في خطاب مطلع العام الجديد أشار الرئيس الكوري كيم جونغ ايل الى ضرورة "تبني نمط جديد في التفكير والتخطيط للتنمية الاقتصادية في كوريا الشمالية". وسرعان ما أرفق الرئيس إيل هذه الاشارة بزيارة للصين منتصف كانون الثاني يناير أمضى فيها أربعة أيام في شنغهاي. فالمدينة مهد الاصلاحات الاقتصادية التي بدأتها بكين عام 1979 بتدشين تجربة الموازنة بين الاقتصاد المركزي واقتصاد السوق. ويقول الخبير في شؤون كوريا الشمالية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية هان زينشي "منذ سنين عدة وبكين تعرض ايفاد خبراء في الاصلاحات الاقتصادية الى كوريا الشمالية وأخيراً - في الزيارة الأخيرة - أبدى الرئيس إيل رغبته واستعداده لاستقبال هؤلاء الخبراء". وسبقت الدعوة الى الاصلاحات الاقتصادية جملة تطورات ضربت وبقوة جدار العزلة السياسية والاقتصادية التي احاطت بيونغ يانغ ابان الحرب الباردة. وكانت الأزمة النووية في شبه الجزيرة الكورية عام 1994 أثارت مخاوف كبيرة اقليمياً ودولياً، وأدت الأزمة النووية والقلق من انتشارها الى انعطافة ملحوظة في السياسة الخارجية الأميركية، من سياسة الاحتواء الى المصالحة، تجاه كوريا الشمالية. وفي غضون السنوات 1994 - 2000 عقدت واشنطن وبيونغ يانغ محادثات خرجت باتفاقات لم تغب عنها الحرب الكورية 1950-1953 ومخلفاتها، اذ تجسدت انعطافة واشنطن تجاه بيونغ يانغ باتفاق براين عام 1999 ومطالبها الشرطية بنصها على قيام الولاياتالمتحدة برفع الحظر الاقتصادي والحصار السياسي عن كوريا الشمالية اذا ما توقفت الاخيرة عن انتاج المواد الانشطارية النووية، وتصدير الصواريخ الباليستية الى منطقتي جنوب آسيا والشرق الأوسط. ومثلما بلغت واشنطن مرامها باغلاق المنشآت النووية في كوريا الشمالية، قطفت الأخيرة ثمار الاتفاق وضربت عصفورين بحجر، فجمدت برنامجها النووي، بعد ان ظلت وعلى مدى خمسة عقود تقتطع خبز الشعب لتوفير المال لبناء جيشها الضخم وتعبئة ترسانتها العسكرية بمزيد من الأسلحة الحديثة بما فيها الأسلحة النووية. ونالت المساعدات الاقتصادية من الولاياتالمتحدة وحلفائها، وصارت بيونغ يانغ في المرتبة الأولى باستلامها المساعدات الأميركية والأوروبية واليابانية والكورية الجنوبية في المنطقة. وبالتأكيد، ساعدت المساعدات الاقتصادية، متجنبة الاشارة من قريب أو بعيد الى طبيعة النظام السياسي في بيونغ يانغ على تبني مشروع التنمية الاقتصادية في كوريا الشمالية. فالمساعدات جاءت واقتصاد الأخيرة على شفا الانهيار اذ مات أكثر من مليوني شخص في بضع سنين، وتعطلت البنى التحتية جراء نقص شديد في الوقود والمواد الخام الأولية. وعبّرت اجواء القمة الكورية الأولى عقدت في بيونغ يانغ في حزيران يونيو الماضي عن تطلع كبير الى كسر طوق الأزمة التي دفعت بأكثر من عشرين مليون نسمة الى خط الفقر. وعند خط الفقر، اصطدمت اشتراكية بيونغ يانغ بنهاية النفق المسدود، بعد ان قطعت معظم اشواطه اعتماداً على "الكومينترن"، وبلغت الصدمة أوجهاً بسقوط المعسكر الاشتراكي من انهيار الاتحاد السوفياتي الى انكفاء الصين على اصلاحاتها الاقتصادية ما زاد من عزلة كوريا الشمالية وتفاقم أزمتيها الاقتصادية والسياسية. حتى ان الصين، حليفتها الرئيسية، كان لها الدور الكبير في دفعها الى الموافقة على اخضاع مراكزها النووية للتفتيش الدولي وبالتالي تجميدها. وراحت كوريا الشمالية، أسوة بأختها فيتنام، تقدم التنازلات، فأسدلت الستار على الحرب والاحتلال الياباني، وتخلت عن