يبدو أن شح المياه وعدم هطول كميات كافية منها، العام الماضي في الأردن، حتم عليه البحث عن مصادر بديلة، على رغم النجدة السورية التي حدثت، وعلى رغم الاتفاقات مع تل أبيب التي لم تغطِ احتياجات ملحة الى الماء في ذاك العام الذي عطش فيه الأردن، وخصوصاًعاصمته عمان وجوارها. وبما أن بعض مشروعات المياه في المنطقة العربية وغيرها من مشروعات بقيت مجمدة ولا إمكانات تنفيذية وتطبيقية حقيقية لها، إلا - ربما - بمضي عملية التسوية السلمية قدُماً، وبما أن هذه العملية تخضع لهبات ساخنة أو باردة بين مدة وأخرى، ويراوح تحركها، وحتى إنجازاتها بين المد والجزر، فإن دورس العطش، العام الماضي، حفزت المسؤولين الأردنيين على التحرك والبحث عن مصادر بديلة، هذا العام. ومع أن منطقة بلاد الشام شهدت وتشهد الظواهر المناخية نفسها- مع اختلافات بسيطة بين بلد وآخر-، إلا أن وقع الأمر وواقعه كانا الأقسى على الأردن. وإذا كان مشروع "أنابيب السلام" التركي. بخطة الشرقي والغربي، أي ما يمكن توجيهه من مياه عبر الأنابيب نحو العراق وأَقَطار الجزيرة والخليج العربي، أو الى منطقة بلاد الشام بما فيها فلسطينالمحتلة، جُمّد نظراً الى كلفته الباهظة ومحاذيره السياسية والأمنية، خصوصاً أن تدفق المياه سيخضع ل "حسن النيات"!، فمن الصعب أن تُرتهن له المصائر والأعناق والأفواه والأراضي والزراعات والمصانع الخ... ومع أن هذا المشروع الذي بدأت تركيا بالحديث عنه ومحاولة تسويقه منذ منتصف الثمانينات تقريباً، لاقى قبولاً وترحيباً من بعض الشركات الأميركية، وخطوة أيضاً لدى لجنة المياه المنبثقة من اللجان المتعددة الأطراف في عملية التسوية السلمية في المنطقة، فإن الجهات المعنية لم تتعامل جدياً مع المشروع، وبقي ينتظر فرصة في ظروف أفضل، على رغم التعديلات التي لحقت به، أو التغليفات التسويقية الإعلامية التي واكبته. إذاً ما الذي بحث فيه الملك عبدالله الثاني عاهل المملكة الأردنية الهاشمية الجديد والوفد المرافق له مع مضيفيه الأتراك في زيارته لتركيا التي امتدت من 7 الى 9 آذار /مارس الماضي، وبالتحديد بالنسبة الى موضوع المياه؟ سيحون وجيحون إذا كان التسويق الإعلامي الذي واكب مشروع "أنابيب السلام" ركَّز على أن مياهه تركية "خالصة" من المنبع الى المصب من مياه نهري سيحون وجيحون كما يلفظهما العرب، وسيهان وجيهان كما يلفظهما الاتراك، والنهران ينبعان من هضبة الأناضول ويصبان في خليج الإسكندرونة، وأنها - أي المياه - لا تتعلق من قريب أو بعيد بمياه الفرات ودجلة المختلف على حصص الدفق وكميات المياه ونوعيتها بين دولة المنبع: تركيا، ودولتي الجريان والمصب سورية والعراق... إذا كان الأمر كذلك فإنه وُجد بين الباحثين العرب من ذكر وذكَّر بأن للعرب نصيباً في مياه نهري سيحون وجيحون، حيث ذكر الدكتور عباس قاسم في ندوة العلاقات العربية التركية، كما جاء في الكتاب الصادر تحت العنوان نفسه عام 1995 ما يأتي: "إن مقولة الأرض مقابل السلام والتطبيع وحسن الجوار، تجد ترجمتها في الحقيقة بين العرب وتركيا، وليس بين العرب والعدو الصهيوني المغتصب فلسطين، فمعاهدة سيفر عام 1920 التي وقّعها الحلفاء مع السلطنة العثمانية المنهارة، أعطت تركيا أراضي عربية واسعة، هي كيليكيا أحواض نهري سيحون وجيحون، ومنحدرات المياه على سفوح طوروس الجنوبية أي بلاد مرعش وديار بكر...