هنا الأهمية الكبيرة لهذا الكتاب الذي يهدف الى تعرية اوهام المثقف. يمضي بلقزيز في نقده الصارم للكثير من الأخطاء الكبرى التي ارتكبها المثقفون العرب. يتوقف عن اشتباكاتهم الايديولوجية التي غيَّبت الاشتباك المعرفي مع الواقع وحالت دونه. عند حروبهم الاهلية الفكرية على حد تعبيره والتي تظهر كعنوان للانسداد الثقافي ولعصر المحنة حيث تحول المثقفون الى "ميليشيات فكرية" و"كتائب فكرية" مسكونة بهاجس إبادة الآخر ونفيه. ومن وجهة نظر بلقزيز إن الجدل الصاخب، اليوم، بين دعاة الاصالة ودعاة الحداثة، هو العنوان الأبرز لهذه الحرب الاهلية الفكرية الطاحنة التي تمزق الوعي العربي المعاصر. في هذا السياق الذي ينطوي على جلد صارم للمثقف والذي يتماهى فيه بلقزيز مع اطروحة علي حرب عن "اوهام النخبة" يتساءل بلقزيز تساؤلاً مضاعفاً: هل انتهى دور المثقف؟ وماذا تبقى من دور للمثقف؟ وفي رأيي، إن بلقزيز الذي يردد صدى التساؤل المطروح في الغرب عن جدوى المثقف في عصر البلاغة الالكترونية كما يطرح المثقف الفرنسي ريجيس دوبريه، لا يذهب مذهب اولئك المشككين بجدوى المثقف لكنه يشاركهم الدعوة الى عودة المثقف الى حجره. فعلى رغم ايمانه بأن دور المثقفين ما زال مطلوباً، الا ان المطلوب من وجهة نظره هو إعادة تأسيس معنى جديد للالتزام، بأن يكف المثقف عن تضخيم دوره التاريخي، وان ينحي جانباً اوهامه المثالية، اذ بات من المفروض على المثقف ان يكون مثقفاً وحسب، مثقفاً يجتهد في تفسير العالم فقط، فالمطلوب الآن كما يرى بلقزيز وكما يرى محمد عابد الجابري في "تكوين العقل العربي" هو تفسير العالم. يقول بلقزيز في خاتمة كتابه: "إن مهمة المثقفين اليوم ليست تغيير العالم، بل فقط - وفقط - تفسيره؟" ان يكتفي المثقف بتفسير العالم، هذا يعني، انه يحمي نفسه من البلل وان وظيفته هي قياس درجة حرارة المياه على الشاطئ كما يعلق ادوارد سعيد بسخرية. وفي رأيي ان هذا ما يتعارض ودور المثقف الذي يتحدد بادلائه لدلوه في الشأن العمومي. واذا ما اخدنا في الاعتبار ان المدينة العربية تحترق بنيران الجهل والفقر والاستبداد فهل ستنحصر مهمة المثقف في تفسير العالم فقط، لا أظن ذلك؟!