هدّمت السلطات الاسرائيلية أكثر من ثمانمئة منزل فلسطيني في الضفة وقطاع غزة منذ ان وضع الفلسطينيون امضاءهم على اتفاق اوسلو القاضي بإقامة السلطة الفلسطينية التنفيذية. كان المفروض ان يكون ذلك الاتفاق العبّارة الرئيسية الى السلام بين الفريقين. طبعاً لم تقتصر الاعتداءات الاسرائيلية بحق الفلسطينيين على هدم المنازل، غير ان ذلك الاجراء من أقسى وأظلم ما فعلوه وأبشعه في وجه البشرية عامة. السؤال ماذا فعلت السلطة الفلسطينية تجاه الهدم الاعتباطي للمنازل؟ مَن شاهد عملية الهدم مؤخراً 4 شباط/ فبراير 2001 في غزّة، والذي قامت بعرضه بالتفصيل محطة CNN الأميركية سمع من دون شك ما قاله المشردون اصحاب المنازل الستة التي قوضتها الجرّافات من غياب الأممالمتحدة والسلطة الفلسطينية معاً، وكيف ان السلطة لم تقم بواجب اعانتهم او التخفيف من وطأة التشريد عليهم. وهذا الإهمال يذكّرنا بحال أخرى من التقاعس الرسمي، كغياب الحكومة اللبنانية منذ الستينات وفشلها في أن تقوم بدورها بحضانة المشردين من المواطنين اللبنانيين على أثر القصف الاسرائيلي او الاحتلال في ذلك الوقت. فالقضية المطروحة هنا لا تقتصر على سلطة فلسطينية او عربية واحدة، بل تتعداها الى مسألة دور حكومات المواجهة العربية كافة. قد يشتم القارئ من هذا التساؤل رائحة الوعظ والإرشاد المعتاد، ونسرع هنا الى طمأنته أننا أبعد ما نكون عن ذلك الحقل الجليل. جلّ ما نبتغيه هو إعمال النظر في ما اذا كانت هناك وسائل للمواجهة نستخلصها من تجارب الصراع العربي الاسرائيلي تؤدي الى نتائج مجدية. هناك اولاً المجابهة العسكرية التي قادتها الحكومات العربية ضد الدولة الاسرائيلية وقد تفوّق السلاح الاسرائيلي في جميعها، ومن الغريب ان تكون الانتصارات العربية الوحيدة التي تمت قد جاءت على أيدي المقاومة الشعبية التي شنتها جماعات صغيرة غير حكومية، كالمقاومة اللبنانية والانتفاضات الفلسطينية في الثمانينات وأوائل التسعينات. فلا يُعرف عن الجيش الاسرائيلي انه تخلّى مرغماً عن أرض عربية كان قد احتلها سوى في لبنان، ابتداء من بيروت الى الحزام المحتل في الجنوب مؤخراً، وجميعها تحت وطأة ضربات المقاومة. كذلك لم نعرف انجازات فلسطينية تمت على الأرض سوى تلك التي جاءت نتيجة صمود الانتفاضة الفلسطينية في الداخل. اما أوسلو فكان ثمرة مقاومة الداخل. ولأسباب مفهومة قامت منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج بعملية التفاوض وإبرام الاتفاق. منظمة التحرير كانت "حكومة" مثلها مثل سائر الحكومات العربية ولم تحقق أي انتصار يُذكر. والواقع ان اهم المجابهات التي قامت بها المنظمة العاملة بامرة السيد عرفات عصفت بوجه فرقاء عرب ولم ينتج عنها سوى الهزيمة السياسية والعسكرية في الأردنولبنان والكويت. لقد حارب الجندي العربي ببسالة وإيمان في وجه تفوّق السلاح الاسرائيلي، فالجيوش العربية لم تنهزم بسبب عدم كفايتها في القتال، بل بسبب فساد الرأي والتقدير الخاطئ عند اصحاب القرار القومي الذين زجّوا بالمحارب العربي في مواقف غير متكافئة وغير موفقة توقيتاً او استراتيجياً. وما حل في فلسطين أشبه ما يكون من سوء التقدير بما حل بالجيش العراقي عندما زجّ به صدام حسين في مواجهة ظالمة وغشماء امام تحالف أقوى قوى العالم فتكاً. فمن أين لذلك الجيش الأبي ان يثبت كفايته وشجاعة محاربيه؟ يبدو ان المهاترة والمكابرة او التراجع الكلي هي الخيارات الوحيدة الواضحة عند اصحاب القرار القومي. ان لكل ظرف حكمة ولكل موقف استراتيجية، ولكن الحكمة لا تنبت على الشجر، ولا بد من جو سياسي يقوم على ممارسة الحرية والبحث والنقاش المفتوح يهدي اصحاب القرار الى الرأي الأنسب. الا انه قل مَن يسمح من الحكومات العربية، بمن فيهم السلطة الفلسطينية، بحرية البحث والنقاش. ان عملية التثقيف لا تنتهي عند الوصول الى الحكم، بل تتضاعف آنذاك اهميتها. عندما اندلعت الانتفاضة الاخيرة وهي الأولى تحت قيادة السيد عرفات، أدخل هذا الأخير عاملاً جديداً لم نعهده في الانتفاضات السابقة على قيام السلطة الفلسطينية. ففي حين كانت المقاومة في السابق تقتصر على إحداث البلبلة في صفوف العدو كرميه بالحجارة، وهي العملية الأضمن قتالياً، نجد ان عناصر من قوى الشرطة شاركت شباب الحجارة في الانتفاضة الأخيرة بإطلاق النار من المواقع ذاتها التي كان يعمل منها شباب الانتفاضة. وقد عرّض ذلك السلاح القاصر الشباب الأعزل لنيران الاسرائيليين المتفوقة، ومن هنا كان عدد ضحايا هذه الانتفاضة أضعاف ما كانت عليه في الانتفاضات السابقة. وحتى هذه الساعة لا أحد يدري ما هي الحكمة من إعطاء الاسرائيليين فرصة سانحة لتحقيق منياهم في قتل الشباب الفلسطيني. والسلطة الفلسطينية لا تسمح ببحث سياستها. عندما قام استاذ فلسطيني من جامعة بيرزيت، بكتابة مقالة ينتقد فيها استراتيجية الجمع بين الحجارة واطلاق النار لم تستطع صحيفة فلسطينية واحدة من نشر مقالته تلك، مما حمل البعض على نشرها بواسطة الانترنت! الخلاصة ان سبب نجاح المقاومة وفشل الحكومات في وجه القوى العسكرية الاسرائيلية يكمن في ان المقاومة عملت بموجب الحكمة المناسبة في الظرف القائم فحرمت الاسرائيليين من التمتع بميزتهم الفائقة وهي القوى العسكرية الضارية فوقعوا في الارتباك وفي النهاية اضطروا الى التراجع. لقد اختارت المقاومة اللبنانية خطواتها الملائمة، أين تضرب وكيف، فلم تسمح للجيش الاسرائيلي ان يعمل كوحدات ضاربة. كان كلما سعى ذلك الجيش للمواجهة اختفت المقاومة من وجهه فلم ير لهم من أثر فظل حائراً لا يعلم أين هو العدو ومتى يراه. وقد كان دأب المقاومة اللبنانية استفراد وحدات اسرائيلية صغيرة والانقضاض عليها. وكذلك استخدمت الانتفاضات السابقة حكمة مناسبة للظرف التي وجد الفلسطينيون فيه أنفسهم تحت الاحتلال، فقاموا بالضغط على العدو بوسائل كان من الصعب عليه مواجهتها: حجارة الأولاد! العوامل التي حققت النتائج المرجوة على أيدي المقاومة اللبنانية والانتفاضات الفلسطينية هي التالية: أولاً، لجأ الفريق الأضعف عسكرياً الى استراتيجية العنف المحدود كي يحرم الفريق الآخر من ميزته. أضف الى ذلك ان اللجوء للعنف المحدود يتيح الفرصة للاستمرار في الصراع لمدى طويل، ومن شأن طول النفس في الصراع إنهاك اعصاب العدو، الفريق المحارب منه والمدنيين، وهو ما حصل فعلاً في صفوف الاسرائيليين. لقد كانت استراتيجية الاسرائيليين هي الضربة السريعة القاضية وقد حرمتهم المقاومة اللبنانية والانتفاضة من الافادة من تلك الميزة. ثانياً، حمل الاحباط والاضطراب الاسرائيليين على ارتكاب الفظائع بالضرب العشوائي أحياناً مما جنّد الرأي العام العالمي ضدهم وفتح صفحتهم للاعلام الدولي الذي فضح موقفهم العدواني. ثالثاً، تراكمت الخسائر في الأرواح بين الأنفار الاسرائيليين مع مرور الزمن، وهذه المسألة هي أشد العوامل وطأة على المجتمع الاسرائيلي. من هنا بدأت الحكومة تخسر المعركة في أوساط المجتمع الاسرائيلي ذاته وحتى بين الجنود المحاربين. وأخيراً لا آخراً، حافظت المقاومة على تدني مستوى العنف وبالتالي الخسائر في الأعداد والعتاد. ولا بد هنا من ملاحظة اخيرة وهي التنويه بالتقدير لموقف