، ثم تخلت فرنسا المنتدبة على سوريا للكماليين في معاهدة أنقرة عام 1921 عن أراضٍ جديدة تشمل عينتاب وكلَّس وأورفا وماردين وجزيرة إبن عمرو، ومن ثم تنازلت فرنسا في عام 1939 لمصطفى كمال عن لواء اسكندرون ومساحته 5465 كلم2، وهو يشكل حوضاً مائياً مهماً تتوسطه بحيرة العمق، وتنتهي إليه ثلاثة أنهار، هي: عِفرين والأسود والعاصي، وقد جرى ترسيم الحدود سياسياً الى الجنوب من خط الحدود الطبيعي وهو مقسم المياه في أعالي طوروس، ونتج من ذلك سيطرة تركيا على أعالي دجلة والفرات في قطاعيهما الجبلي والهضبي، وعلى مجمل أحواض أنهار كيليكيا، ومجمع اسكندرون، بالإضافة الى أعالي أنهار كثيرة، أبرزها: قويق والذهب والساجور وبليخ والخابور. وعلى الرغم من هذا الإندفاع "الجيوبوليتيكي" لتركيا في سهول حلب العُليا والجزيرة، فهي تركز حالياً على الشريانين المتبقيين، وهما دجلة والفرات". ص 221. مياه مانفغات إذاً ما هي المياه الأخرى التي فاوض الوفد الأردني الرسمي مع الرسميين الأتراك لتوصيلها الى الأردن؟ ذكرت المصادر الإعلامية التي واكبت الزيارة والمحادثات وكتبت عنها أن مياه نهر مانفغات هي التي كانت مدار البحث والتسويق ينبع نهر مانفغات من أواسط الهضبة التركية ويصب بالقرب من بلدة مانفغات الى الشرق من مدينة أنطاليا لا أنطاكيا كما جاء في بعض المصادر الإعلامية، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. فما المتداول عن مياه هذا النهر؟ وكيف يمكن أن تصل الى الأردن خصوصاً أنه لا يملك منفذاً أو ميناءً على البحر المتوسط؟ وهل سيتم النقل - إذا ما تم - بالأنابيب أم بالحاويات والبالونات الضخمة التي تجرها وتقطرها السفن المجهزة لهذا الغرض؟ نجيب عن السؤال الأخير بداية ونقول إن أي مشروع لنقل المياه بالأنابيب سيبقى من دون تنفيذ ما دامت التسوية السلمية مجمدة وغير متحققة خصوصاً بين سورية وإسرائيل، لأن خط أنابيب السلام الغربي سيمر حتماً بسورية، ثم أن مشروعاً مماثلاً لنقل المياه من نهر مانفغات - أو مانفكات - بالأنابيب الى الأردن أو إسرائيل أو أراضي السلطة الفلسطينية سيمر حتماً - إذا ما قيض له التنفيذ - بالأراضي السورية أيضاً. اللهم إلا إذا تم الاتفاق على مد خطوط الأنابيب تحت مياه البحر المتوسط، وهذا الأمر مستبعد تماماً، نظراً الى كلفته الباهظة ونظراً الى وجود بدائل أرخص كلفة وأقرب منالاً ومخاطرها أقل وأدنى. وجاء في بعض الوسائل الإعلامية - بينها مجلة "الحرية" الأسبوعية التي صدرت في 19/3/2000 أن إتفاقاً ابرم بين تركياوالأردن أثناء الزيارة المشار اليها سابقاً على: "بيع الأردن 180 مليون متر مكعب في خلال العامين المقبلين ستنقل بواسطة ناقلات الشركة المشتركة التركية - الإسرائيلية". وأضافت المجلة "أن أنقرة اتفقت العام الماضي مع تل أبيب على تمويل إنشاء الميناء في أنطاليا البالغة تجهيزاته 147 مليون دولار، وإقامة شركة مشتركة للنقل البحري". إذاً فالموانئ الإسرائيلية هي التي ستستقبل المياه المستوردة لمصلحة الأردن، ثم تنقل هذه المياه بوسائط أخرى الى الأردن مع ما في ذلك من مخاطر أمنية واقتصادية وسياسية. وكانت إسرائيل فاوضت تركيا قبل سنوات على نقل مياه نهر مانفكات بالذات وبالطريقة المشار اليها سابقاً نفسها أيضاً. وجاء في كتاب "المسألة المائية في السياسة السورية تجاه تركيا" لعبدالعزيز شحادة المنصور الصادر عام 2000، ما يأتي: "نشرت صحيفة جيروساليم بوست في 9/6/1990 عن إبرام إتفاق بين تركيا وإسرائيل لشراء 250 مليون م3 من المياه سنوياً بسعر 25 سنتاً "للمتر المكعب تتولى نقلها في حاويات بلاستيكية ضخمة تسحبها سفن تركية خاصة وشركة Medusa Inc الكندية من إحد الموانئ التركية على البحر المتوسط حيث سيتم مد أنابيب تكلفتها 200 مليون دولار لنقل وضخ المياه من نهر مانوجات - مانفجات أو مانفكات أو