الشروط التي تشبثت بها منذ عام 1953 لسحب القوات الأميركية من أراضي كوريا الجنوبية، وبدأت وسائل اعلامها المركزية تردد بخجل دعوة الاصلاحات التي اجتاحت دول المنطقة بما فيها الشيوعية. وجاء في افتتاحية مجلة "بيونغ يانغ كايونغ يانغ" الاقتصادية بدعوتها الى التنمية والاصلاح الاقتصادي بدلاً من استراتيجية "العسكرية أولاً". وفسر هذه الدعوة نائب رئيس الوزراء جوتشونغ دوك بقوله ان "أوضاعنا السياسية والعسكرية من القوة بمكان ما يؤهلنا الى اصلاح وتطوير اقتصادنا الوطني". وتناغمت، أن لم يكن استجابت، دعوة بيونا يانغ للاصلاح الاقتصادي مع شروط سيوول التي كسبت المبادرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي بتحاشيها للمسألة النووية في تحسين علاقاتها مع شقيقتها الشمالية من خلال توقيع اتفاق المصالحة وعدم الاعتداء الذي أكد على التبادل الاقتصادي والتجاري طريقاً الى اعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية. واكتسبت نغمة بيونغ يانغ الاصلاحية الجديدة زخماً من التغييرات الاقتصادية والسياسية والأمنية في شرق وجنوب شرقي آسيا خلال النصف الثاني للتسعينات، بدءاً بتطوير العلاقات الصينية - الكورية الجنوبية وارتفاع ميزان التبادل التجاري بينهما بمعدل 40 في المئة خلال السنوات الأخيرة، مروراً بانضمام دول الهندالصينيةوفيتنام الى منظمة شعوب جنوب شرق آسيا آسيان. وشاركت كوريا الشمالية في اجتماع وزراء خارجية الأخيرة العام الماضي. وثمة تطور آخر شهدته المنطقة ودفعت اليه أزمة 1997 المالية هو مشروع بناء أطول سكة حديد في العالم تبدأ بدول جنوب شرق آسيا وتمر بشبه الجزيرة الكورية والصين الى روسيا. وحفزت هذه التطورات تطلعات بيونغ يانغ الجديدة مثلما بعثت حزب "التوحيد القومي" في سيوول. ارتفعت موجات آسيا - الهادئ وطاول مدها الأطلسي، ورددت جنبات البنتاغون دعوات الى تعزيز التحالفات الثنائية مع اليابانوكوريا الجنوبية. وينشط تحالف الجنوب الثلاثي، واشنطن - سيوول - طوكيو، الى استقطاب بيونغ يانغ اقتصادياً، وفي أول حديث هاتفي بين الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جانغ والرئيس الأميركي جورج بوش، قال الأول للثاني: "سياسياً تواصل كوريا الشمالية احكام قبضتها الاشتراكية، لكنها اقتصادياً بدأت تشق طريق الاصلاح والانفتاح" وخصصت "اشراقة الشمس" ضمن سياسة الرئيس داي جانغ للمصالحة الوطنية مبلغ 56 بليون دولار لاعادة بناء البنى التحتية في كوريا الشمالية. ومن جهتها اخذت طوكيو، على غرار واشنطن وسيوول، تظهر رغبة متزايدة بتطوير علاقاتها مع بيونغ. وبيّن مسح عام أجرته وسائل الاعلام أخيراً ان 80 في المئة من اليابانيين يرغبون في تطبيع العلاقات مع كوريا الشمالية. وبعد ثلاث جولات من محادثات التطبيع بين طوكيو وبيونغ يانغ عام 2000 طلعت الصحف اليابانية بأخبار استعداد طوكيو لتقديم الاعتذار ودفع التعويضات 9 بليون دولار الى بيونغ يانغ، كما فعلت مع سيوول عام 1965، جراء احتلالها شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910و1945. وفي موازاة تحالف الجنوب قام تحالف الشمال، بكين - بيونغ يانغ - موسكو، بحثّ كوريا الشمالية الى الانفتاح والاصلاح الاقتصادي، فبينما عرضت بكين خدماتها وخبراتها في تجربة الموازنة بين الاقتصاد المركزي واقتصاد السوق، سعت موسكو بالوساطة بين واشنطن وبيونغ يانغ في استبدال مشروع الصواريخ البعيدة المدى بالاقمار الاصطناعية. ومن هنا، بسبب الآلة العسكرية واعبائها