الحكومة اللبنانية التي رفضت استراتيجية اسرائيل الساعية لأن تحمّلها مسؤولية المقاومة فتقبلت الخسائر الكبيرة من جراء موقفها العتيد ذاك، وهو ما لم تقبل به حكومات عربية أخرى. ان نجاح المقاومة الشعبية وفشل الحكومات العربية لا يعني ولا يجب ان يعني انه ليس من فائدة ترجى من العمل الحكومي، فالمقصود خلاف ذلك. ان العبرة من الحدث المذكور هو ان نلفت نظر الحكومات الى اهمية استنباط الاستراتيجيات المناسبة وان ذلك لا يمكن التوصل اليه من اجواء الكبت وسلب حريات المواطن وحقه في المشاركة في تسيير الشأن القومي. ونود ان نأخذ مثلاً على ذلك بالعودة الى الموضوع الذي استهلينا به هذه المقالة، وهو استمرار الاعتداءات الاسرائيلية على منازل الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة. وقد تساءلنا في حينه ماذا فعلت السلطة الفلسطينية تجاه تلك المأساة. والمعلوم انها بحكم الغائب. ان أمام السلطة الفلسطينية فرصة ذهبية للمقاومة تساعدها على ان تثبت وجودها وأن تلفت نظر العالم أجمع لهمجية الأساليب الاسرائيلية وذلك بتصدي الشرطة الفلسطينية ووقوفها حائلاً دون تقدم الجرافات الاسرائيلية نحو المنازل المزمع ازالتها. طبعاً قد تؤدي تلك الخطوة الى تبادل النيران بين الاثنين، ولكن الارجح ان يكون ذلك في صالح الفريق العسكري الفلسطيني، لأن المجابهة تحصل بين انفار محدودة العدد. المهم في الأمر انه وإن تفوّق السلاح الاسرائيلي في المجابهة تلك، فإن الحدث بذاته محصور وليس له تبعات قتالية واسعة النطاق، بل سوف يكون له أثراً سياسياً ومعنوياً هائلاً. فمن شأن مثل ذلك الموقف المشرّف ان يرسل انذاراً الى الاسرائيليين ينبههم الى ان السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن الفلسطينيين وليس قوة الاحتلال، ويصبح لا بد للحكومة الاسرائيلية من ان تأخذ ذلك الأمر بالاعتبار وأن تحسب حساب ما يتوقف على القيام بهدم منازل الفلسطينيين. من جهة اخرى، تصوّر الروح التي يبعثها مثل ذلك الموقف بين المواطنين الفلسطينيين، وما ينتج عنه من التفاف حول قوة الشرطة. ان وجود الشرطة سوف يجعل بالامكان ان يحيط المدنيون بالمنزل المزمع إزالته وإحراج الجيش الاسرائيلي الذي سوف يدرك مغبة اطلاق النار على جمع غفير من دون استفزاز، ويدرك ان انظار العالم موجهة صوبه. فإن كان لا بد من استخدام السلاح ففي مثل هذه المسألة المحصورة انما الهامة، وليس في اختلاط الشرطة بالشباب الأعزل واطلاق النار من ذلك الموقع. ان الشرطة الفلسطينية قد عرّضت ولا تزال تعرّض الشباب الفلسطيني للدمار بعملها المتهوّر. ان الخطر كبير في ان تكون هذه الانتفاضة هي الأولى التي تبتلي بالفشل. ان أساليب المقاومة على أنواع، ويبدو ان منظمة التحرير الفلسطينية لم تتعلم شيئاً من تجربة بيروت. لا بد أخيراً من التذكير ان الفلسطينيين إجمالاً بأمسّ الحاجة الى توسيع نطاق تفكيرهم واستنباط أساليب اخرى اضافة الى ما قد درجوا عليه وان لعب اسطوانة الظلم الذي وقعوا فيه والشكوى منها لم تعد تفي بالغرض. كما عليهم ان يعملوا أولاً على اصلاح نظام الحكم الفلسطيني وتحريره من الفساد وقلة الدراية كي يكسبوا احترام ودعم العالم الخارجي لهم كما يرجون. لقد وقع السيد عرفات في فخ حرب ليس هو كفيٌ لها وفي وقت غير مناسب، ولا يستطيع الآن الخروج منها بسهولة، والأمل في ان يصغي لأصحاب الرأي السديد بين المفكرين الفلسطينيين فيحصر نطاق المقاومة في ما هو الأجدى ويتجنب وسائل العنف المتهورة الى ان تسنح الفرصة لأمر منه جدوى. * كاتب لبناني مقيم في الولاياتالمتحدة.