مانفغات، حسب اللهجة العربية التي يستعملها الشخص - ، بجنوب تركيا" ص 206. وجاء في كتاب "الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية" لجورج المصري، الصادر عام 1996، ما يأتي عن وسائط نقل المياه بين تركيا وإسرائيل: "ولقد أشارت بعض المصادر الى أن تركيا تزمع تزويد إسرائيل بالمياه عبر صهاريج بلاستيكية ضخمة تنقل عبر البحر المتوسط، وحيث صدرت تأكيدات تركية بأنها وقعَّت بالأحرف الأولى بينها وبين إسرائيل اتفاقية لإمدادها بما يتراوح بين 250-400 مليار م3 من المياه بواسطة شركات خاصة، وسيورد الماء حسب التخطيط الإسرائيلي عن طريق بالونات ضخمة سعة كل منها بين 800 ألف ومليون م3، وهي مصنوعة من البلاستيك حسب تصميم إحدى الشركات الكندية، ويتم جرها من البحر بواسطة سفن إسرائيلية من تركيا الى المنطقة الساحلية في فلسطينالمحتلة، ويتطلب هذا إنشاء أرصفة خاصة في تركيا وإسرائيل لتحميل وتفريغ المياه، وهو ما ستقوم به شركة تاهال الإسرائيلية" ص 116. وذكرت الباحثة الأردنية هيلين بنيان في كتاب "مشكلة المياه في الشرق الأوسط" الجزء الثاني الصادر عام 1994: "وتبقى تقنية نقل المياه بالسفن أو بالأكياس المطاطية عبر البحار أكثر ضماناً للدول المزوِّدة والدول المستقبلة، إذ ليس في هذه الحالة دول ثالثة تمر المياه المنقولة في أراضيها تقصد المشروع بين تركيا وإسرائيل، في حين أن المشروع المتعلق بنقل المياه من تركيا الى الأردن يمر بإسرائيل، كما أن هذه التقنية تمكن من الاستفادة من أكثر من مزود للمياه في آن، إذ يمكن السفن قطر المياه من تركيا أو يوغسلافيا أو غيرها الى دول شرق البحر الأبيض المتوسط، وبهذه التقنية تقل العوائق والمخاوف السياسية من تحكم دول التزويد بدول الاستقبال للمياه" ص76. وذكر الدكتور انطوان حداد: "هناك مفاوضات بين إسرائيل وتركيا في هذا الشأن نقل المياه بواسطة السفن أو الاكياس المطاطية، ونظراً الى قصر المسافة البحرية بين الدولتين، بينت إحدى الدراسات أن كلفة النقل بهذه الوسيلة تبلغ 34 دولاراً للمتر المكعب بين تركيا وإسرائيل، أي أقل 3 مرات من كلفة التحلية، وأكثر قليلاً من كلفة المعالجة" ص 92. الموت عطشاً أو حرباً! فإذا كان سعر المتر المكعب من المياه بين تركيا وإسرائيل وبواسطة التقنيات السابقة يصل الى المبلغ المشار اليه، فكيف ستكون حاله، إذا انتقل الى دولة أخرى لا منافذ لها على البحر المتوسط؟ هذا من ناحية التكلفة المادية البحت إضافة الى أن وصول الكميات المناسبة - وفي الوقت المناسب - سيعتمد "حُسن النيات" التركية والإسرائيلية، كل على حدة. فهل يمكن المجازفة في هذا الأمر، و"الاستجارة من الرمضاء بالنار" خصوصاً أن لذلك، في علم السياسة وواقعها والأمن والاقتصاد، مخاطر عالية جداً؟! من المؤكد أن كل موضوع في الحسبان، لكن مياه نهر مانفغات وغيرها تبقى بديلاً احتياطياً مناسباً على رغم كل المخاطر - هذا إذا ما عادت أزمة الشح وقلة الأمطار ثانية - وربما لا يبقى الأردن وحده في قابل الأيام هو المحتاج الى مياه هذا النهر أو غيره، بحسب المصادر التركية، وقد تنضم اليه أقطار أخرى تقع على البحر الأبيض المتوسط نفسه، وتكون المسافة بينها وبين تركيا أقرب منها الى إسرائيل وغيرها، ما يقلل من التكلفة المقدرة الآن لأسعار الإنشاء والنقل والتحميل والجر وغير ذلك. فهل تُنشِّط مشروعات التسوية السلمية - إذا ما قيض لها الإستمرار - هذا الإتجاه، خصوصاً إذا ما أصبحت المياه - وهي ستصبح حقيقة - "سلعة" نادرة وضرورية لأكثر من بلد" وعليها تعتمد الحياة، في طبيعة الحال، وإلا... فالموت عطشاً أو حربا!!