الثقيلة، تبدأ الصعوبات - التحديات بوجه انقاذ وزحزحة اقتصاد كوريا الشمالية قليلاً عن شفير الانهيار بعد ان تعطل معظم مصانعها وما تبقى لم تصل كفاءته الانتاجية 30 في المئة، بما فيها الماء والكهرباء والمواصلات وما سواها من خدمات اجتماعية سلبتها النفقات العسكرية نصيبها. يقول رئيس اركان الجيش الجنرال تشو مايونغ نوك: "لقد بلغت كوريا الشمالية في الايديولوجية والعسكرية مبلغاً ذاب فيهما الحزب والشعب والدولة وفق سياسة - العسكر أولاً -". واثر رحيل مهندس "العسكرية أولاً" كيم ايل سونغ، الزعيم الأوحد للحزب والدولة، عام 1994 صار ثنائي، الايديولوجية - العسكرية، ثالوثاً بدخول الاقتصاد في مركزية بيونغ يانغ، واقتطع - الثالوث - بحذر واحتراس كبيرين، نسبة 2 في المئة من النفقات العسكرية لمصلحة التنمية الاقتصادية. ويشارك العسكر الرئيس كيم ايل في سياسة الانفتاح، ورأس المارشال جوما يونغ روك، رجل الدولة الثاني في بيونغ يانغ، وفد بلاده الى الولاياتالمتحدة في تشرين الأول اكتوبر الماضي، كما رافق الرئيس في زيارته الأخيرة لشنغهاي. وقالت وسائل الاعلام الصينية في وصفها للزيارة: تحول كبير بين زيارتي 1983 و2001، في الأولى، انتقد كيم جونغ ايل، وبشدة، اصلاحات الرئيس دينغ شياو بينغ قائلاً عنها "أكبر خطر يهدد الايديولوجية الاشتراكية"، وفي الثانية اشاد بها - الاصلاحات - واصفاً اياها "الاشتراكية وقوتها الدافعة المحركة". صحيح ان بيونغ يانغ، كما يقول الكتاب والمحللون السياسيون في الغرب، تهدف الى كسب المساعدات الدولية من وراء انفتاحها وهذا ما ردده الرئيس كيم ايل في تعليقه على متطلبات الادارة الأميركية في وقف انتاج الصواريخ البالستية وتصديرها. ولكن "الحاجة أم الاختراع"، وما أصعبها حاجة، في كوريا الشمالية، في غضون اربع سنوات 1994- 1998 بلغ تعداد ضحايا سوء التغذية ونقص الأدوية أكثر من مليوني شخص، وذهبت بيونغ يانغ بعيداً في حاجتها الى الانفتاح بالتخلي عن الشروط التي تشبثت بها منذ عام 1953 لسحب القوات الأميركية من أراضي كوريا الجنوبية، وفي ما يتعلق بامكانات قيام "صين ثانية" تفتقر كوريا الشمالية، فقراً شديداً، الى مقومات الانفتاح السياسي والاقتصادي الذي اعتمدته بكين منذ مطلع الثمانينات، بدءاً بفقرها في الزراعة عمود الاقتصاد الصيني مروراً بالحاجة المزايدة الى مصادر الطاقة والمواد الأولية الى فقدانها الجاليات في الخارج كما هي حال الصين. والى جانب قصور الامكانات الاقتصادية، تتردد بيونغ يانغ باتخاذ اجراءات مهمة تحد من قبضة الدولة على المؤسسات الانتاجية وتخرج بجزء منها الى القطاع الخاص كما فعلت التجربة الصينية بخصخصة نصف مؤسسات القطاع العام خلال الثمانينات. وعلى صعيد العلاقات الدولية تحرص حكومة بيونغ يانغ على وضع خلافاتها الايديولوجية والتاريخية مع دول الشرق والغرب جانباً بدءاً باخضاع مراكزها النووية للتفتيش الدولي مروراً بمعاهدات التفاهم والتعاون مع الولاياتالمتحدة ومحادثات التطبيع مع اليابان الى القمة الكورية ولمّ شمل الكوريين. وفي ضوء هذه التطورات تدرك قضية التغيير والاصلاح في بيونغ يانغ. وبعض غايتها، تشدها تجربة الموازنة في الصين وحاجتها المتزايدة الى انقاذ اقتصادها من الانهيار كما قال وزير خارجية كوريا الجنوبية هونغ سونغ يونغ "في النهاية سوف تضطر كوريا الشمالية الى الانفتاح والاصلاح الاقتصادي فالمعاناة وآلامها عامل أساسي للتغيير والاصلاح". * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.